إمرأة... وناجحة!

صحيح أنّ المرأة قد بدأت تحصل على حقوقها، لكنّ المساواة مع الرجل لا تزال بعيدة المنال، خاصّة في ما يتعلّق بمجال العمل. فكَم مِن الصعب على الرجل أن يتلّقى تعليماته مِن رئيسته في العمل، وأن يقبل توبيخاتها كما لو أنّها مِن الجنس نفسه. وقد شاءَت الظروف أن يتترجَم تفوّقي الجامعيّ بِنَيل منصب عالٍ في إحدى الشركات، وهذا مِن دون أن تكون لدَيّ خبرة فعليّة، فمجلس الإدارة رأى ألا يجدرُ تفويت فرصة الإنتفاع مِن قدراتي. وأمام تردّدي، وُعِدتُ بأن أحصل على المُساعدة والمُساندة اللازمَتَين مِن قِبَل باقي الموظّفين. للحقيقة لَم أحلُم يومًا أن تأخذ حياتي مجرىً كهذا في حين كان زملائي السابقين في الجامعة قابعين في البيت مِن دون عمَل أو، على الأكثر، قد حصلوا على فترة تجريبيّة في شركات صغيرة. أحببتُ مهمّتي الجديدة وبدأتُ العمل بحماس، وأبدَيتُ استعدادًا للتعلّم حتى مِن الذين هم أقلّ منّي منصبًا. فأحبّني الجميع. الجميع؟!؟ ليس تمامًا، إذ كان هناك جمال، وهو رجل في الأربعين مِن عمره ليس نافعًا بل أمضى حياته في العمل نفسه مِن دون أن يتكبّد عناء التقدّم. وكان ذلك الرجل هو المُساعد الخاصّ لعلاء، الشخص الذي حلَلتُ مكانه، فامتلأ قلبه بِعداوة ضدّي وكأنّني كنتُ السبب المُباشَر لرحيل مديره القديم، في حين علمتُ أنّه طُرِدَ بسبب قضيّة غامضة.

ومنذ يومي الأوّل، عمِلَ علاء وجمال على التفتيش عن ثغرة ما لإبعادي نهائيًّا عن الشركة، ليس امتعاضًا فقط مِن وجودي في ذلك المركز، بل كَوني إمرأة. فلَم يتحمّل علاء أن تأخذ مكانه صبيّة، ورفَضَ جمال أن يتلّقى أوامر منّي للسبب نفسه. وأنا مُتأكُدة مِن أنّهما لَم يكونا ليفكّرا بتدميري لو كنتُ رجلاً.

وهكذا صارَ مُساعدي الخاصّ عدوًّا يُضمرُ لي الشرّ.

عملي كان دقيقًا للغاية إذ أنّ ملفّات مهمّة كانت تتواجدُ بين يدَيّ طوال الوقت وكنتُ أعي كبر مسؤوليّاتي وضرورة السرّيّة لحسن سَير العمل.

ووسط هذه الكميّة مِن الجهد، وجدتُ الحبّ بشخص أحد عملائنا. لكنّني أبقَيتُ حياتي الشخصيّة سرّيّة، فلطالما لَم أحبّ أن يعرف أحدٌ بخصوصيّاتي خاصّة أنّ مُعاشرة أحد عملائنا قد يُفسَّر بأنّني أُعطيه أفضليّة في العمل وأسعار مُختلفة عن باقي عملائنا، ومَن يدري، معلومات تخوّله الربح السريع.

 


إلا أنّ ذلك الأمر لعِبَ ضدّي ولو بطريقة غير مُباشرة. فكان مُساعدي قد بدأ يُرسل على بريدي الخاص ومِن عنوان وهميّ رسائل قصيرة تقول: "أعلَم تمامًا ما الذي تفعلينَه سرًّا". وبالطبع ظننتُ أنّ أحدًا علِمَ بعلاقتي.

إستمرَّت الرسائل حتى وصلَت إلى هاتفي أيضًا، وخفتُ كثيرًا أن يُؤثّر ذلك على سمعتي ومنصبي في الشركة. لِذا أجبتُ في إحدى المرّات على المُرسل كاتبةً: "ماذا تُريد؟!؟". لَم أحصل على ردّ بل انقطَعَ التواصل لأيّام عديدة. لَم أُخبِر حبيبي بالأمر كي لا يشعر بالذنب تجاهي ويُقرّر أن ينفصل عنّي.

حين وصلَتني رسالة مِن المجهول الذي كان طبعًا جمال، كدتُ أقعُ عن كرسيّ فقد كانت تقول: "لدَيّ المعلومات الكافية للتسبّب بطردكِ... أو حتى سجنكِ... لِذا عليكِ إبقائي ساكتًا... أُريدُ تمرير ملفّات مُعيّنة مِن دون تدقيق... وإلا....". كيف لي أن أغشّ في عمل أحبُّه وأحترم أربابه؟ ضميري المهنيّ لَم يكن ليسمح لي بذلك قطعًا، فقرّرتُ عدَم الإنصياع إلى ذلك المُبتزّ حتى لو كلّفني الأمر فسخ علاقتي بحبيبي. صحيح أنّني كنتُ قد وجدتُ الحبّ، إلا أنّ الأمور مع حبيبي كانت لا تزال في أوّلها، ولَم يكن مِن الواضح بعد إن كنّا سنتزوّج أم لا. ولو علِمتُ أنّ مُساعدي جمال ومديره السابق يودّون إقحامي في عمليّة تزوير لِفضحي والتسبّب بطردي لمَا خفتُ بهذا القدر. إلا أنّني لَم أتصوّر أنّ الذي يعمل لدَيّ طوال النهار هو بالفعل إنسان ماكر ومنحطّ وأنّه ينوي لي الشرّ المُطلَق.

لِذا تواعدتُ مع حبيبي في أحد المقاهي وزفَّيتُ له خبر تركي له مُدعيّةً عدَم الإنسجام معه. لَم أفصِح عن السبب الحقيقيّ، لأنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّه سيتحمّس ويُقنعني بالوقوف بوجه المُبتزّ، الأمر الذي لَم أكن أُريدُه لأنّني كنتُ أرفض أن تتلطّخ سيرتي المهنيّة بأيّ شائبة مهما كانت صغيرة. إنفصلنا وكنتُ حزينة للغاية.

بعد يومَين بالتحديد، دقَّت باب مكتبي إحدى السكرتيرات فدعوتها للدخول. للحقيقة كنتُ أحبّ تلك الشابّة التي تعمل بجدّ وتمنَّيتُ لو هي تكون مُساعدتي بدلاً مِن جمال. جلسَت الشابة وقالَت لي:

 

ـ أحبُّكِ كثيرًا يا آنستي... أنتِ مثَلي الأعلى وأتمنّى لو أكون مثلكِ إلا أنّ الظروف لَم تسمَح لي بإكمال دراستي.

 

ـ أشكرُكِ كثيرًا، كلامكِ يُفرحُ قلبي.

 

ـ وأرى أنّ حصولكِ على هذا المنصب كونكِ إمرأة قد أزعَجَ الكثيرين.

 

ـ وهم أغبياء... المهارة لا تُقاس بالجنس ولقد ولَّت أيّام الذكوريّة، فالعالم بأسره إعترفَ بقدرات المرأة. لا عليكِ.

 

ـ لقد سمعتُ جمال وهو يتكلّم عبر الهاتف مع السيّد علاء.

 

ـ علاء؟

 


ـ المدير الذي كان يشغلُ منصبكِ قبل قدومكِ... رجل نصّاب بحق!

 

ـ وما المشكلة إن تكلَّم جمال مع مديره السابق؟

 

ـ كانا يتكلّمان عنكِ. أتدرين أمرًا يا آنستي؟ الذين هم مثل جمال أو السيّد علاء لا يرونَنا نحن السكرتيرات، فبالنسبة لهم نحن جزء مِن الديكور وينسون أنّ لدَينا أعيُن وآذان وولاء لمَن يُعاملنا بمحبّة وتقدير. لن أنسى يوم كلّفتِني بمهمّة ملفّ عميلنا في فرنسا، فلقد شعرتُ كَم أنّكِ تثقين بي وتُقدّريني.

 

ـ صحيح ذلك وقد أطلبُ منكِ أمورًا أخرى في المستقبل. قولي لي... ما الذي دارَ مِن حديث بين الرجلَين بشأني؟

 

ـ لستُ أدري تمامًا بل كان محوَره رسائل إلكترونيّة على جمال إرسالها لكِ، أو شيئًا مِن هذا القبيل. أذكرُ أنّ مُساعدكِ قال للآخر: "يوم تأمُرني إمرأة لَم يأتِ بعد... سترى كيف سأضعُها في مكانها المُناسب".

 

ـ هكذا إذًا... أشكرُكِ كثيرًا وليبقَ حديثنا هذا بيننا ريثما أتصرّف.

 

علِمتُ طبعًا أنّ جمال، وبمساعدة علاء، هو الذي يُرسل لي التهديدات بقصد إقحامي وتوريطي في ما قد يُسبّبُ لي الطرد وربمّا أكثر بعد. لكن كيف له علِمَ بوجود شخص في حياتي؟ للحقيقة هو لَم يعلَم شيئًا بل أدركتُ لاحقًا أنّه كتبَ لي "أعلَم تمامًا ما تفعلينَه سرًّا"، لأنّ لكلّ منّا أمورًا نخفيها أكانت مهمّة أم لا. ولو لَم أتجاوب معه ظانةً أنّه يتكلّمُ عن حبيبي، لكان وجَدَ طريقة أخرى لِحَملي على تزوير ملفّات وفضحي أمام مجلس الإدراة ليتمّ طردي. كان الأمر مجرّد تلاقي ظروف بطريقة الصدفة. وتعلّمتُ مِن تلك التجربة ألا يكون هناك أسرار لدَيّ مهما كلَّفَ الأمر.

حين وصلَتني رسالة مِن جمال على هاتفي تقول: "أريدُ ردًّا سريعًا منكِ وإلا اضطررِتُ لفضحكِ"، أجبتُه: "أنتَ مطرود يا جمال. إجمع أمتعتكَ من مكتبكَ وتوجّه على الفور إلى قسم المحاسبة لقبض راتبكَ. أعلَمُ تمامًا ما كنتَ تنوي حَملي على فعله بمساعدة الأستاذ علاء، لكنّكَ وقعتَ على مديرة نزيهة لا تخاف مِن شيء ولن أتردّد عن التبليغ عنكَ للشرطة، فالإبتزاز هو جرم يُعاقِب عليه القانون ولن يصعب على المحققّين معرفة صاحب عنوان البريد أو الرقم الذي تُبعَث منه الرسائل. أمامكَ نصف ساعة لإخلاء المكان".

بقيتُ في مكتبي نصف ساعة وخمس دقائق ومِن ثمّ دخلتُ مكتب جمال لأجده فارغًا. إبتسمتُ لانتصاري عليه ونادَيتُ السكرتيرة قائلة لها:

 

- حضّري نفسكِ، فلدَينا الكثير مِن العمل سويًّا... أيّتها المُساعدة الجديدة!

 

ومِن ثمّ دعوتُ باقي الموظفين لإجتماع وقلتُ لهم بعد أن اكتمَلَ النصاب:

 

ـ لن أكرِّر كلامي هذا، فاسمعوني جيّدًا... نحن هنا لنعمل سويًّا كفريق، ونجاح هذه الشركة يعني استمراريّتنا في عملنا وتمكّننا مِن العَيش بكرامة... صحيح أنّني امرأة لكن حين أدخلُ هذه المكاتب في الصباح أصبحُ مديرة وحسب. ومَن لدَيه مُشكلة مع جنسي فهناك الباب وليخرج منه مِن دون عودة.

 

سكَتَ الجميع ثمّ ملأ التصفيق المكان. إبتسَمتُ وأضفتُ:

 

- ماذا تنتظرون؟ هيّا إلى العمل!

 

بقيَ لي أن أُصارح حبيبي بحقيقة انفصالي عنه لكنّني رفضتُ الرجوع إليه، فهو كان لا يزال عميلاًً لدَينا ولَم أعد أُريدُ أن يُسبّب لي ذلك أيّ إحراج في المستقبل. سوف أحبّ مُجدّدًا لكنّ الوقت الآن هو للعمل والنجاح!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button