الفخ

وقَعتُ ضحيّة أناس بلا شفقة وبلا شرَف في ظلّ زوج بلا شخصيّة، ولم أكن قادرة على مجابهتهم، أوّلاً لأنّني كنتُ يافعة وثانيًا لأنّني كنتُ يتيمة لا يسعني اللجوء إلى أحد. وقَعتُ ضحيّة كلّ هؤلاء، ولا أزال حتى اليوم أدفع مِن حياتي ثمَن الذي حصَلَ لي.

عندما تعرّفتُ إلى وجيه، ظنَنتُ أنّه سيكون سنَدي في الحياة بعدما كبرتُ عند جدّتي بعد موت والدَيَّ. كانت تلك المرأة قاسية لا يعرف قلبها الحب، ولم تغفر لي أبدًا بقائي على قيد الحياة بينما مات ابنها، أي أبي. ولكثرة شرّها مرضَت جدّتي وماتَت هي الأخرى ووجَدتُ نفسي وحيدة في عمر السادسة عشرة. لم يشأ أحد مِن عائلة أبي أو أمّي أخذي لأعيش معهم، ربمّا لأنّه كان مِن المكتوب لي أن ينتهي بي المطاف في بيت وجيه.

كان ذلك الشاب يكبرني بعشر سنوات، وكان يراني وأنا مارّة مِن أمام محلّه ويحلم بالزواج منّي. لم أكن معجبة به ولكن عندما تسنّى لي التكلّم معه، وجدتُه هادئًا ومحبًّا وحنونًا، فبدأ قلبي يدّق له وقلتُ له "نعم" عندما طلَبَ منّي أن أصبَحَ زوجته.

وما شجّعَني على القبول به كان أنّني سأسكن مع أمّه وأخته، وكم كنتُ مشتاقة لوجود عائلة مِن حولي! كان لدَيه أختٌ ثانية، سعاد، وكانت متزوّجة وتعيش على بعد بضع أمتار مِن أهلها ولها ثلاثة أولاد. أحبَبتُ سعاد كثيرًا لأنّها كانت طيّبة ومهذّبة، وشعَرتُ أنّها الأخت التي لم أحظَ بها.

تزوّجنا وكانت حياتي هادئة، ولكنّ حماتي وابنتها العزباء لم تكونا كما توقّعتُهما، وخاصة أنّ وجيه كان معدوم الشخصيّة لا يعرف كيف يُواجه الناس أو يُطالب بحقّه. لِذا كنتُ ألجأ إلى سعاد التي كانت تواسيني كلّما كانت والدتها أو أختها توبّخاني على كلّ صغيرة، أو تعيّراني بأنّني يتيمة ولم يقبل بي أحد مِن عائلتي.

مازن، زوج سعاد كان غليظًا للغاية، وكنتُ أتفاداه كثيرًا لأنّني لاحظتُ نظراته لي السيّئة والمليئة بالرغبة. لم أخبر أحداً بالأمر طبعًا فماذا أقول ولِمَن؟ ليتّهموني بإغراء الصّهر أو لتبعد عنّي سعاد؟ ولكنّ القدر انقلَبَ عليّ عندما ماتَت المسكينة سعاد بعد أن مرضَت فجأة بداء السرطان. ماتَت تاركةً وراءها ثلاثة أطفال... وأنا.

أظنّ أنّني بكيتُها أكثر مِن باقي عائلتها، ولبستُ الأسود لفترة طويلة. وأظنّ أنّ حبّي لسعاد أجَّجَ كره حماتي وأختها لي، فاعتبرتا الأمر وكأنّني أزيد بحزني على حزنهما، أنا الغريبة، أنا الدخيلة.

 


مِن جهّته، كان وجيه لا يزال الغائب الحاضر، لا قرار له ولا رأي، ولم يكن حتى قادرًا على الانجاب. كيف أعلم ذلك مع أنّنا لم نخضع لفحوصات طبيّة؟ مِن الأحداث المؤسفة التي جَرَت لاحقًا.

مِن دون سعاد كانت أصبحَت حياتي مملّة لا بل حزينة، وكنتُ أسأل حماتي دائمًا عن أولادها الذين تعلَّقتُ بهم كثيرًا، واستغرَبتُ أنّ أختها التي عاشَت معنا لم تكن تزور هؤلاء المساكين الذين كانوا حتمًا بحاجة إلى حنان امرأة. صحيح أنّ أباهم كان لا يزال موجودًا، ولكنّه كان أنانيًّا وبخيلاً في ماله وعواطفه.

وفي إحدى المرّات وبعد أن سألتُ عن أولاد سعاد قالَت لي حماتي:

 

ـ بما أنّكِ مهتمّة بهم إلى هذه الدرجة، لماذا لا تزورينهم؟

 

وأكملَت ابنتها:

 

ـ صحيح ذلك... زوريهم يا شاطرة!

 

كيف أقول لهما إنّ مازن يُضايقني بنظراته وحديثه الغليظ مِن دون أن أخلق المتاعب في قلب العائلة؟ لِذا قبِلتُ أن أذهب إلى الأولاد ولكن برفقة أخت زوجي.

أخَذنا للأولاد السكاكر والألعاب، وقضَينا معهم يومًا ممتعًا إلى أن عاد مازن مِن العمل. كان قد تركهم لوحدهم، وعلِمتُ لاحقًا أنّ زوجي كان قد عَرَضَ عليه وضعهم عندنا أثناء النهار ولكنّه رفَضَ قائلاً: "سيعتادون على البقاء لوحدهم مع الوقت."

عادَ مازن وارتسمَت بسمَة عريضة على وجهه عندما رآني في بيته، وبدأ يُغازلني بشكل فاضح أمام أخت زوجته المتوفّاة مِن دون أن يخجل. ولكثرة ارتباكي قرّرَتُ العودة إلى البيت. في طريق الرّجعة كانت رفيقتي وكأنّها فرحة مع أنّني كنتُ جدّ غاضبة مِن زوج سعاد، وعندما سألتُها لماذا تبتسم أجابَتني:

 

ـ ستعرفين قريبًا

 

مرَّت بضع أيّام قبل أن يقصدني زوجي في المطبخ ويقول لي:

 

ـ حبيبتي... قالَت لي أختي إنّ أولاد سعاد يُحبّونكِ كثيرًا... إنّهم وحيدون وأنتِ لدَيكِ المتّسع مِن الوقت فلِمَ لا تذهبين إليهم خلال النهار؟

 

ـ أنا أيضًا أحبّهم كثيرًا ولكن...

 

ـ لكن ماذا؟

 

ـ أبوهم... أنا لا... أعنّي أنّه...

 

ـ أعلم كيف هو مازن، لا يُحب أحد سوى نفسه، ولهذا عليكِ أن تساعدي أولاده، خاصة أنّ سعاد كانت صديقتكِ وأنا متأكّد مِن أنّ هذا ما كانت ستريده منكِ.

 

قبِلتُ العرض وصمَّمتُ على الذهاب مِن أجل الأولاد فقط، وعَزَمتُ على تفادي أبيهم قدر المستطاع، أي العودة قبل موعد قدومه مِن العمل. لن أستطيع وصف فرحة الأولاد عندما رأوني وعلِموا أنّني سأقضي النهار معهم، وأنا بادلتُهم تلك الفرحة. كنتُ بحاجة إلى وجود أولاد مِن حولي والشعور بعاطفتهم.

 


ولكنّ مازن لم يكن مستعدًّا لإفلاتي بعد أن علِمَ أنّني آتي لوحدي إلى بيته وأرحل قبل أن يعود. لذلك أخَذَ يوم اجازة وتفاجأتُ به عندما وصَلتُ بيته. كِدتُ أعود أدراجي لو لم يرَني الأولاد ويسحَبوني إلى الداخل مِن ذراعَيّ.

أخَذَ مازن يحوم مِن حولي كالذئب وأنا أتفاداه بالبقاء مع أولاده وباللعب معهم. ولكن بعد أن تناولنا الغداء الذي أعددتُه وذهَبَ الأولاد إلى غرفهم وأنا دخلتُ المطبخ لغسل الصحون، شعَرَتُ وكأنّ شيئًا لم يكن على ما يرام: لم أعد أسمع أصوات لعب أو ضحك آتية مِن الغرَف.

مسحَتُ يدَيَّ وذهبتُ لأرى ماذا يحصل وإذ بي أجد الغرَف فارغة.

عندها قال لي مازن:

 

ـ إتصَلتُ بأخت سعاد التي جاءَت تأخذ الأولاد في نزهة... نحن لوحدنا الآن.

 

ـ متى حصَلَ ذلك؟!؟

 

ـ الآن... وأنتِ في المطبخ... قلتُ لهم أن يرحلوا بصمت لأنّني أريد أن أفاجئكِ بغيابهم... تعرفين كيف هم الأولاد، يُمكننا الضحك عليهم ببضع كلمات.

 

ـ أنا راحلة

 

ولكنّه أنقضَّ عليَّ كالوحش ولم أستطع الأفلاة منه بالرغم مِن محاولاتي وصراخي، بل كان ذلك يُثيره أكثر. بكيتُ وتوسَّلتُ إليه، وحاولتُ اقناعه بشتّى الطرق بِتركي والعدول عن الذي في ذهنه، ولكنّه اغتصَبني بعد أن سدّد ضربة قويّة على رأسي أفقَدَتني وعيي.

وعندما استفَقتُ وجدتُ نفسي على السرير، عارية تمامًا. لبستُ ثيابي وأنا أبكي كالطفلة وركَضتُ خارج البيت بسرعة فائقة. لم ألتقِ بمازن الذي كان قد تركَ المكان قبل أن أستفيق.

عندما وصَلتُ بيتنا وقفتُ أمام الباب بضع دقائق لا أدري ما الذي سأقوله أو أفعله. هل كان سيُصدّقني زوجي أو حماتي وابنتها؟ هل كنتُ سأتسبّب بجريمة قتل أو حتى أكون أنا ضحيّة تلك الجريمة؟

لِذا قرّرتُ السكوت إلى حين أجد الجواب. رتّبتُ مظهري وأجبَرتُ نفسي على الابتسامة ودخَلتُ مسكننا.

لم أنَم تلك الليلة، وبكيتُ بصمت على ما حَدَث لي وعلى عَدم قدرتي على الكلام. ولكن في الصباح الباكر، قلتُ لزوجي إنّني لن أعاود الذهاب إلى بيت أخته لأنّني أتعب كثيرًا مع الأولاد وأنّ على أخته العزباء الاهتمام بهم وليس أنا. إستاءَ منّي ولكنّني بقيتُ على موقفي، فلَم أكن لأعود إلى وكر ذلك الذئب المفترس.

موقف حماتي وابنتها منّي كان مماثلاً لموقف زوجي إلا أنّني لم ألِن وبقيتُ أرفض الذهاب.

وبعد فترة ليست بطويلة، بدأت أشعر بغثيان في الصباح، وعلِمتُ ما كان يعني ذلك. تصوّروا غضبي ويأسي وحزني لمعرفة أنّ جنيني مِن مغتصبي حيّ في احشائي وأنّه سيُذكّرني يوميًّا بالذي حصَلَ معي! كدتُ أجنّ وفكّرتُ جدّيًّا بالاجهاض لأتخلّص مِن تلك الذكرى المؤلمة.

فرِحَ وجيه كثيرًا عندما علِمَ أنّه سيُصبح أبًا، ولكنّ أمّه وأخته لم يُشاطراه سعادته بل نظَرَتا إليّ بحقد وأقسم أنّني سمعتُ أختُه تتمتم: "الفاجرة". هل كانت على علم بالذي جرى مع الصّهر؟ لم أتأكّد مِن ذلك إلا حين جاء مازن مع أولاده لزيارتنا وليُبارك لنا بحملي. قال لوجيه وبسمة عريضة على وجههً:

 

ـ هنيئًا لكَ يا وجيه! وأخيرًا نجحتَ! لم يكن الأمر صعبًا، كلّ ما كان يلزم كان تدخّل... القدر! هاهاها.

 

ونظَرَ الرجل إلى حماتي وابنتها وضحكوا جميعًا. عندها علِمتُ أنّ الأمر كان مدبّرًا، وتذكّرتُ أنّني سمعتُ حماتي تقول لابنتها: "الآن وقد ماتت أختكِ سيُسرع زوجها إلى ايجاد بديل لها، ما العمل؟". كانتا قد قدّمَتاني للصّهر كي يلتهي بي ويعدل عن الزواج، مِن هنا اصرارهما على أن أذهب إلى الأولاد. وأنا متأكّدة من أنّهما اللتان حثّتا زوجي على أن يطلب منّي الاعتناء بأولاد أخته. ولكن المرأتين لم تتوقعا أن أحمل مِن مازن لاعتقادهنّ أنّني العاقر وليس وجيه.

عندما أدركتُ أنّني وقَعتُ في فخّ مُحكَم، شعَرَتُ وكأنّ الدنيا تنغلق مِن حولي وأُغمِيَ عليّ. ومنذ ذلك اليوم لم أعد أوجّه الكلام لحماتي أو ابنتها، وانتظرتُ أن يولَد ابني لأرى إن كنتُ سأتحمّل رؤيته أم لا.

شعوري بالأمومة تغلَّبَ على اشمئزازي مِن مازن، وأحبَبتُ ابني أكثر مِن أيّ شيء في العالم، وأنا أربّيه ليُصبح رجلاً بكلّ معنى للكلمة.

توفّيَت حماتي أخيرًا واستطَعتُ حمل ابنتها على الزواج، بعدما عملتُ كلّ ما بوسعي لتنكيد أيّامها. وقبل أن تغادر إلى بيت زوجها قالت لي:

 

ـ تعلمين أنّني أستطيع إخبار زوجكِ بأنّ ابنك ليس منه.

 

ـ أعلم ذلك، ولكن أنتِ اعلمي أنّني مستعدّة أن أفعل ما هو أفظع لأحمي ولدي وأحمي نفسي... صحيح أنّني كنتُ امرأة بريئة، ولكنّني تغيّرتُ كثيرًا بعدما أصبَحتُ أمًّا، وسأنهش بأسناني كلّ مَن يقترب مِن ابني أو منّي، أسمعتِ؟ بأسناني! هيّا ارحلي يا عديمة الأخلاق ولا تعودي أبدًا!

 

أقسم أنّني رأيتُ الخوف في عَينَيها وعلِمتُ أنّها ستتركني وشأني. أمّا مازن فبات هو الآخر يخاف منّي، وفضَّلَ الرحيل مع أولاده إلى بلدة أخرى.

إنتصَرتُ أخيرًا على أعدائي، إلا أنّ الثمَن كان غاليًا ولكنّني ربحتُ نفسي وعائلتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button