إدمان على الحب

كانت ثناء أختي بمثابة أمّ لي، فهي كانت تكبرني بعشر سنوات واهتمَّت بي حين بدأَت تظهر على والدتنا علامات المرض. لم أفهم آنذاك مدى خطورة حالة أمّنا، وخلتُ أنّها عرضيّة وفرحتُ أن تقضي ثناء معظم وقتها معي، بعدما أهملَتني طوال سنين بسبب فرق السنّ بيننا. لكنّ أمّنا توفّيَت بعدما أكلَها مرض السرطان، وأخَذَت أختي مكانها رسميًّا وفي كلّ شيء. حتى والدنا كان يحسب لها حسابًا ويستشيرها ويهابها أحيانًا. وتابعنا حياتنا نحن الثلاثة على هذا النحو.

كبرنا بهدوء، وبفضل جهود ثناء إستطَعنا نسيان حزننا، والتمتّع بما تقدّمه الحياة لنا مِن أمور جميلة كالحب. فوجَدت أختي مَن يُريحها أخيرًا ويردّ لها كل ما أعطَته مِن عاطفة، وذلك بشخص باسم، وهو شاب مهذّب ومحبّ يعمل في شركة أدوية ضخمة، أي أنّه قادرعلى تأمين حياة كريمة لها... ولي. فقد كان شرط ثناء الأوّل والأخير أن آتي للعَيش معهما حين يتزوّجا، لأنّ أبي كان قد وجَدَ هو الآخر الحب وخافَت أن يأتي لي بزوجة شريّرة. قَبِلَ باسم بشرط أختي، لأنّه كان يُحبّها كثيرًا ولأنّه أدرَكَ كَم هي متعلّقة بي. شعرَتُ بالإحراج لأنّني كنتُ قد فُرِضتُ على زوج أختي، ووعدتُ الثنائيّ بأنّهما لن يشعرا بوجودي.

وبقيتُ على وعدي، فبعد أن أنهَيتُ سنتي الدراسيّة الأخيرة، بحثتُ فورًا على عمل وتسجّلتُ في الجامعة كي أقضي أطول وقت ممكن خارج البيت، وأترك لأختي وزوجها حريّة عَيش حبّهما.

لم ينزعج باسم منّي، بل كان يفرح عندما أكون موجودة معهما، لأنّه كان يرى أنّ زوجته لا تسعد فعلاً إلا عندما أكون بجوارها. كانت حياتنا مثاليّة... إلى أن استيقَظَ المرض النائم في أحشاء أختي العزيزة.

كانت ثناء قد ورثَت داء السرطان مِن أمّنا، ولم يكن أي منّا يظنّ أنّ تلك الإنسانة النشيطة والقويّة ستنكسر وبشكل محزن للغاية.

 


كان مرض أختي مؤلمًا جدًّا، ناهيك عن الذي كانت تمرّ به كلّما خضَعت لجلسات الكيمياء. وشعرتُ أنا بعجز كبير أمام استحالَة مساعدتها وكذلك باسم الذي كان يقضي وقته يبكي. وحدها ثناء كانت القويّة بيننا، وهي التي أعطَتنا الشجاعة للمثابرة. فبالرّغم مِن آلامها، كانت تبقي بسمة على وجهها وتطمئنُنا بأنّها ستكون بخير. إلا أنّ الأطبّاء أكّدوا لنا أنّها لن تتحسّن، لكنّهم بقوا يعملون جهدهم لإبقائها حيّة أطول وقت ممكن. وهذا بالذات الذي كان يُثير غضب زوجها.

فبالرغم مِن حبّه العظيم لها، كان يرفض أن تكون ثناء محطّ ما أسماه "تجارب العلم"، ولامَ نفسه لأنّه لم يقف بوجه الذين عذّبوا حبيبته ليتأكّدوا مِن مفعول العلاجات العديدة التي اختبروها عليها.

وبعد أقلّ مِن سنة، وجدتُ أختي ميتة في فراشها.

موت ثناء كان نقطة فاصلة في حياتي، إذ لم أعد أشعر بالراحة أو الأمان مِن بعدها، وعُدتُ تلك الفتاة الخائفة مِن المجهول. وحده باسم عرِفَ كيف يُعيد إليّ البسمة حين كان يجلس معي ويحكي لي عن أختي بكلمات جميلة. وسويًّا كنّا نقضي ساعات يوميًّا نتكلّم عن التي رحَلت، وكأنّنا بذلك نبقيها حيّة بيننا.

لكنّ الناس بدأَت تتكلّم عن وجودي في بيت صهري وكان عليّ الرحيل، الأمر الذي لم يقبل به باسم. لِذا، عرَضَ عليّ أن نتزوّج صوريًّا، ووعدَني بأن يُعطيني حريّتي وقت أشاء. آنذاك، لم أجد الأمر غريبًا، لأنّ باسم كان بمثابة أب أو أخ لي، ولم أتصوّر العَيش بعيدًا عنه وعن المكان الأخير الذي سكنَت فيه ثناء.

وهكذا تزوّجنا وأسكَتنا الثرثرات وعشنا في البيت نفسه، لكن في غرَف منفصلة تمامًا.

لم أرَ الوقت يمرّ، ولم أكن على عجلة مِن أمري لتكوين عائلة خاصّة بي. وباسم، هو الآخر، كان سعيدًا معي.

لكن بعد أكثر مِن ثلاث سنوات، بدأ باسم يتصرّف بشكل غريب، وكأنّه يفقد عقله. كنتُ قد لاحظتُ أنّه صارَ ينسى أمورًا كثيرة، لكنّني لم أظن أبدًا أنّ رجلاً بسنّه قد يُصاب بما نسمّيه شعبيًّا "الخرف". تغيّرَت طباعه، وصارَ مزاجه متقلّبًا وكنتُ أحيانًا أخافُ منه. حاولتُ إقناعه بأن يرى طبيبًا، إلا أنّه بقيَ يرفض لأنّه لم يُقدّر مدى خطورة حالته. ولو لم يفقد الوعي ذات نهار، لَما رآه مختصّ واستطاعَ أن يُشخّص ما يشكو منه. كان باسم مدمنًا على المورفين، وهي مادة مخدّرة قويّة، والحقيقة أنّني تفاجأتُ كثيرًا بالخبر لأنّني لم ألاحظ ما كان يجري.

رفَضَ باسم قطعيًّا أن يُعالَج، بل بقيَ مصرًّا على تعاطي المورفين بالرّغم مِن توسّلاتي ومحاولاتي العديدة لإقناعه. فبالنسبة إليه، كان المورفين يُساعده على العَيش مِن دون ثناء. لم أكن أعلم أنّه كان لا يزال متعلّقًا باختي إلى هذه الدرجة، بل اعتقَدتُ أنّه تعلَّمَ كيف يعيش مِن دونها، كما فعلتُ أنا. لقد كان حبّه لها لا يُقاس، وحزنتُ كثيرًا عليه لأنّه لم يعرف كيف يُتابع حياته وظلَّ مصرًّا على تدمير نفسه.

أخذتُ قرار مساعدته، أي مراقبَته والبقاء إلى جانبه كي لا يتخطّى كميّة جرعاته، على أمل أن يقتنع منّي يومًا ويستعيد ذاته.

 


في تلك الفترة بالذات، تعرّفتُ إلى شاب أحبَبتُه كثيرًا وهو بادلَني شعوري، إلا أنّه اكتشَفَ أنّني متزوّجة وقرّر الإبتعاد عنّي. حاولتُ إفهامه أنّ باسم زوجي على الورق فقط، لكنّه لم يُصدّقني بل نعَتني بالفاسقة، الأمر الذي أحزنَني كثيرًا وفتَحَ عَينَيّ على الوضع الذي كنتُ فيه. وكي لا يتكرّر ما حَدَث لي، طلبتُ مِن باسم أن يُطلّقني. وعدتُه بأنّني سأبقى إلى جانبه لفترة، لكنّني سأنتقل للسكن لوحدي كي يتسنّى لي العَيش حياة طبيعيّة.

قَبِلَ صهري طبعًا أن يُعطيني حريّتي، إلا أنّه لم يتقبّل فكرة تركي له، لأنّني كنتُ كلّ ما تبقّى له مِن ثناء. فأخَذَ جرعة كبيرة مِن المورفين كادَ أن يموت مِن جرّائها. نقلَتُه على الفور إلى المشفى حيث استطاعوا إيقاظه بمجهود خاص.

عندما استفاقَ باسم وجدَني بالقرب منه، واضطرِرتُ لوعده بأنّني سأبقى معه وأنّني لن أذهب للعَيش في مكان آخر. إرتاح قلبه، وهو بدوره وعدَني بأن يُحاول الإقلاع عن إدمانه. كنتُ واثقة مِن أنّه سيتقبّل أمر ابتعادي عندما يُنظّف جسده مِن تلك المادّة اللعينة.

ومع الأيّام، بدأتُ أرى تحسّنًا بحالة باسم الذي مرّ بأوقات صعبة بسبب مقاومة جسده لإقلاعه عن المورفين، وعُدتُ أرى الرجل الذي أحبَّته أختي. لكن ذات مساء، عندما كنتُ جالسة مع باسم في الصالون، بدأ يبكي كالطفل ويُتمتم كلمات لم أستطع فهمها. ثمّ نظَرَ إليّ قائلاً:

 

ـ هل فعلتُ الصواب؟

 

ـ ماذا تقصد؟ هل أنتَ نادم على إقلاعكَ عن المورفين؟

 

ـ لا... لا. أقصد الذي فعلتُه بثناء... ثناء حبيبتي... كانت تتألّم كثيرًا ولم يكن هناك مِن أمل. قالوا إنّها ستموت حتمًا، ولم أرِد أن تعيش ولو لدقيقة واحدة بإذلال الألم.

 

ـ ماذا تقول؟!؟ ماذا فعلتَ؟!؟ تكلّم!

 

ـ شعرتُ أنّها تريدني أن أضع حدًّا لِما تمّر به... هي لم تقل شيئًا ولكن نظراتها كانت كافية... أعطَيتُها جرعة فائقة مِن المورفين فغادرَت الحياة بهدوء. نامَت نومًا عميقًا وارتاحَت أخيرًا.

 

ـ قتلتَ أختي؟!؟ أيّها المجرم! أكرَهكَ! مَن تخال نفسكَ لتتحكّم بحياة الآخرين؟ مَن؟؟؟

 

حزمتُ أمتعتي وأنا أبكي. كان صهري قد قتَلَ أختي الحبيبة، ثمّ أصبَحَ مدمنًا على المورفين ليُسكت ضميره وينسى ما فعلَه. تركتُ البيت وصاحبه مِن دون أن أودّعه.

بعد يومَين وصلَني خبر موت باسم. كان قد أخذ حقنة مفرطة مِن المورفين ليُلاقي ثناء. حزنتُ عليه بالرّغم مِن غضبي منه لأنّه، وبدافع الحب، فعَلَ ما إعتقدَه صوابًا.

حياتي اليوم سعيدة مع زوج محب وأولاد جميلين، لكنّ قلبي حزين على أمّي وأختي وصهري، إذ أنّ الموت أحاطَني منذ صغري وبقيَ يُلاحقني لسنين. ومع أنّه أمر لا مفرّ منه، أرجو أن يبقى بعيدًا عنّي وعن عائلتي أطوَل وقت ممكن.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button