إمرأة بكل ما للكلمة مِن معنى

منذ صغري وأنا مفتونة بالميكانيك. كنتُ أتركُ اللعب مع صديقاتي، وأركضُ إلى كاراج العمّ أسعد للتفرّج عليه وهو يُصلح السيّارات. كنتُ أسمعُ طبعًا توبيخات كثيرة مِن أمّي التي كانت تأتي لإعادتي إلى البيت، وإقناعي باللعب بالعروسة كأيّ فتاة أخرى. لكنّني لم أكن مهتمّة بالدّمى بل بالسيّارات التي كنتُ آخذها مِن يدَي أخي الصغير، وأفحصُها وأفكّكُها لأُعيدُ تركيبها.

لم تتغيّر ميولي مع السنوات بل زادَت، وبدأتُ أفكّر جدّيًّا بالتوجّه إلى إختصاص ميكانيكي، لكنّ والدَيّ لم يُوافقان بل أجبَراني على دراسة الآداب لأنّ ذلك يُناسب الشابّات أكثر. ومع أنّني انصَعتُ لرغبتهما، بقيتُ أذهب إلى كاراج العمّ أسعد لمساعدته في العمل، ثمّ صرِت، سرًّا، تلميذتَه. هو الآخر حاول في البدء إقناعي بأنّ هذه المهنة مخصّصة للرّجال بسبب خشونتها ووسخها والحاجة إلى قوّة جسديّة لا تمتلكُها امرأة. لكنّ زنودي كانت قويّة كفاية، وبعد أن رأى صاحب الكاراج أنّني قادرة على القيام بالمهمّة، قَبِلَ تعليمي كلّ الذي يعرفُه. وأسِفَ أنّ أبناءه لم يُبدوا رغبة بتعلّم الصنعة، فاعتبرَني إبنته.

حصلتُ على إجازتي بالآداب، لكنّني لم أكن أنوي التدريس في أيّ مدرسة، فذلك لم يكن ما أهواه، واحتَرتُ لكيفيّة إخبار والدَيّ بأنّني قادرة على تصليح السيّارات.

في تلك الفترة بالذات، توفّيَ والدي المسكين بحادث مؤسف، ووجدنا أنفسنا مِن دون مُعيل. وبعد أن بكَيناه كثيرًا وحضّرتُ نفسي لنشل عائلتنا مِن العوز الذي ينتظرُنا، أخبرَتني أمّي بأنّ عريسًا تقدَّمَ لي. ماذا؟!؟ أتزوّج وأتركُ أحلامي التي صبرتُ عليها مدّة طويلة؟

بالطبع رفضتُ وبقوّة، لكنّ والدتي عَرَضَت عليّ رؤية العريس على الأقل. فهي كانت تعلم أنّ ذلك الشاب هو وسيم للغاية ومِن عائلة مرتاحة مادّيًّا، وأمِلَت أن يُؤثّر ذلك على قراري.

صحيح أنّني أُعجِبتُ بوائل، فهو كان بالفعل كما تتمنّاه أيّ فتاة، لكنّني لم أغيّر رأي. فأنا لم أختَره بنفسي، والرجل الذي سأحبُّه يومًا سألتقيه صدفة وأُغرَم به مِن أوّل نظرة.

إعتذرتُ مِن وائل وتمنَّيتُ له أن يجد مَن هي أفضل منّي، إلا أنّه غضِبَ كثيرًا، فمِن الواضح أنّه كان معتادًا على نَيل ما يُريدُه.

إستاءَت أمّي منّي ونعَتَتني بالـ"مُسترجلة"، وبأنّني منذ البداية لا أتصرّف كباقي الفتيات. حزنتُ كثيرًا، فكنتُ ولا أزال أتمتّع بكامل أنوثتي، وكأنّ النساء الحقيقيّات هنّ اللواتي تتبرّجنَ وتلبسنَ الفساتين وتتدلّعنَ طوال الوقت، وإنْ عمِلنَ فستختَرنَ مِهَنًا ناعمة مثلهنّ.

وبعد أن طارَت مِن يد أمّي فرصة إيجاد لي عريس غنيّ ليصرف علينا، خضَعَت للأمر الواقع، أي أن أجني أنا المال، بما أنّ أخي كان لا يزال صغيرًا.

 


وهكذا بدأتُ أعمل رسميًّا لدى العمّ أسعد الذي سُرَّ كثيرًا بي وبانتصاري على قرار أمّي. وتمَنّى الرجل أيضًا لو أنّ أحد أبنائه يُغرم بي ويتزوّجني لأدخل عائلته رسميًّا. ضحكنا سويًّا وباشرنا العمل.

بدأتُ أجني المال، وبدأَت ترى والدتي أنّني سعيدة بعملي ولَم أتحوّل إلى رجل بل بقيتُ كما أنا. وبعد سنتَين، إلتحَقَ أخي بي وصرنا فريقًا كفوءًا يعمل بجدّيّة وصدق، الأمر الذي جلَبَ لنا الزبائن الكثر. صحيح أنّ وجود صبيّة في كاراج كان، في البدء، مدعاة للحشريّة مِن قِبَل الناس، إلا أنّ الأمر باتَ طبيعيًّا، وباتَ الزبائن يثقون بعمَلي الذي كانوا قد وصفوه سابقًا بغير الجدّي أو المُجدي.

وحصل أن مرض العمّ أسعد ولَم يعد قادرًا على القيام بأبسط الأعمال، لِذا عَرَضَ عليّ شراء الكاراج منه خوفًا مِن أن يأتي غريب ويُسيء معاملتي وأخي أو يطردنا لجلب أناس مِن طرفه. بالطبع وافقتُ، واتّفقنا أن أدفع له بالتقسيط، أي كلّما تسنّى لي جمع المبلغ اللازم. كنتُ أعلم أنّ العمّ أسعد لم يكن مهتمًّا بالمال بقدر الحفاظ على كاراجه وعليّ، لِذا لم أشعر بأيّ ضغط لتسديد الأقساط.

لكنّ استلامي للكاراج لَم يُعجِب الكلّ، وبالأخصّ أولاد العم أسعد الذين كانوا حتى ذلك الوقت، غير مُهتمّين بتاتًا بالمصلحة بل كان لدَيهم أشغالهم. حاولوا بشتّى الطرق إقناع أبيهم بالعدول عن بَيعي الكاراج، لكنّ هذا الأخير بقيَ مصرًّا إلى أن وقّعنا العقد ولم يعد هناك مِن وسيلة لايقاف مشروعنا.

وضعتُ يافطة جديدة على باب الكاراج تحمل إسمي، ونظرتُ إليها بفخر وامتلأت عَينايَ بالدّموع بعد أن تحقّق حلمي أخيرًا. فلقد وقفتُ بوجه الجميع، وتحمّلتُ التلميحات البشعة مِن أجل هذه اللحظة بالذات. ووعدتُ نفسي بأن أبرَعَ بمهنتي حتى اليوم الذي سأصل فيه إلى عمر لا يسمح لي بالمواصلة.

لكن بعد أسابيع قليلة، إحترَق الكاراج بالكامل، ولَم أعرف بالأمر إلا حين وصلَني اتصال مِن أحد زبائني الذي كان مارًا ليلاً بالقرب مِن المحل. ولم يستطع فوج الإطفاء السيطرة على النيران بسبب المادّة المُشتعلة التي استُعمِلَت والتي أثبَتَت أنّ الحريق كان مُفتعلاً، وبدأَت التحقيقات. أُصِبتُ باحباط كبير بعد أن رأيتُ مدى الأضرار، فكان مِن المستحيل البدء مِن الصفر، خاصّة أنّني كنتُ لا أزال أدفع الأقساط.

لكنّ زبائني لم يكونوا مستعدّين للتخلّي عن خدماتي، فباتوا يجلبون سيّاراتهم إلى أمام باب الكاراج المحروق وأنا أُصلحُها بمعدّات إستأجرتُها مِن محّلات مُختصّة. وهذا الأمر أعطاني القوّة للمواصلة، لأنّه كان دليلاً على ثقة الناس بي وبعملي، وأنّ الأمل موجود بالرّغم مِن أبشع الظروف.

أدّت تحقيقات الشرطة إلى اكتشاف الفاعل، أو الفاعلين: أولاد العمّ أسعد. حزنتُ كثيرًا مِن أجل الرجل الذي لم يجد الرّجاء عند أبنائه، وإكرامًا له أسقطتُ حقّي، لكنّ الحق العام قضى بسجنهم مع وقف التنفيذ لأنّها كانت جنحتهم الأولى. إلا أنّ مُضرمي النار لَم يعملوا لوحدهم، فكان هناك شخصًا آخر لَم يشترك فعليًّا معهم بل ساعدَهم على التخطيط، لكنّهم لم يُعطوا إسمه للمحقّق. هل كانوا خائفين منه أم أنّ ماله كان الحافز لسكوتهم؟

لَم أعرف إسم الرجل الغامض إلا بعد فترة، ولم أشكّ أبدًا بأنّ له دخلاً بالموضوع، فكيف لي أن أتصوّر أنّ وائل، العريس المرفوض، كان قد حمَلَ في قلبه ضغينة هائلة ضدّي؟ هل كان يعتقدُ أنّ بفقداني الكاراج سأقبلُ به، أم أنّه أرادَ تلقيني درسًا لِعَدَم قبولي به؟

 


لَم أكن لأعلَم الحقيقة مِن دون مساعدة العمّ أسعد الذي، كما قلتُ سابقًا، يُحبّني وكأنّني إبنته، خاصّة أنّني كبرتُ لأصبح أعشقُ مهنته وأساهمُ باستمرار الكاراج الذي كان سيُقفَل مِن دوني.

فبعد أن انتهَت المحاكمة وأسقطتُ حقّي في ما يخصّ أولاد العمّ أسعد، جاء العجوز إلى بيتي، وتفاجأتُ للأمر لأنّها كانت المرّة الأولى التي يزورني فيها. إستقبلناه بحرارة وقدّمنا له الطيّبات وبدأنا نتكلّم عمّا حدَث. مِن بعدها، أخَذَ الرجل نفَسًا عميقًا وقال لنا:

 

ـ أنا آسف جدًّا لِما أصابكِ يا ابنتي، وأنا أعفيكِ مِن باقي أقساط الكاراج، فهذا أقلّ ما بإمكاني تقديمه لكِ بعدما فعلَه أبنائي.

 

ـ أشكرُكَ مِن كلّ قلبي... أنا لا أحملُ ضغينة تجاه أولادكَ، فالذي فعلتَه أنت مِن أجلي منذ سنوات طويلة يُعوّض لي معنويًّا. أمّا مِن الناحية العمليّة والماديّة، فكما ترى، لقد استطعتُ الإستمرار بفضل دعم زبائني لي.

 

ـ وبفضل مهاراتكِ ونزاهتكِ. إسمعي يا ابنتي، جئتُ أيضًا أحذّركِ مِن أنّ مصائبكِ قد تكون غير مُنتهية بعد.

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ كما علِمتُ، لا يزال شخص لَم يُلقَ القبض عليه، ومع أنّ أولادي لم يعترفوا باسمه، فلقد أخبروني مَن يكون.

 

ـ قُل لي أرجوكَ!

 

ـ إسألي أمّكِ.

 

إستدَرتُ نحو والدتي التي بدأَت ترتجف كالورقة، والتي لم تعد قادرة على الكلام لكبر الصدمة. فهي لم تتوقّع أن يكون أحدٌ على علم بمساهمتها في حريق الكاراج.

أجَبرتُها على الكلام، وهذا ما قالَته لي:

 

ـ أنا آسفة يا حبيبتي، لم أقصد أبدًا أن يحصل ما حصل... جاء إليّ وائل وكان لا يزال يُريد الزواج منكِ، وقلتُ له إنّكِ فتحتِ الكاراج وأحوالكِ جيّدة. إستمَعَ إليّ، ومِن ثمّ شَرَحَ لي أنّه يستطيع تأمين حياة أجمل بكثير لكِ... ولنا، شرط أن تقتنعي بترك مهنتكِ. إلا أنّ ذلك لم يكن ليحصل إلا إذا حدَثَ مكروه للكاراج. عندها قال: "ماذا لو أحترقَ المكان؟ لن يتأذّى أحد، أعدُكِ بذلك". وأنا وافقتُه شرط أن يتزوّجكِ بأسرع وقت وأن يدفع لي مبلغًا مِن المال.

 

ـ بعتِني يا أمّي؟!؟

 

ـ لا! بل كان ذلك تأمينًا ليبقى وائل على وعده.

 

لكنّ الحقيقة أنّ والدتي باعَتني، ولَم تُزعجها فكرة إحراق الكاراج وتدمير أحلامي. حزِنَ قلبي إلى أقصى درجة وامتلأت عَينايَ بالدموع. ثمّ تابَعَ العمّ أسعد:

 

ـ عندها قصَدَ وائل أولادي، لأنّ أمّكِ قالَت له إنّهم استاؤا كثيرًا لأنّ الكاراج لن يكون لهم، وسويًّا خطّطوا لحرق المكان بغية إبعادكِ وإحباط عزيمتكِ مِن جهّة، وحملكِ على الزواج مِن وائل مِن جهّة أخرى. لكن لدَيّ طلب يا ابنتي: لا تقسي على أمّكِ، فكما سامحتِ أولادي، عليكِ أن تسامحيها هي الأخرى. لا تُزجّيها في المحاكم وتشوّهي سمعتها، فإذا كانت هي ضعيفة وطمّاعة، كوني أنتِ أفضل منها.

 

بالطبع لم أشتكِ على أمّي، لكن كان عليّ إيقاف وائل عند حدّه قبل أن يجد طريقة أخرى لأذيّتي. لِذا اتصلتُ به، وأخبرتُه بأنّني صرتُ على علم بتورّطه بالحريق، وأنّ لدَيّ الإمكانيّة لسجنه بفضل شهادة أمّي والعمّ أسعد وأولاده، وإذا لَم يكن يُريد تلطيخ سمعته إلى الأبد، فمِن الأفضل له أن يتوارى عن الأنظار ويدَعني وشأني إلى الأبد.

وبالفعل إختفى وائل بصورة دائمة واستطعتُ اكمال حياتي، أي العمل لإعادة بناء وترميم الذي احترَقَ.

ساعدَني الجميع، وها أنا اليوم صاحبة كاراج كبير. ووقعتُ في الحبّ بعد أن أرسل لي الله رجلاً عاقلاً وحنونًا أحَبَّ إقدامي وطموحي وإصراري على تحقيق نفسي، ودعَمَني إلى أقصى درجة. صحيح أنّني أُلطّخ يدَيَّ بالشحم طوال النهار، لكن عندما أرجع في المساء إلى زوجي الحبيب وطفلي الجميل، أعود إلى طبيعتي، أي إمرأة بكلّ ما للكلمة مِن معنى.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button