العَين بالعَين

عندما رأيتُهما جالسَين معًا في ذلك المقهى، خلتُ حقًّا أنّ قلبي سيتوقّف عن الخفقان. لم أقل شيئًا ولم أتسبّب بفضيحة، بل عُدتُ أدراجي لاقول لصديقاتي إنّ المكان لم يُعجبني وعلينا قصد مقهىً آخرًا، وعملتُ جهدي لأبدوَ طبيعيّة إلى حين عدتُ إلى البيت لأجد صلاح زوجي جالسًا على الكنبة وكأنّ شيئًا لم يكن. خطَرَ طبعًا ببالي أن أسأله مَن تكون تلك الصبيّة التي كانت ممسكة بيده وتنظر إليه بإعجاب وحبّ، إلّا أنّني فضّلتُ الخلود إلى الفراش لأبكي قبل أن يُوافيني.

لم أشكّ في أنّ لزوجي عشيقة بالرغم مِن أنّه منذ سنوات لم يعد يُعيرني أيّ اهتمام، أي بعد أن علِمنا أنّني عاقر. كان الأمر وكأنّه لم يكن يرى فيّ إلّا وسيلة للانجاب ولم يعد هناك منفعة منّي. أين ذهَبَ حبّه لي ووعوده بإسعادي حتى آخر أيّامي؟ تبخَّرَ كلّ شيء حين وقعَت عيناه على نتيجة الفحوصات الطبيّة. لم يقل شيئًا بل فضَّلَ العودة إلى قراءة صحيفته، وانتهى الموضوع، على الأقل بالنسبة إليّ.

كم مِن الصعب على المرأة أن تعلم أنّ زوجها يجد سعادته عند غيرها، لِذا غرقتُ في كآبة لا مثيل لها. لم يرَ صلاح مدى حزني لكثرة انشغاله بتلك الفتاة التي كانت تصغره بأعوام عديدة، بل بدا فرحًا وسعيدًا، الأمر الذي قضى عليّ.

إنتظرتُ أن يُطلّقني زوجي لينعم على سجيّته بحبه الجديد، لكنّه لم يفعل، ربمّا لأنّه لم يكن يُريد أن يخسر مَن يُوفّر له جميع وسائل الراحة في بيته. فبتُّ كالخادمة عنده، لا أراه إلّا حين يعود ليلًا ليستحمّ وينام.

قد تسألون لِما لَم أواجه صلاح وأطلب منه أن يكفّ عمّا يفعله، على الأقل لأريح قلبي مِن الأسى الذي كان يسكنه. فالحقيقة أنّني كنتُ خائفة ممّا قد ينتظرني لو تركَني زوجي، لأنّني لم أكن قد أنهَيتُ علمي أو عملتُ يومًا. أمّا بالنسبة لأهلي، فكانوا مِن الذين يغضّون النظر عن مآسي بناتهم بعد زواجهنّ حتى لو علِموا بما تعانين.

 

كنتُ سأستمرّ بكآبتي لولا إحدى صديقاتي التي قالت لي يومًا:

 

ـ حبيبتي... الكلّ على علم بعلاقة زوجكِ.

 

ـ أيّة علاقة؟

 

ـ لا تدّعي الغباء، أرجوكِ... مِن الواضح أنّكِ على معرفة بما يجري، لكنّني لا أفهم سبب سكوتكِ وقبولكِ بهذا الوضع الأليم... إفعلي شيئًا، أيّ شيء!

 


ـ لو واجهتُ صلاح، سيُطلّقني وأجد نفسي بلا سقف أو مورد رزق... هل ستتكفّلين أنتِ بي؟

 

ـ بالطبع لا... ولكن هناك حتمًا حلّ... لا يُمكنكِ الاستمرار هكذا... ماذا لو جعلتِه يذوق طعم الخيانة؟

 

ـ ماذا؟ أخون زوجي؟ لن يحصل ذلك أبدًا! أنا امرأة شريفة!

 

ـ لم أقصد ذلك، إهدئي أرجوكِ! ما قصدتُه هو أن تدّعي الخيانة.

 

ـ لم أفهم.

 

ـ إسمعي... مِن المعروف أنّ الرجال، حتى الخونة منهم، لا يتحمّلون فكرة أنّ زوجاتهم مهتمّات بغيرهم، وأنا متأكّدة مِن أنّ صلاح ليس استثناءً لهذه القاعدة.

 

ـ وماذا سأربح مِن ذلك؟

 

ـ إن لم يعد إليكِ فستكونين قد انتقَمتِ منه... لا تخافي، لن تخونيه فعليًّا بل ستمثّلين دور المرأة العاشقة.

 

ـ ومع مَن؟

 

ـ مع زياد إبن عمّي... لا تعرفينَه فهو يسكن في أوروبا وهو الآن في البلد يقضي إجازته السنويّة.

 

ـ وهل سيقبل أن يمثّل دور العاشق؟

 

ـ سأقنعُه بذلك فلطالما كنّا مقرّبَين... لا عليكِ... أتركي الأمر لي.

 

للحقيقة لم تعجبني خطّة صديقتي، وعزمتُ على التراجع في اليوم التالي. لكن لم يتسنّ لي التكلّم معها إلا بعد أيّام حين جاءَت تدقّ بابي. إلا أنّها لم تكن لوحدها بل برفقة ابن عمّها.

نظرتُ إلى ذلك الشاب الوسيم الطويل القامة وانربطَ لساني. أمّا هو فابتسَمَ لي قائلاً:

 

ـ كم أنّ زوجكِ غبيّ!

 

أدخلتُ الزائرَين وجلسنا نتكلّم عمّا سنفعلُه لنثير غيرة صلاح. وبعد رحيلهما، أخذتُ أفكّر بإعجابي العميق بزياد وشبابه الذي أعادَ لي بغضون ثوانٍ حبّي للحياة، وفهمتُ، ولو بعض الشيء، حاجة زوجي لتلك الصبيّة. إلا أنّني لم أعذره على خيانته لي، فقد كان بإمكانه تمالك نفسه والبقاء على عهده لي، ومحاولة استرجاع الحب الكبير الذي كان يربطنا ببعضنا.

 

بدأ زياد يتصل بي أثناء وجود صلاح في البيت، أي في المساء، وكنتُ آخذ هاتفي وأكلّمه بعيدًا عن زوجي وأبتسم كلّ ما جاءَتني رسالة. في البدء لم يتأثّر صلاح بالذي يجري، إلى أن رآني ألبس الفساتين الجميلة في الصباح وكأنّني أستعدّ للخروج. لم يسألني أيّ سؤال بل بدا متعجّبًا جدًّا.

لم يتوقّع زوجي أن تكون لي علاقة برجل آخر، لأنّه كان يعلم أنّني انسانة وفيّة وخلوقة، وهذا بالذات الذي دفعَه إلى خيانتي مِن دون خوف مِن أن أبادله بالمثل. لِذا تفاجأ كثيرًا بتصرّفاتي الجديدة وكأنّه يراني لأوّل مرّة.

بعد أيّام، صار صلاح ضيّق الخلق، يغضب لأدنى الأمور إلى أن سألَني أخيرًا مع مَن أتكلّم عبر الهاتف. أجبتُه بكلّ براءة: "مع مَن؟ لا أحد". نظَرَ إليّ بدهشة لِما اعتبره "قلّة احترام" وطلَبَ منّي ألا أستغبيه. إلا أنّني لم أجبه بل بدأتُ أغنّي بفرح، كأي امرأة مغرومة.

في اليوم التالي ذهبتُ إلى بائع الزهور واشترَيتُ باقات عديدة وضعتُها في كل زاوية مِن البيت، وكتبتُ على بطاقة: "ورود العالم لن توازي جمال وردة إستثنائيّة مثلكِ". ضحكتُ كثيرًا وأنا أكتب تلك الكلمات، لأنّني كنتُ أعلم أنّها ستثير غيرة زوجي. وكنتُ على حق فلحظة دخول صلاح البيت مساءً، إحمرّ وجهه وركَضَ يُمسكني بذراعي صارخًا:

 


ـ مِن أين جاءَت تلك الورود؟ مَن أرسلها لكِ؟

 

ـ أليست منكَ يا حبيبي؟ خلتُ أنّ المرسل هو أنتَ!

 

ونظرتُ إليه بتحدٍّ مضيفة:

 

ـ ألم تكن ترسل إليّ الورود حين كنتَ تتوسّل إليّ بأن أقبل بكَ زوجًا؟

 

سكَتَ صلاح ثمّ دخَلَ الغرفة مُحرجًا.

كنتُ سأوقف الخطّة لولا إصرار صديقتي على المتابعة، فقد كانت إجازة زياد على وشك الانتهاء، وكان لا بدّ لنا أن نستفيد مِن وجوده في البلد. إضافة إلى ذلك، كان علينا أن نقوم بما أسمَيناه "الضربة القاضية".

في تلك الليلة تحضّرتُ نفسيًّا وشكليًّا، أي أنّني لبستُ أجمل ما عندي، وتبرّجتُ وصفّفتُ شعري لأقصد مع زياد المقهى نفسه الذي يلتقي فيه زوجي بعشيقته. دخلنا سويًّا وجلسنا إلى طاولة مقابلة لهما مدَّعية عدم رؤيتهما، وأخذتُ أضحَك مع زياد وأنظر إليه بإعجاب واضح ممسكة بيده بحنان.

بعد ثوانٍ قليلة وقَفَ زوجي أمامنا وقال بغضب:

 

ـ ماذا تظنّين نفسكِ فاعلة؟!؟

 

ـ أنا؟ لا شيء... دعني أرى مَن معكَ... آه... هي نفسها التي تقيم معها علاقة منذ فترة... كم هي جميلة! ذوقكَ رفيع يا... زوجي العزيز.

 

ـ عودي إلى البيت حالاً!

 

ـ وأترك صديقي؟ هذا لا يجوز! تريدني أن أعود إلى بيت فارغ لأجلس فيه لوحدي؟ أفضّل البقاء هنا، فأنا أستمتع بوقتي كثيرًا.

 

ـ إن عدتِ فسأعود أنا أيضًا.

 

ـ وماذا ستقول عشيقتكَ؟

 

ـ لا أبالي! هيّا!

 

أمسكَني صلاح مِن ذراعي وسحبَني إلى الخارج. صعدنا بصمت في السيّارة وقادَ بنا إلى البيت. دخلتُ الغرفة ولحِقَ بي زوجي وجلَسَ على السرير ينظر إليّ وأنا أخلعَ ثيابي وأزيل تبرّجي. ثمّ قال:

 

ـ لم أتوقّع منكِ ذلك... أنتِ تفعلين ذلك؟؟؟

 

ـ ولِمَ التعجّب؟ ماذا تظنّ؟ أليس لي أحاسيس؟ حين سئمتَ منّي ألم تفكّر أنّني سئمتُ منكَ أيضًا؟ وعندما أهمَلتني ألَم تفكّر أنّني قد أبحث عن الاهتمام في مكان آخر؟ ما يحقّ لكَ يحقّ لي أيضًا فنحن الإثنَان بشَر... لكنّكَ أنتَ الذي بادرَ بالخيانة.

 

ـ هل خنتِني فعلاً؟ أقصد...

 

ـ لا، ليس بعد... هذا أوّل لقاء فعليّ مع صديقي... كنّا قبل ذلك نتكلّم عبر الهاتف فقط ولكن إبتداءً مِن الغد سَ...

 

ـ لا تكملي! لا أريدكِ أن ترَيه مجدّدًا! أفهمتِ؟

 

ـ ولا أريدكَ أن ترى تلك الفتاة! أفهمتَ؟

 

ـ موافق... ولكن ماذا سيحلّ بنا؟

 

ـ لدَينا حلان: الأوّل أنّ ننفصل نهائيًّا ويفعل كلّ منّا ما يشاء مع مَن يشاء، والثاني أن نحاول استعادة ما كان يجمعنا ويُسعدنا قبل أن تقرّر أنّني لم أعد أنفعكَ.

 

ـ لا تقولي ذلك، فأنا لا أزال أحبّكِ.

 

ـ هذا ليس صحيحًا، وإلا لَما جرحتَني في كرامتي وصميمي، وأشعرتَني أنّني غرض سئمتَ منه واستبدَلتَه بآخر جديد.

 

ـ أعدكِ بأن...

 

ـ لا تعدني بل أرِني! وإلا أقسم لكَ بأنّني سأرحل مع صديقي بعيدًا وأعيش معه قصّة حبّ لا مثيل لها!

 

ـ حسنًا... ماذا تريدين منّي؟

 

ـ أطلب صديقتكَ وقل لها إنّكَ لم تعد تريدها... أطلبها الآن!

 

إتصل صلاح بتلك الفتاة التي كانت بانتظار تفسير لتركه لها في المقهى، وأنهى علاقته معها، وأنا فعلتُ الشيء نفسه مع زياد الذي ضحكَ كثيرًا وهنّأني على نجاح الخطّة.

مضى على تلك القصّة حوالي السبع السنوات، ولا أزال أعيش مع زوجي قصّة حبّ جديرة بالروايات.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button