لَم يكُن الذنب ذنبي، فطارق خطيبي لَم يُخبرني يومًا عن سميرة أخته، ولا أهله، فخِلتُه ولَدًا وحيدًا. أعلمُ أنّ مُعظَم العائلات لدَيها أسرار، لكن الوصول إلى حدّ إخفاء فرد مُهمّ كإخت، فذلك لَم يخطُر ببالي أبدًا!
لِذا، يوم تعرّفتُ صدفة على سميرة، لَم أشكّ طبعًا بأنّها هي الأخت المنسيّة، بل فقط امرأة كأيّ امرأة أخرى. كنتُ في السوبر ماركت الموجود بالقرب مِن بيت أهلي أشتري بعض الحاجيات، حين سألَتني تلك السيّدة عن منتوج مُعيَّن. فهي أرادَت أن تعرفَ منّي قَبل أن تشتريه إن كان جيّدًا أم لا، خاصّة أنّني كنتُ قد وضعتُه في سلّتي. أجَبتُها بكلّ طيبة خاطر، وانتقَلنا إلى موضوع غلاء المعيشة وكيف أنّ الأسعار في تصاعد دائم. ثمّ هي أثنَت على لطافتي، مُضيفة:
ـ أنتِ رائعة بالفعل... كَم أتمنّى أن تكون لي صديقة مثلكِ... فأنا جديدة في المنطقة وقد انتقلتُ إلى هنا بعد موت زوجي، ولا أولاد لدَيّ. هل...
ـ هل ماذا؟
ـ هل أجرؤ على طلَب رقم هاتفكِ؟ يُمكنُكِ الرفض طبعًا وسأتفهّم الأمر!
ـ لا... لماذا أرفضُ؟ فأنتِ تبدين لي لطيفة أيضًا ومُهذّبة، ولا أرى أيّ ضرَر في تبادُل الأحاديث عبر الهاتف. إليكِ رقمي. ما إسمكِ؟
ـ إسمي... سارة وأنتِ؟
ـ أنا جنان.
للحقيقة، كنتُ فرِحة أن تكون لي صديقة جديدة تعرّفتُ إليها بظروف عاديّة ومكان عاديّ، فأعزّ الصداقات تحدثُ صدفة... أو هكذا ظنَنتُ. فكلّنا نتأثّر بتلك الأفلام والقصص حيث الكاتب والمُخرج يرويان لنا قصصًا غريبة عجيبة، ويُعطيان لها نهايات سعيدة لإرضاء المُشاهد والقارئ. أخبَرتُ طارق عن سارة وعمّا حدَث، وهو استغرَبَ كثيرًا أن أكون قد أعطَيتُ رقمي لإنسانة غريبة، لكنّه رأى مدى فرَحي فنسِيَ الموضوع. إضافة إلى ذلك، قلتُ له إنّ اسمها سارة، وهو بالطبع لَم يربط بين ذلك الاسم واسم سميرة أخته.
بدأَت صديقتي الجديدة بالتحدّث معي عبر الهاتف والواتساب، وتبادَلنا الكثير عن أنفسنا. هي فرِحَت لدى معرفتها بأنّني مخطوبة ودعَت لي بالتوفيق.
وبعد فترة، صارَت سارة تعرفُ كلّ شيء عن علاقتي بحبيبي، لأنّني وجدتُ سهولة بالتكلّم عن الموضوع مع شخص ليس مِن أقربائي أو معارفي. وهي استمعَت إليّ بكلّ محبّة وتفهُّم، مِن دون أن تُعطي رأيها أو تحكم عليّ. فالواقع أنّني كنتُ صبيّة تغارُ كثيرًا على خطيبها لأنّه كان وسيمًا للغاية ويجلِبُ الانتباه أينما كان. أمّا بالنسبة لي، فكنتُ عاديّة الملامِح والقوام، الأمر الذي زرَعَ في قلبي الشكّ وعدَم الثقة بنفسي. وذلك الموضوع بحدّ ذاته، كان الباب الذي دخلَت منه سارة لتنفيذ ما في بالها.
وهكذا بدأت سارة تروي لي قصصًا عن فتيات تمّ غشّها مِن قِبَل رجال، مُغذّيةً مخاوفي تجاه طارق. فهي أكّدَت لي أنّ مُعظم الرجال هم خوَنة، مُستثنية خطيبي بطريقة مُستهزئة، فزادَ شكّي وكبرَت قلّة ثقتي بنفسي. للحقيقة، لَم أكن سعيدة بالاتّجاه الذي أخذَته أحاديثنا، فكلّما أقفَلنا الخط، كنتُ أشعرُ بالإحباط العميق وأُراجعُ كلّ كلمة قالَها لي خطيبي، وكلّ عذر أعطاه لي لتأخير ما أو حين كان يؤجّل لقاءاتنا.
وكما نصحَتني سارة أن أفعل، طلبتُ في أحَد الأيّام مِن طارق رمز دخول هاتفه. هو تفاجأ كثيرًا، إذ أنّني لَم أثِر يومًا موضوع الهاتف، فرفَضَ قائلًا إنّ غيرتي بلغَت حدًّا لا يمكن قبوله وإنّ علينا أن نثِق ببعضنا. وحين أطلَعتُ صديقتي عن ردّة فعل خطيبي، صرخَت: "أترَين؟!؟ إنّه يخفي شيئًا عنكِ، وإلّا لِما الرفض؟ يا حبيبتي... كَم أنا آسِفة مِن أجلكِ... حسبتُ طارق استثناء للقاعدة". بكيتُ كثيرًا وهي واسَتني مُضيفة: "يُمكنكِ غضّ النظر عن الأمر ومُتابعة علاقتكِ به... أو انتظار مجيء شخص أهلًا للثقة أكثر منه. لا تُسيئي فهمي، أنا لا أُريدُكِ أن تفسَخي خطوبتكِ معه، لكنّني أريدُكِ أن تكوني سعيدة مع رجُل يُقدّرُكِ".
تغيّرَت نظرَتي لطارق، وصرتُ أرى الكذِب في كلّ كلمة يقولُها. صارَت لقاءاتنا إمّا جافّة أو يقَع بيننا شجار لأتفَه سبَب. هو سألَني لماذا تغيّرتُ تجاهه، وأنا أجبتُه أنّني اكتشِفُ فيه خصال لا أقبلُها. في تلك الأثناء كانت سارة قد عرضَت عليّ ما أسمَته "خطّة جهنّميّة"، وهي أن تتحرّى عن طارق، لا بَل أن تُراقبه شخصيًّا. طلبتُ منها أن تُعطيني فرصة للتفكير بالأمر... ثمّ قبِلتُ عرضها.
خلال تلك الفترة، بدأتُ أُلاحِظ أمورًا على طارق فسَّرتُها حسب تنبيهات سارة، أيّ أنّه، إلى جانب عدَم ترك هاتفه جانبًا بل اصطحابه معه أينما ذهبَ، هو كان يتغيَّب بصورة مُنتظِمة مُدّعيًا أنّه مشغول في عمَله. وهذا الأمر حمَلَني على انتظار تقرير صديقتي لأعرِف ما يجري بالفعل: هل كانت شكوكي في محلّها أم لا؟
وبعد أيّام طويلة، أعطَتني سارة موعدًا في أحَد المقاهي، حيث جلَسنا سويًّا في زاوية منه كي لا يسمعُنا... أو يرانا أحَد. كان قلبي يدقُّ بقوّة، فشيء في داخلي قال لي إنّ ما ستقوله لي صديقتي لن يُعجِبني، ولَم أكن مُخطئة. فهذا ما قالَته لي:
ـ خطيبُكِ يخونُكِ... دعيني أكمِل... فهو قد خطَبَ صبيّة أخرى منذ فترة، أيّ حين هو خطبكِ أنتِ. لدَيّ اسمها وعنوانها... ورقم هاتفها. لا تبكي، مِن فضلكِ، فهكذا إنسان لا يستحقّ دمعة واحدة منكِ.
ـ لكن... لماذا يفعلُ طارق ذلك؟!؟
ـ أُراهِن أنّه يتسلّى بكِ وبها، وكلّ ما يُريدُه هو أن يحصل مِن احدَكما على ما يركض وراءه: العلاقة الحميمة. قولي لي، هل طلَبَ منكِ طارق أيّ شيء مِن هذا القبيل؟
ـ أجل، لكن بطريقة سلِسة... هو أرادَ أن نصبَحَ حميمَين في اليوم الذي تلا خطوبتنا، قائلًا إنّ لا عَيب في الأمر لأنّنا سنتزوّج يومًا. وهو أضافَ أنّ علينا أن نعرف إن كنّا مُتجانسَين جسديًّا لتكون حياتنا الزوجيّة مثاليّة. لكنّني رفضتُ طبعًا، فكيف أفعلُ ذلك؟!؟ إلّا أنّه ألمَحَ لي أنّه رجُل ولدَيه حاجات، لكنّه عادَ وأضافَ أنّه سينتظر حتّى أغيّر رأيي. لكنّه لَم يُثِر الموضوع مُجدّدًا وأنا نسيتُه مُعتبرة أنّها كانت مُحاولة وحيدة لن تتكرَّر.
ـ أتريدين الاتّصال بالصبيّة الأخرى؟
ـ لستُ أدري... أعطِيني المعلومات التي تملُكينها وسأرى لاحقًا.
عدتُ إلى البيت مُنهارة جسديًّا ومعنويًّا، لأنّني خلتُ أنّ طارق يُحبّني فعلًا ويُريدُ ربط حياته بي. واتّضَحَ أنّ شكوكي منذ البداية كانت في محلّها، فقرّرتُ الاتّصال بالرقم الذي حصلتُ عليه مِن سارة.
أجابَتني صبيّة، فعرّفتُها عن نفسي، وهي صرخَت حين سمعَتني أقولُ: "أنا خطيبة طارق ج". ثمّ تبادَلنا المعلومات وعرفتُ منها كلّ شيء. كانت صديقتي على حقّ، خطيبي إنسان غشاش!
بقيَ لي أن أواجِه طارق، فأعطَيتُه موعدًا وقلتُ له كلّ ما أعرفه، ذاكرة أنّ معلومات أتَت مِن صديقتي الجديدة. هو نكَرَ كلّ التهَم وأكّدَ لي أنّ سارة تُحاول، لسبب مجهول، التفريق بيننا وأنّها هي، أو شريكة لها، مَن أخَذَ دور الخطيبة الأخرى عبر الهاتف. وبعد الاستماع إليه، راودَني الشكّ جدّيًّا، فتلك الصديقة الجديدة كانت بالفعل مُتحمِّسة تمامًا لإظهار خيانة طارق لي. شكَّ خطيبي بأن تكون سارة إحدى صديقاته السابقات، فلَم يخطُر بباله طبعًا أن تكون أخته، وطلَبَ منّي أن أعطيها موعدًا ليرى مَن تكون. وهذا ما فعلتُه، فكنتُ أحبّ طارق كثيرًا ولا أُريدُ فقدانه.
جلَستُ مع سارة في المكان نفسه، وأخذتُ أروي لها ما قالَته لي الخطيبة الأخرى، حين دخَلَ طارق فجأة المقهى. ولمّا رأى سارة، صرَخَ: "سميرة؟!؟".
لَم أفهَم ما يجري تمامًا، فبقيتُ أتفرّج عليهما وهما يتبادلان الحديث. فهي قالَت له:
ـ أجل، هذا أنا... ماذا كنتَ تظنّ؟ أن أبقى صامِتة حيال ما تفعله بهذه المسكينة؟
ـ لا يحقّ لكِ التدخّل في حياتي الخاصّة! لا تنسي أنّكِ منبوذة مِن العائلة!
ـ بسببكَ! فأنتَ الذي حرّضَت والدَينا عليّ يوم أردتُ الزواج مِن المرحوم زوجي... المسكين، كان أفضل إنسان على وجه الأرض! وبسببكَ عشتُ بعيدة عن أهلي وكأنّني عنزة جرباء، مع أنّني لَم أفعل شيئًا مُشينًا. لكنّكَ لطالما كنتَ ولا تزال "الابن الملَك" تتلاعَب بالناس وعقولهم بفضل وسامتكَ وقدرتكَ على الاقناع. أردتَني خارج العائلة وحياتكَ، لتكون لوحدكَ وتستمرّ بما تفعله. هل قلتَ لِجنان إنّكَ بالكاد تعمَل وإنّكَ تعيش مِن مصروف أهلنا لكَ؟ هل قلتَ لها إنّكَ لن تملك بيتًا يومًا لأنّكَ لا تملك المال لذلك، ولأنّكَ لا تنوي الزواج فعلًا بل اللهو بالصبايا على أمَل أن تستسلِم إحداهنّ لكَ؟ أنتَ لستَ ناضجًا ولن تكون يومًا، لأنكَ تخال أنّ كلّ شيء مسموح لكَ. لكنّكَ مُخطئ... فلقد كُشِفَ أمركَ. فها جنان تعرفُ أنّكَ خطبتَ صبيّة أخرى، وتعرفُ أنّني أختكَ وتعرفُ ماذا فعلتَ بي. أنا لَم أكشِف أمركَ بغاية الانتقام، بل لأنّني مُصمِّمة على قطع الطريق أمامكَ كلّما أرَدتَ أذيّة أحَد كما أذَيتَني.
لَم يقُل طارق شيئًا بل ترَكَ المقهى مُستاءً، وأنا نظرتُ إلى سميرة باندهاش. جلَستُ معها بصمت ثمّ قلتُ لها:
ـ أشكرُكِ كثيرًا يا... سميرة، فمَن يعلَم، فلربّما كان سيأتي يوم ويُقنِعني طارق بفعل ما يُريدُه منّي. قولي لي... هل تظنّين أنّ باستطاعتنا أن نكون صديقتَين حقيقةً؟
ـ أنا صديقتكِ منذ البداية يا عزيزتي.
حاورتها بولا جهشان