إنّ الله إلى جانب المظلوم

عندما رأت جارتُنا رجُلاً خارجًا مِن شقّتي وسط الليل، لمَحتُ بوضوح بسمة انتصار على وجهها. لذلك أقفلتُ الباب في وجهها في رسالة واضحة منّي بعدَم قبولي تواجدها على السلالم في هكذا ساعة. فقد كان مِن الواضح أنّها أتَت خصّيصًا لتتجسّس عليّ بعدما رأَت حتمًا سيّارة غريبة مركونة أمام المبنى. حزنتُ كثيرًا لأنّني علِمتُ على الفور أنّ الخبَر سينتشرُ، ليس فقط في المبنى ولكن في الحَيّ أيضًا. فتلك المخلوقة كانت ثرثارة مشهورة وتأتي إليها كلّ النساء اللواتي تُشاركنَها حبّها لِنقل الأخبار. خطَرَ ببالي ردّة فعل زوجي لدى معرفته بالأمر، وكيف أنّه سيشكّ بوفائي له بينما هو مُسافر بداعي العمَل. كان سيُصدّقُ ما سيسمعُه لأنّنا لَم نكن مُتفّقَين على الإطلاق، بل حياتنا الزوجيّة باتَت مزيجًا مِن المُناكفات والتجاهل. كنتُ أعلَم أنّ لدَيه عشيقة في المهجَر ولَم أُبالِ كثيرًا، فكان همّي الوحيد هو تربية أولادي. رحتُ أنام في تلك الليلة مهمومة لأنّني لطالما كنتُ حريصة على سُمعتي.

وما لَم تعرفه الجارة الفضوليّة، هو أنّ الرجُل الذي غادَر شقّتي ليلاً كان طبيبًا إستدعَيتُه أوّلاً لأنّه طبيبي المُعالِج وثانيًا بسبب شعوري بوعكة صحّيّة لا تنتظرُ إلى اليوم التالي. فالحقيقة أنّ قلبي كان مريضًا مذ حمِلتُ بابني الأخير، والعلاجات التي اتّبعتُها لَم تكن كافية بل كنتُ بحاجة إلى عمليّة جراحيّة خفتُ أن أخضَع لها. لَم أُفصِح لأحد عن مرَضي، لأنّني أردتُ أن أبدوَ قادرة على الاهتمام بأولادي لوحدي بعدما حاوَلَ زوجي إقناعي بإشراك أخته في ذلك.

هند أخت زوجي كانت إنسانة بشعة الطباع ومُتعجرفة، ربّما لأنّها لَم تختبِر يومًا حبّ رجُل وتغارُ مِن كلّ أنثى تتمتّع ولو بشيء مِن السعادة. وهو أرادَ إلصاقها بي ليُريحَ باله مِن ناحيتها، بعدما صارَت تعيشُ لوحدها في البيت العائليّ بعد وفاة والدَيها. لكنّني رفضتُ ذلك بوضوح وسئمَ زوجي مِن المُحاولة.

في صباح اليوم التالي التقَيتُ بجارتي التي قالَت لي مُبتسمة: "كيف حال زوجكِ المُسافر؟ متى سيعود؟ فلا يجدرُ به ترك زوجة حسناء لوحدها". لَم أُجِبها بالطبع، فلَم أعتَد على تبرير نفسي لأحد خاصّة إن كنتُ لا أفعَل شيئًا مُشينًا. رحتُ إلى عمَلي وأولادي إلى مدارسهم، وقضَيتُ نهارًا عاديًّا وسط زملائي. خابرَني الطبيب ليسأل عن حالتي وطمأنتُه بأنّني بخير. وهو عادَ وأكّدَ لي أنّ لا مفرّ للعمليّة وكلّ ما أفعلُه هو وضع حياتي بخطَر. وأنهى حديثه قائلاً: "إن متِّ يا سيّدتي، مَن سيتهمّ بأولادكِ؟". ورَدَت ببالي فجأة فكرة أخت زوجي لو أنّها حلَّت مكاني، فارتعبتُ وطردتُ تلك الصورة الرهيبة مِن رأسي.

بعد حوالي الشهر، أتى زوجي لقضاء أيّام قليلة معنا ثمّ عادَ إلى المهجر. لكنّه خابرَني مِن حيث هو وقال لي:

 

ـ أنا على علم بزائركِ الليليّ... لا تُجادلي فلقد أخبرَتني جارتنا أنّها رأته يُغادرُ ليلاً شقّتنا... تفاجأتُ بكِ للحقيقة، فلقد حسبتُكِ زوجة صالحة ومُحترمة.

 

ـ أنتَ آخر مَن يجدرُ به التكلّم عن الأخلاق، فالكلّ يعلَم بأمر عشيقتكَ.

 

ـ أنا رجُل!

 

ـ وأنا إمرأة! على كلّ الأحوال، لَم يكن "زائري" عشيقًا فأنا أشرَف زوجة على الإطلاق، ليس مِن أجلكَ بل مِن أجل الحفاظ على سمعتي.

 

ـ ومَن يكون إذًا؟

 


عندها إضطرِرتُ لإخباره عن حالتي الصحّيّة، الأمر الذي كنتُ أُفضّلُ إخفاءه عنه. وحصَلَ ما توقّعتُه وما خفتُ منه: أمرَني زوجي المصون بالاستعانة بأخته بصورة دائمة. مانعتُ بشدّة إلا أنّه هدّدَني بقطع المصروف عنّي وعن البيت إن لَم أُطِعه.

وهكذا أتَت هند مع حقائبها لتعيش معي، ورأيتُ على وجهها علامات الانتصار والترقّب، فهي كانت تنوي حتمًا تنكيد حياتي لتمسي مثل حياتها، أي بائسة وفارغة.

فرِحَ الأولاد بعمّتهم، إذ أنّهم وجدوا فيها عنصرًا جديدًا بعد أن سئموا مِن العَيش فقط معي، وأمِلوا أن تأذَنَ لهم بما أمنعُه عنهم. لكن سرعان ما خابَ أملهم بعدما تعرّفوا بالعمق على طباع هند البشعة. فلَم يكن يُعجِبها شيء، مِن مذاق مأكولاتي مرورًا بترتيبي للبَيت وصولاً إلى طريقة تربيَتي لأولادي. وهي لَم تأخذ بِعَين الاعتبار مشاكلي الصحّيّة أو تسألني ولو مرّة كيف أشعرُ أو بماذا، بل تصرّفَت وكأنّها في بيتها بإذن مِن "الآمر الناهي". تحمَّلتُها لأشهر إلى أنّ طفَحَ كَيلي وكَيل أولادي، فأعربنا جميعًا لزوجي عن امتعاضنا وهو أجابَنا: "لن ترحَلَ هند بل هي باقية، عليكم الاعتياد على الأمر".

سبَّبَ لي الخبَر وعكة صحيّة جديدة، واستدعَيتُ الطبيب نفسه الذي استمَعَ لشكوايَ بصمت، ثمّ زفّ لي خبَر وجوب الخضوع للعمليّة بأسرع وقت، مؤكّدًا لي أنّ حياتي على المحكّ، ولمّحَ لي ما قد يحصل في حال غادرتُ هذه الدنيا، أيّ أنّ هند ستقلبُ حياة أولادي إلى جحيم فعليّ. إرتعَبتُ مِن هذه الفكرة، فأسرعتُ بأخذ موعد معه لإجراء الفحوصات اللازمة قَبل العمليّة. فلَن يأخذَ أحدٌ مكاني في البيت ومع أولادي!

توسّلتُ أمّي أن تترك، ولو لبعض الوقت أبي والقرية، لتكون مع أولادي ريثما أتعافى مِن الجراحة، إلا أنّها رفضَت، وحزنتُ كثيرًا لأنّها، مرّة أخرى، خذَلَتني. فلطالما كنتُ متروكة مِن قبَل ذويّ بسبب المسافة الجغرافيّة والعاطفيّة بيننا. رحتُ المشفى مع هند وصلَّيتُ أن تنجحَ العمليّة وأتعافى بسرعة.

وعندما إستفقتُ بعد أن زالَ مفعول البنج، لَم أجِد أحدًا بجانبي. بكيتُ قليلاً ثمّ غرقتُ في النوم. لَم يردّ على إتصالاتي كلّ مِن أخت زوجي أو أولادي فدخَلَ الهمّ قلبي الجريح. فعلَت الممرّضات جهدهنّ لتقديم التفسيرات لي لكنّني قرأتُ بوضوح الهمّ في عيونهنّ. فطلبتُ مِن طبيبي التقصيّ عن ذلك الصمت الرهيب مُهدّدةً بترك المشفى أن لَم يفعل. لكنّه هو الآخر لَم يستطِع الوصول إلى التكلّم مع أحد. لِذا أعطاني مُهدّئات أرغمَتني على البقاء في سريري.

مرَّت الأيّام وفهمتُ أنّني خسِرتُ أولادي. وفي اليوم الأخير، خابَرتُ الشرطة شارحة للمُحقِّق الوضع بكامله، وهو وعدَني بفعل ما بوسعه لإيجاد فلذات كبدي.

عدتُ إلى منزل فارغ وبالكاد استطعتُ القيام بأبسط الأعمال بنفسي. لَم يهمّني شيء سوى الحصول على تفسير يُريحُ قلبي. لكن، في داخلي، فهمتُ أنّ لُعبةً لُعِبَت عليّ أثناء تواجدي في المشفى.

إتّصَلَ بي المُحقِّق بعد يوم، ليقول لي آسفًا إنّ أولادي غادروا البلاد إلى أبيهم برفقة عمّتهم، وإنّ الأمر تمّ بقانونيّة كاملة إلا في ما يخصّ ولَدي الأصغر الذي كان عليه البقاء تحت وصايتي. لاحقًا، خابرتُ السفارة الموجودة حيث هو زوجي، وشرحتُ لهم ما حصل طالبة المُساعدة وبأقصى سرعة. أخذتُ لنفسي أيضًا مُحاميًا قال لي إن القضيّة صعبة نظرًا للمسافة التي بيني وبين زوجي، فبإمكانه أخذ الأولاد إلى أيّ مكان مِن ذلك البلد الشاسع أو الهروب بهم إلى بلد مجاور. إنهرتُ كلّيًّا وساءَت حالتي الصحّيّة، مما استدعى دخولي مُجدّدًا المشفى فغضِبَ منّي الطبيب:

 

ـ ما تفعلينَه بنفسكِ هو غباء يا سيّدتي، فستموتين إن استمرّ وضعكِ بالتراجع. لقد حذّرتُكِ سابقًا ممّا قد يحصل في حال مُتِّ، أي أنّكِ لن تعودي قادرة على فعل شيء مِن أجل أولادكِ. هل هذا عادل لهم؟ بالطبع لا. تعافي وقومي بكلّ ما يجب لاسترجاعهم أو على الأقّل الأصغر سنًّا منهم. الخيار هو خياركِ والتداعيات هي مسؤوليّتكِ.

 

كان الطبيب على حقّ في ما قاله، لِذا هدأتُ وركّزتُ على صحّتي، آملة بأن ينظرَ الله إلى وضعي ويضع حدًّا له.

تابعتُ القضيّة مع المُحامي الذي أوكَلَ زميلاً له في المهجر وساعدَتني السفارة كثيرًا. فما قامَ به زوجي يُعتبَر خطفًا، الأمر الذي يُعاقب عليه القانون. لكنّ الأمور كانت مُعقدّة جدًّا، خاصّة أنّ مُحامي زوجي أرادَ إثبات عدَم جدارتي في تربية صغيري بسبب صحّتي، وخاصّة بسبب ما أسماه "سلوكي الزوجيّ" أيّ أنّني أعيشُ حياة انحلال خُلُقي باستقبال الرجال في بيتي ليلاً. وعلِمتُ أنّ جارتي مُستعدّة للشهادة ضدّي إن اقتضى الأمر.

مرَّت سنة بكاملها وحصَلَ ما لَم أنتظره على الإطلاق: توفّيَت هند بسبب حادث مرور في المهجر. لَم أعرِف بالأمر إلى حين اتّصَل بي زوجي وقالَ لي بنبرة مليئة بالغضب والامتعاض:

 

ـ ستحصلين على مرادكِ يا زوجتي العزيزةّ... للحقيقة سئمتُ منكِ!

 

ـ ماذا تُريد؟ ألَم يكفِكَ ما فعلتَه بي؟ أخذتَ منّي أولادي في وقت كنتُ مُستلقية في غرفة الجراحة! أيّ رجُل أنتَ؟

 

ـ أقولُ لكِ إنّكِ ستحصلين على مرادكِ! فهند المسكينة... ماتَت دهسًا، ولستُ قادرًا على تربية الأولاد... على كلّ الأحوال لن تقبل زوجتي المُستقبليّة بهم.

 

ـ طلّقني!

 

ـ بكلّ سرور! سأُرسلُ لكِ صورة عن تذكرة سفرهم لتُلاقيهم في المطار ولاحقًا أوراق الطلاق. وداعًا!

 

لن تتصوّروا فرحتي، وأنا الأخرى لَم أتصوّر أنّني سأسعد بهذا القدر لخبَر موت أحد. فلو بقيَت هند على قيَد الحياة لَما رأيتُ أولادي مُجدّدًا.

يوم رحتُ المطار وعانقتُ أغلى ما لَديّ، رفعتُ عَينيَّ إلى السماء شاكرة. كَم أنتَ كريم يا رب! تزوّجَ ذلك الوحش بعد أن طلّقَني، ويوم وصلَتني الأوراق أخذتُ أولادي إلى المطعم وقلتُ لهم حين جلسنا وطلبنا الطعام: "لن يُفرِّق بيننا أحدٌ بعد الآن، وإن حاول أحدٌ ولو التفكير بذلك، فسأريه ما أنا قادرة على فعله... فأنا الآن إنسانة مُتعافية وأتمتّع بكامل قوايَ. ستكبرون تحت جناحَيَّ وسأحميكم مِن أيّ أذى أو قَلق، فهذا واجبي كأمّ... وكأبّ. عيشوا مِن دون خوف، بل اطمئنّوا لشيء بغاية الأهميّة: إن الله إلى جانبنا!".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button