إنتظرت الموت لكنني فهمت الحياة (الجزء الأول)

تحدثُ لنا أمورٌ عجيبة لا يكون لها تفسير... على الأقلّ في البدء. وكَوني شابًّا في الخامسة والعشرين مِن عمري، لا يعني ذلك أنّني لَم أفهَم معنى الحياة الحقيقيّ. فأحيانًا يلزمُنا ما أُسمّيه تدخّلاً إلهيًّا لتنفتِح عَينَانا ونرى بوضوح لماذا جئنا إلى هذه الدنيا. كلامٌ عميقٌ، أعلمُ ذلك، لكن ما اختبَرتُه يفوقُه عمقًا. دعوني أبدأ بِسَرد قصّتي لكم :

منذ صِغري وتنتابُني فكرة غريبة للغاية، وهي أنّني سأموتُ في سنّ العشرين. كيف أتَتني تلك الفكرة ومِن أين؟ لستُ أدري، وأذكرٌ هلَع والدتي أوّل مرّة ذكرتُ أمامها الأمر قائلاً:

 

- لماذا شَعر جدَّيّ أبيض اللون؟ آه... لأنّهما كبيران في السنّ... لن يبيَضّ شعري يا ماما، فلَن أشيخ... سأموتُ قبل ذلك بكثير... لا تحزني فأنا مُرتاحٌ للفكرة تمامًا، فهكذا هي حياتي.

 

وبدأَت المسكينة تُطمئنُني، مع أنّني بالفعل لَم أكن مشغول البال حيال أمر موتي باكرًا، ربّما لأنّني لَم أتعلَّق بعد بالدنيا وناسها.

ومع مرور السنوات، قوِيَ في داخلي ذلك اليقين، وصرتُ أفكّرُ مليًّا بالذي سيفوتُني حين أُغادرُ الحياة. فأنا كنتُ سعيدًا مع عائلتي ورفاقي في المدرسة وخاصّة مع أخوَتي الصغار. كيف سأتركُهم جميعًا في لحظة واحدة... وإلى أين سأذهَب؟ هل هناك حقًّا خالق ولِما هو بهذه القساوة ليُفرِّق بين الناس والأحبّاء بإنهاء حياتهم؟ هل يفعلُ ذلك بِداعي التسلية أم فقط لأنّه قادر على ذلك؟

بدأَ الإحباط يُصيبُني شيئًا فشيئًا، خاصّة أنّني صرتُ في السادسة عشرة مِن عمري واقترَبَ موعد موتي. تفادَيتُ الإقتراب مِن أيّة صبيّة وصرتُ أُعجَب بهنّ عن بُعد.

مرَّت سنتان ودخلتُ الجامعة... وعالَم الحبّ رغمًا عنّي. كان إسمُها هبة وكانت جميلة للغاية. وكعادتي، إبتعدَتُ عنها قدر المُستطاع، إلا أنّها هي مَن أوقعَتني. فمِن جانبها، شعرَت هبة بإنجذاب كبير نحوي، فتخطَّت خجَلها وقالَت لي في أحد الأيّام ونحن في باحة الجامعة:

 

ـ ألا أُعجِبُكَ؟

 

ـ ماذا؟؟؟ بلى... بلى. لكن لماذا هذا السؤال؟

 

ـ لأنّكَ تتهرّبُ منّي كلّما تواجدنا في المكان نفسه، لِدرجة أنّ الأمر صارَ محطّ حديث زملائي.

 

ـ إنّها مُجرّد تخيّلات... أؤكّدُ لكِ أنّني لا أتفاداكِ.

 


ـ حسنًا... إذًا ليس لدَيكَ مانع لتناول فنجان قهوة معي في مقهى الجامعة؟

 

ـ هيّا بنا.

 

وخلال تلك الجلسة تأكّدتُ مِن أنّ هبة هي الفتاة التي عليّ أن أكون معها، لكنّ الوقت كان عدوّي. فموعد موتي كان بعد سنتَين ولَم أرِد الإرتباط بِهبة لأُحزِن قلبها لاحقًا.

ستقولون لي إنّني أتخايَل أمر موتي في سنّ العشرين لكنّني كنتُ على يقين مِن الأمر. للحقيقة، لَم أسمَع صوتًا يقول لي ذلك أو أرَ حلمًا حيث أموت، بل علِمتُ تمام العلم ذلك كما نعلَم أنّ الشمس تُنيرُنا. وكلّ ما قالَته لي أمّي وكلّ براهينها وبراهين العالَم بأسره لَم تمحُ هذا اليقين أو تُخفِّف منه.

لَم أواصِل مواعدة هبة بل أدرتُ لها ظهري، فمهما كان حزنُها كبيرًا على تجاهلي لها، لن يكون بِحَجم حزنها على موتي بعد سنتَين.

لكنّ عناد تلك الصبيّة كان أسطوريًّا وهي لَم تستسلِم. فهي بقيَت تدورُ مِن حَولي مُدركةً أنّها تُعجبُني كثيرًا، وأنّ شيئًا ما يمنعُني مِن التواجد معها بصورة رسميّة. لذا ظنَّت هبة أنّني مُصابٌ بِداء ما، فسألَتني يومًا:

 

ـ لن أدَعكَ وشأنكَ... أشعرُ بأنّنا وُلِدنا لِنكون لِبعضنا... ليس مِن عادتي أن ألحَقَ الشبّان بل العكس. قُل لي ما يُزعجكَ... هل الذنب ذنبي؟

 

ـ أبدًا! بل أنتِ إنسانة رائعة!

 

ـ إذًا هناك أمرٌ خطير للغاية... هل أنّ أيّامكَ معدودة؟

 

ـ كيف علِمتِ بالأمر؟!؟

 

ـ أنتَ مُصاب بِمرض خبيث؟

 

إرتاحَ قلبي حين قالَت لي ذلك، فالإصابة بِمرض أفضَل مِن يقين بالموت لا أساس له، فلَم أرِد أن تعتقِد هبة أنّني مجنون. وأجبتُها:

 

ـ أجل... مرَض خبيث للغاية. لِذا لا يجدرُ بي ربط أحد بي.

 

ـ وإن كنتُ مُستعدّة لِقضاء ما تبقّى لكَ مِن وقت معكَ؟

 

ـ هذا مُجرّد كلام جميل يا هبة، فالواقع أكثر جدّيّة مِن ذلك. لن أقبَل عرضكِ، أنا آسف.

 

ـ سأبقى أُطاردُكَ! فمِن الأفضل لِكلَينا أن نقضي وقتًا نوعيًّا معًا ونعيش قصّة حبّ جميلة. لِنُعلِن خطوبتنا كي لا يتكلّم الناس عنّا، وحين تأتي ساعتكَ ستأتي. أودُّ أن أكون بِجانبكَ خلال مراحل مرضكَ. ومَن يدري؟ فقد تشفى!

 

ـ لماذا يا هبة؟ كلّ شبّان الجامعة يحومون مِن حولكِ. لماذا تُضحيّن بسنواتكِ مع إنسان سيختفي مِن الوجود في غضون لحظات؟ ستتألّمين وتبكين وتَيأسين... أنتِ في مُستهلّ حياتكِ وعليكِ أن تضحكي وتحلَمي وتفرَحي.

 

لكنّها بقيَت مُصرّة إلى أن استسلَمتُ لها. وأعترفٌ أنّ حبّنا أَنساني قليلاً هاجسي، فإن كنتُ سأموتُ قريبًا، عليّ على الأقل الإستمتاع بما تبقّى لي.

 


إقترَبَ موعد عيد ميلادي العشرين وعادَت إليّ مخاوفي. كنتُ حتى ذلك الحين قد أوهَمتُ هبة بأنّني أتعالَج، لكنّني طبعًا لَم أعطِها أيّ أمَل في شفائي.

وقبل الموعد المحتوم بحوالي الشهر حصَلَ ما انتظرتُه منذ صِغري: فحين كنتُ عائدًا ليلاً على درّاجتي الناريّة مِن زيارة لِهبة وأهلها، وقَعَ الحادث. لَم أكن مُسرعًا وكانت الطرقات فارغة تمامًا. مِن أين جاءَت تلك المركبة الضخمة، لستُ أدري! ففي غضون ثوانٍ سمعتُ صوتًا رهيبًا يُشبهُ صوت عظام تنكسِر، وطرتُ عاليًا ثمّ خبطتُّ أرضًا. وقبل أن ألمِسَ الأرض بلحظة واحدة صرختُ عاليًا: "أشهدُ أنّ لا إله إلا الله!". فقدتُ طبعًا وعيي لِمدّة لا أعرفُها، ثمّ فتحتُ عَينَيّ لأرى رجُلاً واقفًا أمامي مُرتبكًا ويُتمتِم: "لَم أرَكَ! لَم أرَكَ! سأطلبُ النجدة في الحال... أرجوكَ، لا تمُت!". غبتُ عن الوعي مُجدّدًا ظانًّا أنّني سأموتُ، فالجدير بالذكر أنّني لَم أكن ألبِس خوذةً لِحماية رأسي خلال قيادة درّاجتي.

إستفقتُ في المشفى مُحاطًا بالأهل وبِهبة، وكانوا كلّهم يبكون ويبتسمون في آن واحد. ثمّ دخَلَ طبيبٌ قال لي: "مبروكٌ أيّها الشاب... فلقد أُصِبتَ فقط بِرضوض، وليس هناك مِن كسور". فرِحتُ للغاية لكن عدتُ وتذكّرتُ صوت عظامي لحظة الصدمة. كيف يُعقَل ألا أُصابَ بأيّ كِسر؟ أمرٌ غريب للغاية!

عدتُ إلى البيت في اليوم التالي بعد أن اطمأنّ الطبيب تمامًا عليّ، لكنّني لَم أكن مُرتاحًا على الإطلاق. فهل ذلك الحادث هو الذي كنتُ سأموتُ مِن جرّائه؟ إذًا لماذا بقيتُ حيًّا ولَم أتأذَّ على الإطلاق؟ قرّرتُ الإنتظار حتى أشفى مِن رضوضي لأتمعَّن في التفكير بما جرى. وقرّرتُ أيضًا أن أُطلِعَ هبة على الحقيقة، فهي كانت تستحقّ كلّ خير لأنّها بالفعل إنسانة رائعة. فكَم مِن الصبايا تقبلنَ بِرَبط حياتهنّ بإنسان مريض ومصيره الموت؟

في البدء إستاءَت هبة كثيرًا لدى سماعها قصّتي ونعَتَتني بالكاذب والمُحتال، لكنّني قلتُ لها بعد أن مسَحتُ دموعها:

 

ـ لو قلتُ لكِ إنّ لدَيّ يقينًا بأنّني سأموتُ في سن العشرين، هل كنتِ لِتُصدّقيني؟

 

ـ لا... لا بَل كنتُ اعتقدتُكَ مجنونًا. لكن أن تدّعي المرَض طوال سنتَين والخضوع للعلاج... هل سأستطيع الوثوق بكَ مُجدّدًا؟

 

ـ أجل... على كلّ حال، سأحملُكِ على الوثوق بي، لا تخافي... وعلى الزواج منّي.

 

تعانَقنا وابتسمَت لي حبيبتي مُجيبة: "لَم أتخايَل أبدًا أنّني سأسمعُ تلك الجملة منكَ. المهمّ أنّكَ لستَ مريضًا، وإن كان ذلك الحادث هو ما توقَّعتَه منذ صِغركَ، فها أنتَ حيّ، ما يعني أنّكَ لن تموت إلا بعدما تشيخ!".

إشترَيتُ درّاجة جديدة بعدما تكسَّرَت السابقة وصرتُ ألبسُ الخوذة، فكنتُ سأصبحُ عريسًا ومِن واجبي الحفاظ على حياتي مِن أجل التي صبرَت وتفهَّمَت كلّ ما جرى. للحقيقة، كنتُ بدأتُ أنسى أمر ظروف حادثي وما سبقَه مِن يقين مِن موتي في سنّ العشرين، لكثرة حماسي للزواج ودخول حياة جميلة مع هبة.

وفي تلك الفترة بالذات حصَلَ أمرٌ غيَّرَ مفهومي ونظرتي للحياة والكون وخالقه.

 

يتبع...

المزيد
back to top button