إصراري أنقَذَ العديد

كم أنّ المجتمع مجحفٌ بحق المرأة... حتى لو لم تفعل شيئًا فهي تُعتبر مذنبة، لذا تفضّل السكوت حتى لو كان ذلك على حساب سلامتها وسلامة باقي النساء.

كنتُ في الخامسة عشرة مِن عمري حين أهداني أهلي كلبًا لطيفًا للغاية. كانت فرحتي لا توصف، خاصّة أنّني كنتُ ابنة وحيدة ووجَدتُ بذلك المخلوق الصّغير الرّفقة التي كنتُ أتوق إليها. أسمَيتُ كلبي فوفو، وكنتُ مسؤولة عن تنظيفه وإطعامه وأخذه في نزهات ثلاث مرّات في النهار.

أخَذتُ مسؤوليّاتي على محمل الجدّ فهذا كان طبعي ولا يزال. لكنّني لم أكن أنزّه كلبي بمفردي، بل كنتُ أطلب مِن جارتي سهى أن ترافقني لأنّها كانت مِن سنّي وتحبّ الكلاب كثيرًا.

مرَّت الأشهر بسلام، واعتادَ فوفو عليّ وعلى العَيش معنا، إلى أن لاحظتُ أنّ شخصًا يتبعني وسهى عندما كنا نأخذ فوفو في نزهته المسائيّة. أقول مسائيّة مع أنّ الساعة لم تكن تتجاوز السابعة مساءً، إلا أنّ الشمس كانت تغيب باكرًا في ذلك الحين، أي في فصل الشتاء.

كنّا نرى رجلاً يمشي وراءنا، ولكنّه لم يكن يقترب كفاية لنعتبره تهديدًا لنا، فقد كان مِن الممكن أن يكون طريقه في ذلك الوقت بالذات يُصادف مرورنا، إلا أنّنا قرّرنا أن نأخذ حذرَنا منه.

مع الوقت تعوّدنا على رؤية ذلك الرجل، والحقيقة أنّنا لم نعد نعِره أهميّة، فلو كلّمنا أو نادانا أو أقتَرب منّا ولو مرّة واحدة لاعتبرناه يُشكّل خطرًا جديًّا علينا.

وشاءَت الظروف أن تمرض سهى وتغيّبَت ليومَين متتاليَين عن مرافقتي. وخَطَرَ ببالي أن أطلب مِن أحد آخر المجيء معي في نزهتي المسائيّة، إلا أنّني قرَّرتُ اختصار المشوار إلى أدنى حدّه أي حتى يقوم كلبي بحاجته، واعدة نفسي بالعودة بسرعة.

ولكنّ المفترس كان يتربّص بي وينتظر اللحظة التي سأكون فيها لوحدي بالحيّ.

ولولا كلبي الوفيّ لمَا شعَرَتُ بأحد يقترب منّي، ولكنّ فوفو بدأ بالنباح فاستَدرتُ في الوقت المناسب لأدركَ أن الرجل كان ينوي الانقضاض عليّ. ما لاحظتُه أيضًا هو أنّ سرواله كان مفكوكًا، فبدأتُ بالصّراخ والركض. كان بإمكان فوفو عضّ الرجل برجله لو تركتُه يفعل، ولكنّني جرَرتُه معي في الركض.

 


ولكثرة خوفي لم آخذ طريق البيت، بل دخَلتُ زقاقًا موازيًا ووجَدتُ نفسي في مكان ضيّقٍ ومظلمٍ. ظنَنتُ فعلاً أنّني سأقع ضحيّة ذلك المهووس الجنسيّ، وبدأتُ أبكي حين دخلَت سيّارة في الزقاق فهَرَب واختفى.

عدتُ إلى بيتي باكية ولاهثة وأسرَعتُ بإخبار أمّي بما حصَلَ لي، فبدأَت بالصراخ وقرَّرَت أنّني لن أخرج كلبي مجدّدًا حتى لو كان ذلك برفقتها شخصيًّا. عندها غضبتُ كثيرًا:

 

ـ لماذا هذا القرار؟ يُمكننا الذهاب إلى الشرطة وإخبارهم بالذي حصل وهكذا سيقبضون على المهووس!

 

ـ نذهب إلى الشرطة؟ أفقدتِ عقلكِ؟ وماذا سيقول عنّا الناس؟

 

ـ لم أفعل شيئًا ليتكلّم الناس عنّي! هو المريض وليس أنا! الشرطة موجودة لتحمينا مِن هكذا مجرمين!

 

ـ هذا لن يحصل! ستنسين الموضوع وتبقين في البيت!

 

ـ إلى متى؟ طوال حياتي؟ ماذا لو حصل مكروه لفتاة غيري؟

 

ـ هذا ليس مِن شأننا.

 

نظَرَتُ إلى أمّي وكأنّني أراها لأوّل مرّة، فقد كان خاب ظنّي بها بعدما قضَت سنوات تتكلّم عن الصّراحة والقوّة والعزم ومحبّة الآخرين. كانت والدتي مستعدّة لحرماني أنا وكلبي مِن الخروج ووضع فتيات أخريات في خطر محتوم، مِن أجل تفادي كلام الناس.

ولأنّني لم أعد قادرة على تنزيه كلبي العزيز ولم يكن والدايَ مستعدَّين لفعل ذلك، فضَّلتُ أن أعطيه لجمعيّة تُعنى بالحيوانات ليجدوا له مكانًا يكون أكثر سعادة فيه. وبكيتُ كلّ دموعي لهذا الظلم والجهل.

مرَّ حوالي الشهر عندما علِمنا أنّ فتاة إسمها دنيا تسكن حيّنا إغتُصبَت مع أنّها كانت برفقة أخيها الأكبَر الذي تلقّى ضربة قويّة على رأسه وهو يرقد في المشفى في شبه غيبوبة.

عرفتُ فورًا أنّ الجاني هو نفسه الذي لحقَني في الزقاق فركَضتُ إلى أمّي قائلة:

 

ـ هل أصبَحَ الأمر مِن شأننا الآن؟

 

نظَرَت أمّي إليّ بخجل فتابعتُ:

 

ـ أرأيتِ ما حصل؟ ولم تكن تلك المسكينة لوحدها! ذلك الرجل خطير للغاية وكنتُ متأكّدة مِن أنّه سيُعيد الكرّة! لو سمحتِ لي بأن أبلّغ الشرطة لَما وقعَت تلك الفتاة ضحيّة المهووس هي وأخوها! إسمعيني جيّدًا... سأذهب إلى القسم برفقتكِ أو مِن دونكِ فأنا مواطنة مسؤولة وهكذا ربَّيتِني أنتِ وأبي!

 

ـ أنتِ على حق... كم أنّني آسفة... لو...

 

ـ لا ينفع الكلام الآن يا أمّي، هيّا بنا!

 

ـ وأبوكِ؟

 


ـ تصرّفي أنتِ معه ولكنّني أعدكِ بأنّني سأفعل الصواب حتى لو قيّدتماني!

 

أقنعَت أمّي أبي بأن يسمح لنا بالتبليغ مع أنّه رفَضَ بقوّة في البداية، ولكنّه أقتنَعَ منها بعدما سمعتُها تقول له: "يا فؤاد... كيف ستثق ابنتنا بنا وبكلامنا إذا كنّا نناقض نفسنا؟ وماذا لو وقَعَت ضحايا أخرى؟ هل هذا يُرضي الله؟ إنّ الذي يسكتُ عن الجريمة هو شريك فيها".

ذهبنا نحن الثلاثة إلى قسم الشرطة حيث أدلَيتُ بشهادتي، ووصَفتُ لهم بدقّة الجاني لأنّني رأيتُه أكثر مِن مرّة وعن قرب.

لم يستعينوا بسهى لأنّها لم تكن موجودة حين هجَمَ عليّ القذر، وشكروني لحسّي بالمسؤوليّة وهنّأوا والدَيَّ بي.

ومع أنّني كنتُ فخورة بنفسي كثيرًا، لم أنفكّ عن التفكير بتلك الفتاة التي خسِرَت براءتها. هل كان عليّ الإصرار أكثر على أهلي في المرّة الأولى؟ هل أنا أيضًا مذنبة؟ بكيتُ عليها وعلى أخيها وعلى فوفو الذي كان هو الآخر ضحيّة الجهل الإجتماعيّ.

وبعد أقلّ مِن أسبوعَين تمّ القبض على المهووس بعد أن وجدوه متربّصًا في حيّ قريب منّا، واتصَلَ بنا المفتّش وطلَبَ التكلّم مع "البطلة"، أي أنا. بدأتُ أقفز مِن الفرح، خاصّة أنّ الجاني اعترَفَ فورًا بعد أن قالوا له إنّ دنيا وصَفَته، وصدّقَ الكذبة.

الامتنان الذي شعَرَتُ به امتزَجَ بالذنب، فقصَدتُ صديقتي سهى وعرَضتُ عليها مرافقتي إلى المشفى حيث هو أخ دنيا على أمل أن نجدها هناك. لم أخبر أهلي بما كنتُ أنوي فعله لأنّني خفتُ أن يمنعاني مِن الذهاب.

أخَذنا الباص ووصَلنا المشفى، وسألنا عن غرفة الشاب الذي تلقّى ضربة على رأسه في اليوم الذي حصَلَت به الحادثة، وصعدنا السلالم. لم أكن أعرف ما الذي سأقوله أو أفعله، وحين دخَلنا الغرفة ورأيتُ شابًّا نائمًا على السرير وبالقرب منه والدته وفتاة بعمري تقريبًا حزينة جدًّا، أخَذتُ نَفَسًا عميقًا وقلتُ للحاضرين:

 

ـ إسمي مُنى وأنا التي ساعَدت الشرطة في القبض على الجاني.

 

وسكتُّ وسكَتَ الجميع. خفتُ أن يشتموني لأنّني لم أبلّغ في الوقت المناسب، ولكنّني تفاجأتُ بدنيا تقف عن كرسيّها وتعانقني بقوّة قائلة:

 

ـ شكرًا!!! قيل لنا إنّ فتاة شجاعة ساهمَت بإيقاف ذلك المجرم، وكنت أحلم أن أتعرّف إليكِ! لقد انتقَمتِ لي، الأمر الذي سيخفّف عنّي مأساتي.

 

ـ ولكن... ألستِ مستاءة منّي؟ لو تكلّمتُ قبل أن... ولكنّ أهلي...

 

ـ أعلم ذلك، وأعلم كم أنّ الناس في مجتمعنا يخافون مِن القال والقيل، فأهلي فضّلوا ألا أدلي بشهادتي.

 

- هل أنتِ بخير؟ أقصد بعدما...

 

- أزور طبيبًا نفسيًّا لتخطّي مصيبتي... هذا هو قدَري وقدَركِ.

 

ـ قدَري أنا؟

 

ـ نعم، فبفضلكِ ستتشجّع الأخريات على التكلّم، كفانا اختباءً وراء أصبعنا والادّعاء بأنّ كلّ شيء على ما يُرام، أنتِ بطلة... بطلتي!

 

وأصبحنا أعزّ الصديقات، واسترجَعتُ كلبي العزيز وكبَرت ثقتي بنفسي، وصارَ والدايَ يثقان بي كثيرًا ويستشيراني وكأنّني بالغة.

أنا اليوم مناضلة لحقوق المرأة، ولا تزال دينا وسهى صديقتَيَّ أتقاسم معهما كلّ أوقاتي. والجدير بالذكر أنّ فَرَح دينا بعد أشهر قليلة ووعَدَتني بأنّ تسمّي ابنتها الأولى مُنى.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button