الثأر

غريبٌ أمر الناس... يقودون أحدث السيّارات ويستفدون مِن الاكتشافات العلميّة والطبيّة والتكنولوجيّة، ومع ذلك يبقون على عادات قديمة بالية وأحيانًا خطيرة. أقصد بذلك ما يُسمّى بالثأر الذي يُلزِم صاحبه وسلالته على القيام بجرائم نيابة عن غيره، ولا يعرف قلبه الراحة قبل إتمام ما يعتقدُها عدالة.

كنتُ ضحيّة هذا الكمّ مِن الجهل، ولولا العناية الالهيّة لَما كنتُ قادرًا على سرد قصّتي، لأنّني كنتُ قد متُّ على يد جاهل وبسبب حقد مَن هم حوله.

بدأَت القصّة منذ سنين طويلة. كان أبي رجلاً صالحًا يخاف الله ويُحب خلقه، إلا أنّه، وفي لحظة واحدة، قضى على حياة رجل آخر كان يقطع الطريق سيرًا. لَم يرَه والدي، ولَم يتسنّ له أن يوقف سيّارته في الوقت المناسب، وقُتِلَ ذلك المسكين على الفور. جاءَت الشرطة وأمسكَت بأبي وزُجَّ في السجن بعدما دفَعَ لأهل الضحيّة تعويضًا كلّفَه كلّ ما يملك. كنتُ في الخامسة مِن عمري، وأذكر تمامًا يوم قالَت لي أمّي:

 

ـ لن ترى أباكَ قبل وقت طويل يا حبيبي... إضافة إلى ذلك، سنضطرّ للإنتقال مِن هذا البيت وإيجاد مسكن آخر ومدرسة جديدة لكَ... أرجو أن أجد عملاً بسرعة كي لا نمدّ يدنا للناس.

 

ذُهلتُ لهذا الخبر المريع وأدركتُ، بالرّغم مِن سنّي الصغير، أنّ الحياة ليست خطًّا نرسمه بأنفسنا بل سلسلة أحداث غير متوقّعة تأخذنا حيث تشاء وإلى أماكن قد لا نريد الذهاب إليها.

 

تعذّبَت أمّي كثيرًا، وكذلك أبي الذي لم يطِق فكرة كونه السّبب في ما يحصل لنا وقتله إنسانًا لدَيه عائلة، فقرّرَ أن يُنهي حياته. شنَقَ نفسه بواسطة شراشفه وارتاح مِن عذابه.

 


لكنّ والدي، ومِن دون أن يدري، كان بموته قد أورثَني الحكم الذي كان موضوعًا على رأسه مِن قِبَل أهل ضحيّته، فكان لا بدّ أن يدفع أحد الثمَن، أي الدم مقابل الدم. وابن الفقيد هو الذي عليه تنفيذ تلك المهمّة القاسية.

لم نكن بالطبع على علم بما يُخطَّط له، فالثأر موضوع قد يأخذ سنوات طويلة للتحضير والجهوزيّة، فتابعنا حياتنا، صحيحٌ بالحزن والأسف، ولكن بالتفاؤل بغد أفضل.

مرَّت السنوات بهدوء تام ولم نسمع مِن هؤلاء الناس قط، واعتقدنا فعلاً أنّ المسالة حُلَّت بالمال الذي دُفِعَ وبسجن أبي ومِن ثمّ انتحاره. إلا أنّ وليد، إبن الفقيد، كان يُركّز على فكرة واحدة، وهي قتلي. وما ذنبي أنا بالذي فعَلَه أبي بأبيه؟ لا ذنب لي طبعًا، ولكن كان عليّ أن أُعاقَب. تخرّجتُ مِن الجامعة، ووجدتُ عملأً مهمًّا بفضل كفاءَتي وتزوّجتُ مِن فتاة عاقلة ومحبّة. وحين توفّيَت والدتي، كانت قد رأت لي إبنًا وبنتًا جميلَين.

وبدأَت المشاكل. في البداية صِرتُ أتلقّى رسائل على هاتفي مِن رقم مجهول تقول إنّ عليّ التكفير عن ذنبي، وتسديد دين غالي الثمَن وإنّ الساعة قد حانَت. لم أفهم هدَف أو معنى تلك الرسائل، وردَدتُها إلى أحد كان قد أخطأ بالرقم.

ولكن سرعان ما صرتُ ألاحظ شخصًا يُراقبني ويتبعني أينما أذهب، وخفتُ ليس على نفسي، بل على عائلتي. لكن لم يخطر ببالي قط أنّ ابن الذي دهَسَه والدي هو الفاعل، لأنّني كنتُ قد نسيتُ الأمر ولأنّني لم أكن أعلم أنّ الفقيد لدَيه إبن.

بدأتُ أفهم ما يجري حين فاجأني وليد ذات مساء في مرآب الشركة حين كنتُ أستعدّ للصعود في سيّارتي والعودة إلى البيت. كان يرتدي ثيابًا سوداء اللون ويُلوّح بسكّين كبير باتجاهي.

ظننتُ أنّه لصّ يريد سرقتي، فعرضتُ عليه أخذ ما يشاء وتركي وشأني، لكنّه أجابَ:

 

ـ ما أريده هو حياتكَ.

 

ـ يا إلهي! وهل تعرفني لتؤذيني مِن دون سبب؟

 

ـ أجل... أنتَ ابن ذلك الوحش الذي حَرَمَني مِن أبي! وعليّ قتلكَ لأنّ والدكَ كان جبانًا!

 

ـ لا أسمح لكَ أن تتكّلم هكذا عنه! لم يقصد قتل أباكَ إذ لم يرَه مارًّا... هذه الأمور تحصل أحيانًا، ولقد دفعنا الثمَن غاليًا بعد أن خسرنا مالنا وأملاكنا وسُجِنَ أبي ومِن ثمّ قتَلَ نفسه... ألا يكفيكم ذلك؟

 


ـ لا... عليّ أن آخذ ثأري منكم، وما دام أنّ أباكَ لم يعد موجودًا، فَيجب أن تموت أنتَ!

 

وهَجَمَ عليّ كالذئب المفترس وبنيّته غرس سكّينه في جسمي، لكنّني تمكّنتُ مِن الفرار بعد أن سدَّدتُ له ضربة موجعة.

عند عودتي، خابَرتُ الشرطة وأبلغتُ عن ذلك المجنون. لكنّ رجال الأمن لم يجدوا وليد الذي ذهَبَ يختبئ عند أقارب له في منطقة جبليّة نائية.

عشنا أيّامًا صعبة مصبوغة بالخوف والتساؤلات، ولم أحتمل فكرة أن يُصاب أيّ فرد مِن عائلتي بأيّ مكروه، لِذا أرسلتُ زوجتي وولدَيَّ إلى ما بعد الحدود لمدّة غير محدّدة.

وعندما أمسَيتُ لوحدي، خطَرَ ببالي قصد والدة وليد للتكلّم معها، على أمل أن تساعَدَني على اقناع ابنها بالتراجع عمّا في باله. طرقتُ باب العجوز، ولكن عندما عرَّفتُها عن نفسي حاولَت اغلاق الباب بوجهي.

بقيتُ مصرًّا على الدخول حتى اقتنعَت أخيرًا. جلسنا سويًّا وأعربتُ لها عن أسفي الشديد لِما حصَلَ في ما مضى لزوجها، مبيّنًا لها عدم تورّطي بالأمر وعدم المنفعة مِن الثأر منّي. تجاوبَت المرأة معي، ووعَدَتني بأن تحاول إقناع وليد بالتراجع فغادَرتُ وفي قلبي أمل كبيرًا.

إلا أنّني لم أكن أعلم أنّ العجوز هي التي ملأت رأس وقلب ابنها بالحقد تجاهي، ودفعَته على مرّ السنوات لقتلي.

ففور مغادرتي منزلها، إتصَلت بوليد وقالَت له إنّني اقتحَمتُ منزلها وهدَّدتُها وشتمتُها وضَرَبتُها، الأمر الذي حَمَلَ ذلك الشاب على ترك مخبئه على الفور للنَيل منّي.

في صباح اليوم التالي وبعدما أقفلتُ باب البيت واستدَرتُ للتوجّه إلى سيّارتي، سمعتُ صوتًا يُناديني باسمي، ومِن ثمّ لا شيء. لم أسمع طلقات النار العديدة التي جاءَت تستقرّ في جسدي ولا صراخ الجيران ولا صفّارة سيّارة الاسعاف، ولم أشعر حتى بِنقلي في أروقة المشفى إلى غرفة العمليّات.

فتحتُ عَينَيَّ لأرى زوجتي بالقرب منّي وممرّضات مبتسمات. سألتهنّ عمّا حصَلَ لي ومِن ثمّ غبتُ مجدّدًا عن الوعي. إستفقتُ بعد ساعات، وكانت الشرطة موجودة في غرفتي، ومحقّق يسألني عن هويّة الفاعل. وحين لفظتُ اسم وليد وشهرته، غادروا بسرعة للقبض عليه. دامَ البحث عنه أسابيع، فترة طويلة ومقلقة، كانت الشرطة قد أمَّنَت لي خلالها حماية شخصيّة لشدّة اقتناعهم بأنّ وليد لن يتركني قبل أن يقضي عليّ. وعندما قبضوا عليه أخيرًا، قال لهم إنّني تهجَّمتُ على والدته، الأمر الذي زاد مِن إصراره على إنهاء حياتي. ولكن حين أرادوا نقله إلى السجن بانتظار المحاكمة، فرَّ منهم ولجأ إلى ابن عمّه، وهو رجل خطير لا يردعه شيء. حصَلَ تبادل نيران بينهم وبين رجال الأمن، وفقَدَ وليد حياته.

ومع أنّني ارتحتُ كثيرًا لخبر موت ذلك الشاب، تأسّفتُ أيضًا عليه لأنّه كان ضحيّة محيط وأمّ يتآكلهما الحقد والعطش للدماء. في ظروف أخرى كان وليد ليكبر كأيّ ولد ليُصبح شخصًا ناجحًا ومحبًّا وينعم بحياة جميلة مع زوجة وأولاد. إلا أنّه يرقد اليوم تحت التراب تبكيه أمّ لم تحبّه كفاية لتحمله على النسيان والمسامحة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button