الشعور الأوّلي

لم ألاحظ يومًا سامر لأنّه لم يكن مميّزًا آنذاك بل كان تلميذًا عاديًّا، في حين كنتُ أجمل فتاة في المدرسة. لستُ أتباهى بنفسي، بل حصَلَ فعلاً أن فزتُ بلقَب ملكة جمال التلميذات لسنوات متتالية. سبب ذكري لهذه التفاصيل، هو أنّ لها وقعًا أساسيًّا على باقي الأحداث التي أثَّرَت بشكل مباشَر على حياتي كراشدة.

بعد أن أنهَيتُ المدرسة، دخلتُ الجامعة وتخرّجتُ بإجازة إدارة أعمال وبتفوّق. فالجدير بالذكر أنّني لم أتأثّر يومًا بشكلي الخارجيّ أو أتفاخر به أو حتى استعملتُه للوصول إلى مبتغايَ، كما تفعل بعض الشابّات. فلطالما كنتُ ولا أزال إنسانة عقلانيّة وناضجة، والفضل يعود حتمًا إلى تربيتي وأشكر أهلي على ذلك كلّ يوم.

دخلتُ مُعترك العمل ونجحتُ بما أفعلُه، وحصَلَ أن التقَيتُ بسامر أثناء ندوة للمستثمرين الجدد، وكان هو قد أصبَحَ ثريًّا بفضل ميراثه وحبّه للمال. فبعد موت أبيه، أخَذَ يزيد مِن رأس ماله مِن كلّ جهّة وصار بعد سنوات مِن أغنى الأغنياء.

وبذلك اليوم سمعتُ صوتًا مِن خلفي يقول لي: "دينا؟ أهذه أنتِ؟ بالطبع هذه أنتِ فكيف لي أن أُخطئ بالتعرّف على أجمل فتاة في المدرسة!". إستدَرتُ وللحقيقة لم أتذكّره، فبدا عليه الإستياء. إعتذَرتُ له وحاولتُ إيجاد عذر، لكنّه تابَعَ: "كنتُ مُغرمًا بكِ آنذاك... وقد أقعُ في حبّكِ بين لحظة وأخرى". لم أجد تعليقه ظريفًا، إلا أنّني ابتسَمتُ له مِن باب التهذيب ولأنّه كان على ما يبدو ضيفًا، أي مستثمرًا جديدًا.

تحمَّلتُ حديثه لمدّة نصف ساعة، ومِن ثمّ استأذنتُ وبعثتُ إليه زميلاً لي ليظهر له حسنات التعامل معنا. إلا أنّه قال إنّه لن يتعامل مع سوايَ. لِذا عُدتُ لأتابع ما بدأناه. لكن، كلّما حاولتُ تناول موضوع الأعمال، كان سامر يردّ الحديث إلى جمالي وانبهاره بي. وبعد دقائق طويلة، سئمتُ منه وتركتُه واقفًا لوحده، الأمر الذي أغضبه كثيرًا.

في اليوم التالي، جاءَني تأنيب مِن مديري على تصرّفي الذي وصفَه بالفظّ تجاه عملائنا، وبدأتُ أشرح له ما أزعجَني بذلك الرجل. إلا أنّ الأوامر كانت واضحة إذ كان عليّ جلب العملاء وليس إفزاعهم. وصلَني اتصال مِن سامر بعد ساعات، ولم يقل لي مِن أين جاءَ برقم هاتفي، بل اكتفى بالإعتذار عن تصرّفه ووعدَني بأن يكون بالمستقبل أكثر جدَّيّة معي. سامحتُه طبعًا فقد كنتُ معتادة على مضايقات الرجال لي، بدرجات متفاوتة طبعًا.

وهكذا بدأ سامر يأتي إلى مكتبي لدراسة خطّة إستثماريّة، وبقيَ جَديًّا طوال الوقت حتى دعاني إلى العشاء لنحتفل بتوقيع العقد. رفضتُ بتهذيب، مضيفة أنّني لا أخلطُ العمل بحياتي الشخصيّة، فقال لي:

 

ـ إسمعي يا دينا، أنا حقًّا مولع بكِ ولن أهدأ حتى أحملكِ على مشاطرتي حبّي... قد أفتقدُ الأساليب الرومانسيّة، لكنّ مشاعري تجاهكِ حقيقيّة وصادقة. لا أريد اللهو معكِ بل الزواج منكِ. تعلَمين أنّني ثريّ ولن ينقصكِ شيء معي، أليس كذلك؟ أعطِني فقط فرصة لأريكِ مَن أنا حقًّا، وإن لم تغيّري رأيكِ بي فيُمكنكِ معاملتي مجدّدًا بقساوة.

 


أقنعَني كلامه وشعرتُ حتى بالذنب لأنّني ظلمتُه وكرهتُه مِن البدء. صِرنا نتواعد ووجدتُ أنّ سامر إنسان لطيف للغاية ومحبّ. وعلى مرّ الأيّام والأسابيع، بتُّ أكنّ له مودّة شبيهة بالحبّ. أقول شبيهة، لأنّني كنتُ أحسّ في داخلي بشيء مريب لم أستطع تفسيره، إلا أنّني طردتُه لأعطي ذلك الرجل فرصة لإثبات نواياه تجاهي.

بعد أقلّ مِن ستّة أشهر، قبلتُ أن أتزوّجه وأملتُ ألا أندَم على قراري. وكان شرط سامر أن أترك عمَلي، لأنّه يجني الكثير مِن المال ولا يحتاج لراتب امرأة. حاولتُ إفهامه أنّني أحبّ وظيفتي وأجد فيها فرحًا كبيرًا، لكنّه أقنعَني عندما تطرّأ إلى موضوع الإنجاب والإهتمام بالعائلة.

الأسابيع الأولى كانت جميلة وكنتُ سعيدة مع زوجي، ولكن سرعان ما بدأتُ ألاحظ أنّه فَقَد، وبسرعة، مِن حماسه تجاهي. أثَرتُ الموضوع معه فأجابَ ضاحكًا: "يا حبيبتي، أنا رجل أعمال كبير وعليّ التركيز على عملي كي أواصل تأمين هذه الحياة الجميلة لكِ... أنا لا أجلس في البيت مثلكِ لا أفعل شيئًا". جَرَحَتني جملتُه هذه كثيرًا، فهو كان السبب بتركي لعملي وها هو يُقلّل مِن شأني! سكَتُّ فقط لأنّني أعلم كم أنّ بعض الرّجال يُحبّون التّباهي بأنفسهم وقدرتهم على تأمين ما يلزم لنسائهم.

شعرتُ بملل كبير لأنّني لم أكن معتادة على عدَم العمل، فقرّرتُ التركيز على حياتي الإجتماعيّة التي توسّعَت بفضل أصدقاء زوجي الكثر. كانت هناك نجاة، زوجة صديق سامر المقرّب، ومعها شعرتُ أنّنا قد نتّفق سويًّا، فبدأتُ أدعوها خلال النهار للجلوس معي. وهي أيضًا فتحَت لي أبواب منزلها. بعد فترة، صرتُ أحكي لها عن إهمال زوجي لي، لكنّها طمأنَتني إلى أنّ هذا ما حدَثَ لها مع زوجها إلا أنّ ذلك لا يعني أنّه لَم يعد يُحبّني. كانت نجاة لا تنفكّ تسألني عن ظروف تعرّفي إلى سامر وعن أيّام المدرسة حين كنتُ ذات شعبيّة كبيرة. لكن بعد حوالي الثلاثة أشهر، قالت لي:" أنا أيضًا كنتُ مثلكِ... رجال الأعمال يهوون النساء الجميلات حتى...". لم تنهِ جملتها ولم أسألها عمّا قصَدتَه، لأنّها بدَت لي بغاية الحزن، لكنّها أضافَت أنّ صديقة لها قد تستطيع رسم صورة أوضَح لي عمّا تحاولُ قولَه. بقيتُ أجهل ما يجري حتى وصلَني اتصال مِن تلك المرأة واتفَقنا على موعد في أحد المقاهي. تغيّبَت نجاة، فجلستُ مع صديقتها لوحدنا. بعد دقائق قالَت لي المرأة التي كانت بغاية الجمال بالرّغم مِن سنّها المتقدّم:

 

ـ تبدو عليكِ الطيبة والذكاء في آن واحد . ونجاة أوصَتني بكِ، فهي ترى نفسها مِن خلالكِ... وأنا أيضًا. مِن أين أبدأ... يا إلهي، قد أبدو وكأنّني أؤلّف الأخبار لكثرة غرابتها. إلا أنّني سأتكلّم! أزواجنا، بمَن فيهم سامر، منتسبون إلى نادٍ للرّجال حيث يلتَقون ويتحدّثون عن المال والسياسة... والنساء. لا شيء غريب في الأمر، أليس كذلك؟ بلى يا حبيبتي، فلهم قاعدة ذهبيّة: التسابق للحصول على أجمل زوجة.

 

ـ أنا معتادة على محاولات الشبّان والرجال للتقرّب منّي، وليس جرمًا أن يسعى رجل إلى الزواج مِن إمرأة جميلة. لا أرى أين تُكمن المشكلة.

 

ـ تكمن المشكلة بأن يكون ذلك هو السبب الأوحد وليس الحب أو احترام كيان الزوجة وأفكارها.

 

ـ زوجي يُحبّني يا سيّدتي، قد لا تكون تلك حالتُكِ، وأنا آسفة مِن أجلكِ!

 

ـ لا تغضبي منّي يا عزيزتي، لا أحاول خَلق خلاف بينكِ وبين سامر.

 

ـ بلى، هذا ما تفعلينَه تمامًا وأتساءَل عن طبيعة دوافعكِ. هل لأنّني أصغر منكِ سنًّا وأجمل؟

 

ـ هـ هـ هـ... لا، فلقد دفعتُ ثمَن جمالي غاليًا وكذلك فعلَت نجاة. إسمعي يا دينا، أنتِ لم تحبَلي بعد ويُمكنكِ التملّص مِن زواجكِ مِن دون عواقب كبيرة.

 

ـ لن أتركَ زوجي أبدًا، فنحن متحبّان جدًّا!

 

ـ أصحيح ذلك؟ لا أعتقد أنّ سامر يُحبّكِ، على الأقل إستنادًا إلى ما فعلَه وقالَه عندما صمَّمَ على الزواج منكِ.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ سأقول لكِ ما أعرفُه، أكان ذلك مِن طرَف زوجي أو مِن الذي سمعتُه مباشرة مِن سامر. فبعد يوم واحد مِن لقائه بكِ في تلك الندوة الماليّة، قرّر سامر أنّه سيفوز بكِ وبأيّة طريقة كانت، حتى أنّه وضَعَ رهانًا مع باقي الرجال على ذلك مقابل مبلغ كبير مِن المال.

 


ـ أجدُ كلامكِ سخيف للغاية!

 

ـ دعيني أكمل مِن فضلكِ... إتّبَع سامر طريقته الخاصّة به، إلا أنّها لم تنجح لأنّكِ لستِ جميلة وحسب بل ذكيّة أيضًا وغير مغرورة بشكلكِ. عندها طلَبَ منكِ إعطاءَه فرصة ليُريكِ مَن هو حقًّا.

 

ـ كيف علِمتِ بذلك؟

 

ـ هـ هـ هـ... ألَم أقل لكِ؟ وصارَ يُمثّل دور الرجل المتَيّم الذي يُوافق على كلّ الذي تقولينَه وتفعلينَه، ويُشجعّكِ في عملكِ عالِمًا تمام العلم أنّه سيجعلكِ تتركين كلّ شيء للمكوث في البيت، كأيّ تُحفة مِن تُحفه. وما هو الأقبح في ذلك، أنّنا كنّا نعلم بكلّ ما يجري بينكما، أي القُبَل والكلام الغراميّ... ألَم تقولي له في إحدى المرّات إنّه يُذكّركِ بأبيكِ، ألَم تروي له أيضًا قصّة جَرَت لكِ خلال طفولتكِ؟ قصّة خاصّة جدًّا جعلَتكِ تبكين مِن التأثّر؟

 

ـ كيف...

 

ـ ألم يأتِ لكِ بعد أيّام بالحلوى التي كنتِ تحبّينها والتي كنتِ تأكلينَها في صغركِ؟

 

ـ بلى

 

ـ كانت تلك نصيحة زوجي له، وغرضها ترسيخ وجود سامر في حقبة مهمّة مِن حياتكِ.

 

ـ أنتِ تبالغين!

 

ـ لا بل هناك أفظع... لدى سامر عشيقة، شأن زوجي وزوج نجاة وكلّ رجال ذلك النادي اللعين!

 

ـ لا أسمح لكِ! كفى افتراءً! لَم أتصوّر أن تقودكِ الغيرة إلى هذه الدرجة!

 

ـ عزيزتي، هكذا رجال يتزوّجونَنا لعرضنا أمام الناس والتباهي بنا، أمّا في ما يخصّ حياتهم الشخصيّة، فيختارون أخريات. عشيقة زوجكِ معه مِن قَبل زواجه منكِ وستبقى إلى حين يجد غيرها لتحلّ مكانها. سأُعطيكِ اسمها وعنوانها ورقم هاتفها. إفعلي ما تشائين بهذه المعلومات، فهذا يعود إليكِ. لقد قمتُ بما عليّ لإراحة ضميري ولمساعدتكِ. ولو حذّرني أحد في ما مضى، لكنتُ أنهَيتُ هذه المهزلة واستعَدتُ حياتي كإنسانة طموحة وناجحة.

 

خرجَت المرأة مِن المقهى وتركَتني مع ورقة صغيرة عليها إسم منافستي. لم أصدّق أيّة كلمة قالَتها لي، لكنّني لم أمزّق الورقة، والسّبب ربّما أنّني كنتُ مدركة في قرارة نفسي أنّ شيئًا لم يكن ناجحًا في زواجي.

مرَّت الأيّام بهدوء تام وكان سامر يتصرّف معي كعادته، أي يقضي نهاره في العمل ثمّ يعود لتناول العشاء معي ويقصد النادي لملاقاة أصدقائه. كنّا نخرج سويًّا مِن وقت لآخر، لكن دائمًا في مناسبات إجتماعيّة مهمّة. حاولتُ تقريبه منّي لأثبت لنجاة وصديقتها أنّهما على خطأ، لكن مِن دون نتيجة. كان سامر غير مهتمّ بي على الإطلاق.

شيء بما قالَه لي في إحدى الليالي أثارَ غضبي وتساؤلاتي. كنّا في وضع حميم وإذ به يقول: "ما بكِ لم تحبلي بعد؟ هل تريدين أن أصبح مهزلة عند أعضاء النادي؟ لدَينا قوانيننا المحدّدة. أريد طفلاً وبسرعة.

 

قوانين... نادي... ماذا عن حبّه لي ورغبته بالإنجاب كي نصبح عائلة محبّة ومتّحدة؟ تذكّرتُ طبعًا ما قالَته لي تلك السيّدة، ورحتُ أفتّش عن الورقة التي ترَكَتها لي والتي خبّأتُها في عمق الدّرج.

وفي الأيّام التي تلَت، راقبتُ زوجي وتحرّكاته عن كثَب. وحين قال لي في إحدى الأمسيات إنّه سيتأخّر بالعودة لأنّ لدَيه جلسة لعب ورق في النادي كما العادة كلّ أسبوع، قرّرتُ اللحاق به لأتأكّد مِن كلامه. أخذتُ سيّارة أجرة وقصدتُ النادي حيث قال لي المسؤول عن الأمن إنّه لم يرَ سامر.

عندما عادَ زوجي بعد ساعات طويلة، كنتُ لا أزال صاحية وسألتُه عن أمسيته، فأجاب أنّه غلَبَ الجميع في لعب الورق وأنّ عليّ أن أفتخر به لأنّه "يفوز دائمًا". بالطبع كان يعني أنّه "فاز" بي أيضًا، وأدركتُ أنّني وقعتُ في شباكه بسذاجة.

كان يجدر بي تصديق شعوري الأوّليّ، وهو أنّ ذلك الرجل مغرور ووقح وغليظ، ففي أمور القلب لا يجدر بنا الاستهتار بما نشعرُ به تلقائيًّا تجاه الشخص الآخر.

وكي أتأكّد مِن شكوكي، صمَّمتُ على زيارة العشيقة. كنتُ أريد رؤيتها لأعرف ماذا لدَيها أكثر منّي كي يختارُها زوجي ويُهملني مِن أجلها. قصدتُ عنوانها، وهي فتحَت لي مِن دون أن تعلم مَن أكون. نظرتُ إليها وتفاجأتُ بشكلها الخارجيّ، فهي كانت إمرأة تفتقد للجمال والجاذبيّة في وجهها وجسدها. إنسانة عاديّة جدًّا خطفَت زوجي منّي، أو بالأحرى هو اختارَها لسبب مجهول منّي. سألتُها مِن دون مقدّمة إن كانت تعاشر سامر، ومع أنّها لم تجِب، علِمتُ أنّني كنتُ على حق فهي لم تسألني مَن يكون سامر، كما قد يفعلُ أي إنسان لا يعرفُ الشخص المذكور.

عُدتُ أدراجي وانتظرتُ عودة سامر مِن عمله. عندها أخبرتُه أنّني على علم بخيانته. حاوَلَ الإنكار ومِن ثمّ اعترَفَ لكن مِن دون ندَم. بالنسبة إليه، ما كان يفعلُه كان مِن حقّه.

كنتُ قد حضَّرتُ حقيبتي ولم يتبقَّ لي سوى الرحيل، فتوجَّهتُ بصمت نحو الباب. صَرَخَ بي زوجي:

 

ـ إلى أين؟ لا يُمكنكِ تركي، فماذا سيقول عنّي رفاقي في النادي؟

 

ـ سيقولون إنّكَ اختَرتَ المرأة غير المناسبة، فجائزتكَ استفاقَت مِن سباتها وهي ذاهبة لاستعادة حياتها، حياة عمل وإنجازات مليئة بسعادة التغلّب على الصعوبات المهنيّة والحياتيّة، إلى حين أصادف رجلاً يستحقّ فعلاً حبّي. فأنتَ وأصدقاؤكَ أضحوكة عند النساء اللواتي مثلي. الوداع يا... فاشل. محاميّ سيتصل بكَ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button