ارادت حماتي التخلص مني!

لقد لامَني الكثيرون عندما اخترتُ زوجتي مِن عائلة مشبوهة. لكنّ رغدة لم تكن مثل أهلها بل عكسهم تمامًا، وعرفتُ ذلك مِن خبرتي العميقة بالناس. فلَم أصبح رجل أعمال قويّ إلا بعدما مرَرتُ بتجارب عديدة، واجتَزتُ مشاكل عصيبة أوقعَني فيها أناس جشعون.

أحببتُ في رغدة بساطتها وحبّها للجميع، فقلبها كان نقيًّا لا يعرف الخبث والكره. فكيف لزهرة نادرة مثلها أن تولَد وتكبر وسط الشوك ولا تتأثّر؟ البعض يقول إنّ المرحوم أباها كان رجلاً صالحًا لم يتحمّل سواد قلب زوجته وابنه فمات باكرًا. وقد تكون رغدة قد أخذَت منه طيبته.

كانت حبيبتي قد نبّهَتني مِن ذويها، وعَرَضَت حتى عليّ تركها لتجنيبي الوقوع في فخّ طمعهم، إلا أنّني طمأنتُها بأنّني أجيد التّصرّف مع هكذا صنف. وهي لم تكن تبالغ، إذ كانت والدتها امرأة بشعة مِن الخارج والداخل وذات لسان سليط وحاد. أمّا أخوها، فكان مِن هؤلاء الذين ينظرون إليكَ بطرف عَينَيهم، مشغولين بالتفكير بكيفيّة الإنتفاع السّريع.

وضَعَ هذان الطمّاعان شروطًا لي أسرعتُ بالقبول بها، لأنّني أردَتُ رغدة بكل جوارحي، ولأنّني كنتُ قادرًا على دفع ما يلزم، أي شراء المجوهرات ودفع راتب شهريّ للأم التي بكَت أمامي لأنّ ابنتها ستتوقّف عن العمل فور الزواج منّي، وتنقطعُ هكذا عن مساعدة التي ربّتها لوحدها. أمّا الأخ، فطالبَ بوظيفة "مَحترمة" مع أنّه لم يكن نفسه مُحترمًا، فوعدتُه بأنّني سأجدُ ما يُناسبُه.

وهكذا استطعتُ الزواج مِن رغدة، ولَم أحسب حساب الذي سيحصل لي بعد ذلك. فخبرتي بالناس لم تحميني مِن جشع كادَ أن يتحوّل إلى جريمة.

ما طمأنَني هو أنّ مكان سكَني وزوجتي كان بعيدًا عن بيت أهلها وكنّا بذلك بمنأى عن طمَعَ ذويها. لكنّ الأمر كان مخالفًا، فهؤلاء الناس لَم ينووا أن أفلِت منهم، فبالنسبة لهم كنتُ فريسة لا تُفوَّت.

خطّتهم كانت سهلة: كان عليّ أن أموت قبل أن تحمل رغدة، كي لا تشعر ابنتهم بأنّ عليها حماية وتأمين طفلها بعد مماتي وتُعطيهم الميراث بكامله ليُزوّجوها مِن آخر ثريّ أيضًا.

لم أفكّر يومًا بأنّ أناساً "عاديّين" قد يُقرّروا قتل إنسان آخر، فلطالما اعتقدتُ أنّ القتلة هم أشخاص قبيحو الملامح ولهم سوابق عديدة. فكيف لامرأة في الستّين مِن عمرها أن تحاول أذيّة ابنتها وتدفع إبنها إلى خطف حياة صهره؟ أليست هي نفسها التي ربَّت وسهرَت وطهَت وغسَلت لزوجها وأولادها؟ قد يكون القتل موجودًا في أيّ منّا، لكنّه يبقى نائمًا بفضل الإيمان والخوف مِن القانون، وإلا ما كان ليحصل للبشريّة لولا هذه الروادع؟ يقشعرّ بدني لمجرّد التفكير بالأمر.

 


كنتُ أنعمُ بزواج جميل وأعدّ مع رغدة الخطط المستقبليّة التي تتضمّن طبعًا الإنجاب إلى أن علمتُ منها أنّها حامل. لَم تقل لي شيئًا لأنّها لَم تتأكّد مِن الخبر، وأرادَت إجراء الفحوصات اللازمة قبل أن تُفرحَني. قبّلتُها وعانقتُها وشكرتُها على هكذا هديّة وذهبنا في اليوم التالي إلى الطبيب. وعندما جاءَت النتائج إيجابيّة، إتّصلتُ شخصيًّا بحماتي لأخبرُها بأنّها ستصبحُ جدّة بعد تسعة أشهر. لكنّ ردّة فعلها كانت غريبة، إذ أنّها صرخَت مِن الغضب وأقفلَت الخط. لَم أقل لرغدة ما سمعتُه بل قلتُ لها إن أمّها طارَت مِن الفرح.

كانت خطّة حماتي قد فشلَت بفعل حمل ابنتها، أو بالأحرى تغيَّرَ مجراها وأصبحَت رغدة هي الهدف الأوّل. كان على زوجتي أن تُسقِط الجنين، وبأسرع وقت.

وهكذا أعطَت حماتي لزوجتي "مقوّيًا" لتحتفظ بالجنين والذي أعطى طبعًا مفعولاً عكسيًّا... تقريبًا. إذ أنّ رغدة بدأت تشعرُ بالغثيان وبألم رهيب في بطنها، ولو لَم أحملها إلى المشفى بفائق السرعة، لكانت قد حصلَت مصيبة. عاتَبَ الطبيب أم رغدة لاعتقادها بوصفات شعبيّة، ومنعَها من إعطاء ابنتها المزيد مِن تلك الخلطات الخطرة.

وحتى بعد ذلك، لَم يخطر ببالي أنّ أمًّا قد تحاول إجهاض ابنتها. لكنّ الشكّ بدأ يسكن قلب زوجتي التي كانت تعرف أمّها تمام المعرفة، وصارَت تتفادى التعاطي معها قدر المستطاع. فلَم تعد رغدة تأكل أو تشرب مِن يد والدتها، وباتَت تفتّشُ عن الحجج لعدم زيارتها أو استقبالها عندنا. ومع أنّني استغربتُ الأمر، فقد ارتحتُ ضمنيًّا لأنّني لم أكن أحبّ حماتي أو إبنها.

ولأنّ زوجتي ابتعدَت عن مصدر الشرّ، وُلِدَ ابننا بخير وبدأَت حياتنا العائليّة الجميلة. وخلتُ أنّ قدوم مولودنا سيطرّي قلب جدّته وخاله، لكنّني كنتُ مُخطئًا، فحبّ المال كان لدَيهما أقوى مِن رابط الدّم.

عندما رأَت حماتي وابنها أنّهما فشلا في إبقاء رغدة مِن دون ذريّة، إنتقلا إلى القسم الثاني مِن الخطّة، أي التخلّص منّي، وتركا إقناع زوجتي بالتنازل عمّا سترثُه بعد موتي لهما إلى وقت لاحق.

الخطّة كانت واضحة وسهلة: كنتُ سأموت دهسًا أثناء قطعي للطريق، أو في مرآب الشركة بفضل مراقبة أخ زوجتي الدائمة. فهو كان يتبعُني ليلاً نهارًا، ويُغيّر سيّارته بين الحين والآخر كي لا ألاحظ شيئًا. لكنّ القدر لَم يشأ أن أموت على يد هكذا سافلَين، فحدَثَ أن تعطّلَت سيّارتي واضطرِرتُ للتنقّل مع سائق أجرة لمدّة يومَين. والجدير بالذكر أنّ كان لدَيّ سائقًا دائماً في ما مضى إلا أنّني فضّلتُ التحرّك بنفسي مِن دون التقيّد بأحد.

إذًا ركبتُ مع سائق الأجرة، وبدأتُ أجول معه في المدينة بسبب سلسلة اجتماعات عليّ القيام بها. وما لَم أكن أعلمهُ، هو أنّ ذلك الرجل كان شرطيًّا متقاعدًا، وأنّه معتاد على التركيز على التفاصيل ومراقبة كل صغيرة وكبيرة. وفي فترة بعد الظهيرة، قال لي السائق:

 


ـ أستاذ، هل لدَيكَ أعداء؟

 

ـ لا... سؤال غريب للغاية... لماذا تسأل؟

 

ـ هناك مَن يتبعُنا منذ الصباح. السيّارة ليست نفسها لكنّ السائق بلى.

 

ـ يتبعُنا؟ ولماذا يفعل؟

 

ـ إنّه وراءنا الآن، سأنعطفُ يسارًا وسيفعلُ الشيء نفسه. لا تنظر خلفكَ بل في المرآة هنا.

 

وكما قال سائق الأجرة، إنعطفَت السيّارة التي خلفنا إلى اليسار. عندها قلتُ له:

 

ـ إفعل جهدكَ لتضليله!

 

ـ لا يا أستاذ، فلا نُريدُه أن يعرف أنّنا كشفنا أمره بل أن يظنّ أنّه غير مرئيّ. سأنزلكَ أمام بيتكَ، وأريدُ منكَ أن تبقى داخل منزلكَ حتى الصباح. في تلك الأثناء سأتصرّف، لا عليكَ.

 

وصلتُ البيت مهمومًا، ولَم أخبر رغدة شيئًا كي لا أقلقُها، وبقيتُ على اتصال مع الشرطيّ السابق مُعظم الليل.

في الصباح، ركبتُ سيّارة الأجرة وقدَّمَ لي السائق تقريره:

 

ـ لحقتُ بالرجل إلى كاراج سيّارات حيث أخَذَ سيّارة أخرى وعادَ بها إلى بيته، وبقيَ هناك حتى الصباح ليُعاود الذهاب إلى الكاراج لتبديل مركبته. هذا هو عنوان سكنه. هل تعرفُه؟

 

وكَم كانت مفاجأتي كبيرة عندما اكتشَفتُ أنّ الذي يلحقُ بي هو أخ رغدة! ثمّ أضافَ الشرطيّ السابق:

 

ـ لدَيّ معارف في الشرطة، زملاء قدامى، أقترحُ عليكَ أن تكلّمهم، فالأمر قد يكون خطرًا للغاية.

 

ـ لكنّ الرجل هو أخ زوجتي ولا أريدُ احداث بلبلة، خاصّة أنّنا لا نعلم إن كانت نواياه بهذه الخطورة.

 

ـ التحقيق سيكشف كل شيء.

 

قمتُ بالتبليغ عن مُلاحقي وأُخِذَ إلى القسم. هناك قامَ محقّق مُخضرم بالتحقيق معه لساعات طويلة أنهكَته، وانتهى به الأمر بالاعتراف الكامل بدءًا مِن محاولة إجهاض رغدة إلى نيّته بقتلي، خاصّة بعد أنّ وُعِدَ بعقوبة أخفّ إن أقرّ بخطّته.

عندها اضطرِرتُ لإخبار رغدة بما كشفَته الشرطة، لأنّ المسألة بلغَت حدّ توقيف والدتها أيضًا. بكَت المسكينة كثيرًا سائلة نفسها كيف أنّ الله وضَعَها وسط عائلة شرّيرة لا تعرف سوى الطمَع والأذى. طلبَت منّي زوجتي الإذن بالتنازل عن حقّنا في ما يخصّ والدتها لتجنيبها السجن، ووافقتُ طبعًا كي أحافظ على زواجي وحبّ رغدة لي.

وفور صدور الحكم بحق أخ رغدة بالسجن، أخذتُ عائلتي الصغيرة، وسافرتُ بها إلى أوروبا حيث كنتُ سأديرُ أعمالي. لم أكن أريدُ أن نبقى على مقربة مِن حماتي التي كان بأمكانها أذيّتنا مِن جديد إنتقامًا لابنها.

تأذَّت أعمالي بعض الشيء بسبب نقلها إلى قارة أخرى، لكنّني استطعتُ المواصلة بأقلّ ضرر ممكن. إلا أنّ زوجتي أُصيبَت باكتئاب عميق بعد أنّ تدمَّرَت عائلتها، وزارَت طبيبًا نفسيًّا لسنوات.

اليوم استعَدنا حياتنا لكن بعد أن عانَينا الكثير، وكدنا نفقد إبننا وأفقد أنا حياتي. خرَجَ أخ رغدة مِن السجن وأوكلتُ الشرطيّ السابق بإبقاء عينًا ساهرة عليه خوفًا مِن أن يُحاول أذيّتنا مجدّدًا.

لستُ نادمًا على اختياري لزوجتي، لكنّني كنتُ أفضّل لو أنّها كانت إبنة أناس محبّين كي يربى ابني في بلده وفي كنف جدّة حنونة وخال يقف إلى جانبه لو حصل لي مكروه. لكن علينا قبول الأمور كما هي، والتعايش معها والتركيز على اللحظات الجميلة التي تُعطيها لنا الحياة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button