الخالة

- ستحّبينها كثيرًا، سترَين.

بهذه الكلمات بدأ خطيبي يوسف بالتكلّم عن خالته سهى، وكان على حق لأنّ تلك السيّدة كانت فعلاً إنسانة لطيفة. كانت قد تجاوزَت الخمسين مِن عمرها، ولكن بفضل طريقة لبسها وشخصيّتها، كانت تبدو أصغر مِن سنّها بعشر سنين على الأقل. كانت سهى تعلم كيف تحبّب الناس بها، ولقد استلطفنا بعضنا مِن أوّل لقاء وقالَت حينها لابن اختها:

 

ـ تعجبني هذه الفتاة! يُمكنكَ تزوّجها.

 

وضحكنا نحن الثلاثة.

كنتُ أعرف أهل يوسف، ولكن ليس الخالة التي لم تكن على وفاق مع باقي أفراد العائلة وكانت العلاقات مقطوعة بينهم منذ فترة طويلة، لِذا طلَبَ منّي خطيبي عدم ذكر اسم سهى أمامهم، فذلك قد يُغضبهم. وبالطبع حفظتُ السرّ كي لا أخلق المتاعب داخل عائلة زوج المستقبل.

كنّا نرى سهى سرًّا، وفي كلّ مرّة كنّا نمضي وقتًا ممتعًا معها لأنّها كانت طريفة ومحبّة وتعلم كيف تختار كلماتها وتقولها في الوقت المناسب. كانت قد فقدَت زوجها وتعيش لوحدها، لأنّها لم تنجب، وكنتُ أنا ويوسف سلوَتها الوحيدة. ومع أنّها كانت تكبرنا بسنوات عديدة، فقد كنّا نشعر أنّها مِن جيلنا. وكان يوسف سعيدًا جدًّا لأنّني اتفَقتُ مع خالته:

 

ـ كنتُ أخشى ألا تجري الأمور جيّدًا بينكما، فسهى بمثابة أختي الكبرى، وكنتُ سأحزن كثيرًا لو وجَبَ عليّ أن أختار بينكما.

 

لم أحبّ ما قاله في آخر جملته، فماذا قصَدَ بـِ "أختار بينكما؟" ولكنّني سرعان ما نسيتُ الأمر الذي اعتبَرتُه حماسًا مفرطًا.

 


وتزوّجنا وكان فرحنا جميلاً، ولكنّ حادثًا مؤسفًا عدَّلَ مشاريعي كعروسة جديدة.

في الليلة التي سبقَت زفافنا، كسَرَت سهى رجلها، وبما أنّ ليس هناك مَن يهتمّ بها وهي بهذه الحالة الصّعبة، جاءَ يوسف إليّ يطلب منّي أن نؤجّل سفَرَنا إلى شهر العسل. كان مُحرَجًا كثيرًا:

 

ـ المسكينة لوحدها... أرجوكِ أن تقبلي استقبالها عندنا لأسبوع واحد فقط، وأعدكِ بأخذكِ في جولة حول العالم! أعلم كم أنّ قلبكِ طيّب وأنّكِ ستوافقين.

 

حبَستُ دموعي كي لا أبكي أمامه، فقد كنتُ كسائر العروسات أحلم بالسّفر مع زوجي إلى بلد جميل لقضاء أيّام لا تُنسى، ولكنّني كنتُ أعرف مدى تعلّق زوجي بخالته خاصّة في حالتها، لِذا اضطرِرتُ للقبول، فهل كان لي حريّة الاختيار؟

جاءَت سهى إلى بيتنا وهي تجرّ رجلها الملفوفة بالجبس، وتتّكيء على عكازاتها، وأعطَيتُها غرفة الضيوف. ونسيتُ حزني على رحلتي بسرعة بفضل روحها المرحة وصحبتها السّهلة وبفضل سعادة زوجي الواضحة.

بالطبع لم نخبر أحدًا بوجود سهى عندنا كي لا يزعل أهل يوسف، وقلنا لهم إنّنا ذاهبَين إلى شهر العسل.

مرَّت الأيّام وكانت الخالة تشعر بالخجل منّا، لأنّها فَرَضَت نفسها علينا هكذا، ووعدَتنا بالرّحيل بأسرع وقت. في هذه الأثناء علّمَتني كيفيّة تحضير أطباق يوسف المفضّلة وأصبحَت على مرّ الأيّام حافظة أسراري.

كانت سهى تقضي اليوم لوحدها، على الأقل إلى حين أعود مِن عملي كمدّرسة، وكانت تقرأ وتشاهد التلفاز حتى عودتي. أمّا يوسف فكان يُنهي عمله في المساء.

ذات يوم، حين وصَلتُ المدرسة، تفاجأتُ برؤيتها مُغلقة، وعلِمتُ مِن الناطور أنّ السبب كان إضرابًا لم أعرف به لكثرة انشغالي ببيتي الجديد وزوجي وخالته. لِذا عدتُ أدراجي، واستفَدتُ مِن هذه الفرصَة غير الإعتياديّة لأقصد المتجر حتى أبتاع بعض الحاجيات.

وعندما دخلتُ البيت لم أجد سهى أمام التلفاز كما اعتادَت أن تفعل، ولا في المطبخ، وقلتُ في نفسي إنّها ترتاح حتمًا في غرفتها. قرَعتُ بابها لأعطيها مجلّتُها المفضّلة التي اشترَيتُها لها مِن المتجر ودخلتُ، ولكنّي صَرَختُ بأعلى صوتي لِما رأيتُه: زوجي وخالته في وضع حميم جدًّا. إرتعبا لرؤيتي واقفة أمامهما، وقفَزَ يوسف بلحظة مِن السرير غير قادر على التكلّم. أمّا سهى فكان الأمر وكأنّها تستمتع بهذا المشهد المخيف، فهي نظَرَت إليّ نظرة استفزازيّة. لم أرَ الجبس على رجلها فقالت لي:

 

ـ أرأيتِ كيف تحسّنَت حالتي؟

 

وضحِكَت عاليًا. عندها قلتُ باشمئزاز:

 


ـ أنتما مريضان!

 

إستطاع يوسف أخيرًا أن يتكلّم:

 

ـ حبيبتي... إسمعيني... الأمر ليس كما يبدو.

 

خرَجتُ بسرعة مِن الغرفة ومِن البيت وركضتُ عند أهل زوجي. تفاجأَت حماتي بي:

 

ـ عدتما مِن شهر العسل؟

 

ـ يخونني يوسف مع خالته!

 

ـ أيّة خالة؟

 

ـ سهى! أختكِ! هي نفسها التي قطعَتم علاقتكم بها! لقد فاجأتهما مِنذ دقائق قليلة وهما سويًّا في السّرير!

 

هزَّت حماتي رأسها وأخَذَتني مِن ذراعي لأجلس على الأريكة، وحضّرَت لي قهوة بيضاء، وأمسكَت بلطف بيدي لأنّني كنتُ أرتجف مِن الغضب واليأس، وقالَت لي:

 

ـ ليس لدَيَّ أخت يا حبيبتي... المرأة التي تتكلّمين عنها هي سبب متاعب عديدة. حاوَلنا بشتّى الطرق إبعادها عن ابننا ولكنّها أحكَمَت قبضتها عليه مجدّدًا.

 

ـ تعرفينها؟

 

ـ ومَن لا يعرف سهى؟ ألقَت بشباكها على يوسف منذ سنوات عديدة حين كان لا يزال في الجامعة. في البدء قلنا إنّ المسألة نزوة وإنّ الشبّان ينجذبون إلى النساء الأكبر منهم سنًّا وإنّ الأمر سيزول أخيرًا، ولكن علاقتهما لم تنقطع أبدًا. وكلّما كنّا نحاول أن نعرّفه إلى فتاة كان يجيب: "شرط أن تعجِب سهى" فقد كانت موافقتها أمرًا ضروريًّا.

 

ـ الآن فهمتُ كلّ شيء.

 

ـ ظنَنّا أنّه تخلَّصَ مِن سيطرتها عليه عندما قرَّرَ أخيرًا الزواج.

 

وأخبَرتُ حماتي كلّ شيء فبكَت وطلبَت منّي المغفرة:

 

ـ ليس لدَيّ للأسف إبنة ولَما كنتُ لأسمح بأن تمرّ بما مرَرتِ به. إسمعي حبيبتي، لن نكذب على نفسنا بالقول إنّ يوسف سيتخلّص مِن سهى، لأنّها دخَلَت فكره وقلبه وجسده. حياتكِ أمامكِ، أتركيه، أطلبي الطلاق وسأساعدكِ على ذلك، ولو لزِمَ الأمر سأشهد ضدّه في المحكمة، سأفعل كلّ جهدي لإبعاد هذا العديم الأخلاق عنكِ.

 

وهكذا حصَل، ولكن احترامًا لوالديّ يوسف إبتكرَتُ سببًا آخر لطلبي الطلاق، فلم أكن لأقبَل أن أؤذيهما. لم يقف يوسف في طريقي، أوّلاً لأنّه كان يعلم تمام العلم أنّ باستطاعتي تدمير سمعته، وثانيًا لأنّ حياته مِن دون سهى لم تكن تعني له شيئًا.

لا أدري إن كان يوسف قد أحبَّني يومًا، ربما كنتُ بالنسبة إليه مخرجًا للهروب مِن تلك المرأة، أو كنتُ مجرّد تغطية لتأسيس عائلة ومتابعة علاقته مع عشيقته. لم أحصل على الجواب، ولم يعد يعني لي الموضوع، فبعد طلاقي بدأتُ حياة جديدة مع رجل آخر، زميل لي كان يُحبّني مذ بدأتُ العمل في المدرسة.

وماذا عن يوسف؟ لا شيء، فهو الآن مجرّد ذكرى بشعة لا تراودني إلا نادرًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button