الوحش النائم

صحيح أنّ سوبرمان هو شخصيّة وهميّة، إلا أنّنا نتمنّى ضمنيًّا أن يكون حقيقيًا لكثرة شهامته ومُساعدته للضعفاء والمغبونين. وقد حصَلَ أنّني وجدتُ السوبرمان الخاصّ بي الذي ظهَرَ في حياتي في الوقت المُناسِب، والحمدلله. إليكم قصّتي:

وقعَت الأحداث التي طالَتني منذ سنوات عديدة، حين كنتُ في الثامنة عشرة وأعيشُ وأهلي في قرية بعيدة كلّ البُعد عن أيّة مدينة. أحبَبتُ ذلك المكان وطبيعته وهواءه النقيّ وخاصّة ناسه الطيّبين. لِذا كنتُ أنتظرُ بفارغ الصبر وصول نهاية الأسبوع للذهاب مع أبي إلى البستان ومُساعدته في الأرض والقطاف بينما كان أخوَتي يبقون نيامًا حتى ساعات الظهر. ومع أنّني صبيّة رقيقة، لَم أتأخّر عن القيام بما يفعله الشبان مِن أعمال صعبة تتعلّق بالأرض. كان أبي فخورًا بي وكذلك سائر الناس الذين عرفوني. فإلى جانب حبّي للرزق، كنتُ جميلة وأولى صفّي في المدرسة، الأمر الذي حمَلَ العديد مِن الشبّان على الإهتمام بي. لكنّني كنتُ فتاة رصينة ولا تهمُّني بتاتًا أمور القلب أو الإلتقاء بشاب خفيةً كما تفعل بعض الصبايا عادةً، بل كان هدفي دخول الجامعة في المدينة ودراسة الهندسة الزراعيّة لأُحسّن سبُل زراعتنا في القرية وتحويل المكان إلى جنّة حقيقيّة مُفيدة لأهاليها. هل حقّقتُ حلمي؟ كدتُ أن أفقَدَ ليس فقط ذلك الحلم بل نفسي وربّما حياتي، بسبب شخص إعتبَرَ أنّ الكلّ مُباح له فقط لأنّه أرادَ ذلك. وأبشَع ما في الأمر، هو أنّ مُعظم هؤلاء الناس يتصرّفون عكس ما يدور في رأسهم، لأنّهم يُدركون بشاعة نواياهم ويُحاولون إخفاءها بشتّى الطرق. ولقد كان مُحِسن مِن ذلك الصنف، فلو سألتم عنه أي فرد مِن القرية، سيقول لكم إن مُحسِن إنسان خلوق وخدوم ومؤمِن يخاف الله ويُساعد أخاه. وهو في الحقيقة صاحب قلب أسود كالليل ومكر لا حدود له.

كان مُحسِن يزورُنا باستمرار، فهو كان بسنّ أبي ويعرفُه منذ نعومة أظفاره ولهما مصالح مُشتركة، ولطالما اعتبرتُه بمثابة عمّ أو خال لي. وكيف لي أن أشكّ بنواياه تجاهي؟ فلا شيء في تصرّفاته كان يدلّ على أحلامه البذيئة المتعلقة بي.

 


لَم يتزوّج مُحسِن يومًا وسكَن بيتًا صغيرًا في أعلى التلّ. لَم نعرِف شيئًا عن حياته الشخصيّة ولَم نسأل عن ذلك. ولو فعَلَ أبي، لعلِمَ أنّ صديقه يذهبُ بانتظام إلى المدينة ليُشبع رغباته الدنيئة لدى بائعة هوى معروفة. وذات يوم مِن فصل الشتاء، رحتُ إلى بيت خالتي الذي يقَع في المقلَب الآخر مِن بيتنا، وكان عليّ اجتياز نهر صغير قفزًا على صخور عريضة ذهابًا وايّابًا. كنتُ أحبُّ هذا الدرب المحفوف بالصعوبات بدلاً مِن الطريق العاديّ، لكن في ذلك اليوم بالذات عملَت ضدّي العوامل الطبيعيّة إذ أنّ عاصفة هبَّت فجأةً واشتدَّ المطَر لدى عودتي لدرجة أنّ منسوب النهر زادَ واختفَت تلك الصخور التي عليّ القفز عليها. إحتَرتُ في أمري لأنّ العتمة بدأَت تحلُّ والطريق كان بعيدًا عن حيث أنا. إضافةً إلى ذلك، إبتلَّت ملابسي وحذائي وبدأتُ أرتجفُ مِن البَرد. عندها تذكّرتُ أنّ منزل مُحسِن لَم يكن بعيدًا عنّي، وأستطيع مواصلة طريقي بعد أن أرتاح قليلاً وأُنشّفَ ملابسي عنده. ركضتُ بسرعة لأنّ الخوف انتابَني، إذ أنّ المطَر والرياح صارا يُحدثان أصواتًا مُخيفة وظلالاً مُرعِبة تحت ضوء القمر.

وصلتُ بيت مُحسِن لاهثة وفرِحتُ لرؤية ضوء مِن وراء نوافذه. قرعتُ بقوّة على بابه ففتَحَ لي الرجل مُندهشًا.

أدخلَني مُحسِن وأجلسَني قرب الموقد، ودخَلَ إلى غرفته وجلَبَ لي منشفة وغطاء وحضَّرَ لي كوبًا مِن الشاي الساخن. ثمّ قال:

 

ـ سآخذكِ إلى بيتكِ بعدما ترتاحين قليلاً... هل أحد على علِم بوجودكِ هنا؟

 

ـ أبدًا يا عمّي مُحسِن، كنتُ عند خالتي وغدرَني الوقت، وحين أردتُ العودة، كان الوقت قد تأخَّرَ وهبَّت العاصفة. قرَّرتُ اللجوء إليكَ لأنّ الخوف سكَن قلبي وبيتكَ هو الوحيد في هذه الأنحاء.

 

ـ حسنًا يا صغيرتي... تعالي معي إلى الغرفة لأُعطيكِ شيئًا ترتدينَه ونحن في طريقنا إلى أهلكِ.

 

لَم أحترِس مِن إنسان عرفتُه طوال حياتي فرافقتُه إلى الغرفة مِن دون خوف. لكن فور دخولي إليها، دفعَني مُحسِن بقوّة رهيبة فوقعتُ أرضًا وأسرَعَ هو بإقفال باب الغرفة بالمفتاح. لَم أستوعِب ما حصَلَ ولماذا، وإذ بي أسمَع الرجل يقولُ مِن خلف الباب.

 

ـ لن تُبارحي هذا المكان أبدًا... إصرخي كيفما تشائين، فلَن يسمعُكِ أحدٌ. لا داعٍ لمحاولة الفرار، فهناك قضبان حديديّة على النوافذ. ستكونين لي ولي وحدي.

 

ثمّ سمعتُ صوت قدمَيه وهو يخرجُ مِن البيت، فبدأتُ بالبكاء والصراخ وأتصوّرُ طبعًا ما ينوي فعله بي.

في تلك الأثناء، راحَ مُحسِن إلى بيت أهلي مُدّعيًّا زيارتهم كما يفعلُ عادةً في الأمسيات. لكنّ أهلي لَم يسألوا أنفسهم لِما أتى وسط العاصفة، فهم كانوا مشغولين بالتفتيش عنّي بعدما تأخّرتُ كثيرًا بالعودة. ولكثرة مكر الرجل، بدأ هو الآخر يبحثُ عنّي ويُبدي قلقًا صادقًا لمصيري.

 


مرَّ الوقت ببطء رهيب وأنا محجوزة في غرفة نوم خاطفي، ولَم أتوقّف عن الصراخ والبكاء والتفتيش عن طريقة للهرب، إلا أنّ النافذة الوحيدة في تلك الغرفة كانت بالفعل موصدة بالحديد. الشيء الأكثر قلقًا كان أنّ لا أحدًا سيشكّ بمُحسِن كونه مُقرّبًا منّا، أيّ أنّني لن أفلتَ منه بأيّة طريقة. كان مصيري محتومًا وفكّرتُ بقتل نفسي قبل أن يلمُسني هذا القذر. فما استنتجتُه أيضًا، هو أنّ مُحسِن لن يستطيع احتجازي إلى الأبد أو حتى اطلاق سراحي، فذلك سيعني فضح أمره، لِذا كان لابدّ أن يتخلّص منّي بعد أن يفعل بي ما برأسه. يا إلهي... لَم أتصوّر نهايتي هكذا أبدًا!

لَم يجِدني أبي الذي راحَ برفقة مُحسِن إلى بيت خالتي وسائر البيوت. وقمّة وقاحة خاطفي كانت دعوة أبي لدخول بيته ليرتاح قليلاً، عالمًا تمام العلم أنّ والدي سيرفضُ دعوته ليستمرّ في بحثه عنّي. ويا لَيته قبِلَ أو حتى مرَّ بالقرب مِن المكان، لَسمِعَ صراخي!

كانت أمّي مُنهارة وجاءَت جاراتها لمواساتها وملأ بكاء أخوَتي البيت، فتصوّروني جميعهم ميّتة غرقًا بعد أن سحبَني النهر الهائج. عادَ أبي ومُحسِن إلى البيت مِن دوني، الأمر الذي زاد مِن مُعاناة والدتي. لكن ما مِن أحد شكَّ بأنّ الذي يجلسُ معهم هو بالفعل مَن سبَّبَ لهم حزنهم العميق.

أعلمُ أنّ القارئ مُطمئنّ البال على سلامتي، فأن أروي القصّة يعني أنّني لَم أمُت طبعًا، لكن كيف نجوتُ مِن حَبس مُحسِن وهل استطاع إشباع رغباته معي؟

للحقيقة، الفضل بنجاتي يعودُ إلى البطَل الذي كنتُ أتكلّم عنه في بداية حديثي، وهو شاب لَم أرَه في حياتي أو حتى أسمَع باسمه. هل أرسلَه الله لي لينقذني أم أنّ الصدَف إجتمعَت مِن تلقاء نفسها؟

كان وليد، بطَلي، شابًّا جاء مِن المدينة ليزور لبضع أيّام جدّته المريضة التي تسكنُ في القرية المُجاورة الواقعة على الحدود مع قريَتنا، وقرَّرَ أن يكتشفَ المنطقة مشيًا برفقة كلبه، وعلِق في قلب العاصفة، الأمر الذي حمَلَ كلبه على الهروب لدى سماعه صوت الرعد العنيف. بحثَ وليد عنه تحت المطر الشديد، فأضاعَ طريقه في الظلام وابتعَدَ عن مساره بدون أن يدري. إستغرَبَ وليد سماع صراخ واستغاثة صادرَين مِن بيت معزول فركضَ ليرى ما يحدث. تصوّروا خوفي عندما رأيتُ ظلّ شخص واقف تحت المطر عند شباك الغرفة حيث أنا محجوزة! طمأنَني الرجل ووعدَني بإخراجي بعد أن قلتُ له إنّني اختُطِفتُ مِن قِبَل صاحب المكان. توجَّهَ وليد نحو باب البيت بعد أن أدركَ أنّ لا مجال لإخراجي مِن النافذة، وأخَذَ يركلُ الباب بقوّة حتى تمكّنَ أخيرًا مِن خلعه وركضَ يفعلُ الشيء نفسه بباب الغرفة. إلا أنّ مُحسِن عادَ في اللحظة نفسها. وسمعتُ أصواتًا تتعالى وأصداء عراك دامَ دقائق طويلة. زادَ بكائي إذ خفتُ طبعًا أن يؤذي مُحسِن ذلك الشخص ويتغلّبَ عليه فتتبخَّر فرصة نجاتي، وتمنَّيتُ مُجدّدًا الموت لنفسي.

وحين سمعتُ باب الغرفة يُفتَح بالمفتاح، بدأتُ بالصلاة ومُناجاة ربي ليجعل مُعاناتي القادمة تنتهي بسرعة.

لكنّ الرجل الذي دخَلَ الغرفة لَم يكن مُحسِن بل كان شابًّا غاضبًا ومهمومًا. كانت الدماء تُغطّي عَينَيه وشفتَيه إلا أنّه لَم يشعر بالألَم بل قال لي بصوت قويّ:” لا تخافي يا آنستي، لن يؤذيكِ ذلك الوحش. تعالي معي بسرعة قبل أن يستفيق وأضطرُّ لضربه ثانية."

ركَضنا نحو بيت أهلي، وكانت العاصفة قد خفَّت قليلاً. سمِعنا صوت عواء كلب سرعان ما لحِقَ بنا وانضمَّ إلينا. بعد دقائق، إلتقَينا بأبي وبعض الرجال الذين كانوا قد عاودوا البحث عنّي. عانقَني والدي بقوّة واستعدَّ لضرب وليد ظانًّا أنّه سبَب اختفائي، إلا أنّني أخبرتُه ببضع كلمات ما حصَل حقًّا. ذهبتُ ووليد وكلبه إلى البيت بينما أكمَلَ أبي ورفاقه طريقهم إلى منزل مُحسِن. وعندما عادوا بعد ساعات طويلة، كان الخاطف قد أصبَحَ بعهدة الشرطة.

سُجِنَ مُحسِن وأنا تزوّجتُ مِن وليد بعد أن صارَ يزورُني بانتظام "ليطمئنّ علي"... وبعد أن دخلتُ الجامعة وحصلتُ على شهادتي كما نويتُ أن أفعَل.

صرتُ جدّة اليوم ولا يزال وليد إلى جانبي، ولَم أندمَ ولو لحظة على ربط حياتي به. فمِن النادر أن نلتقي بشخص بهذه الشجاعة والمروءة ويكون إلى جانبنا مَن هو بمثابة سوبرمان حقيقيّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button