إخترَعتُ خطّة خطرة للخروج مِن فقري

أعترف أنّني عندما إلتقيتُ بِوليد كنتُ قد قررتُ مسبقاً أن أرميَ شباكي عليه أو على الأقل على أحد يشبهه. فكنتُ قد سئمتُ مِن فقري الذي لازمَني ولازمَ أفراد عائلتي منذ أجيال عديدة وكبرتُ وأنا أسمع أمّي تقول لي:"لا تكرّري غلطتي يا حبيبتي... لا تتزوّجي مِن رجل فقير حتى لو بِدافع الحب فالحب وحده لن يأتِ لكِ بالمأكل والمشرب والملبَس." وشاهدتُها تتلاشى يوماً بعد يوم بسبب القلّة بعدما يئسَت مِن عدَم قدرتها على العيش كالأخرين والحصول على ضروريات الحياة.

وماتَت والدتي المسكينة قبل أن أبلغ الحادية عشر وتركَت لي أعباء المنزل وتربية إخوتي الصغار. ولن أنسى ما همستُ لها قبل أن يأخذوها ليدفنوها: "لن أخذلكِ يا ماما." ومنذ ذلك الحين وأنا في صراع مع الفقر وهدفي الوحيد كان إيجاد سبل لمحاربته على الأقل لتأمين القوت لباقي العائلة لأنّ أبي وبالرغم مِن قلبه الكبير كان إنسان فاشلاً لا يجيد فعل أيّ شيء إلاّ التباكي على حالته المذرية.

فبدأتُ أعمل هنا وهناك طوال ساعات عديدة ولكنّني لم أمدّ يدي لأحد ولم أتاجر يوماً بجسدي كما فَعَلَت أخروات. وشاءَت الظروف أنّني حظيتُ بقوام جميل ووجه جذّاب وتأمّل كل مَن كان مِن حولي أن يساعدني ذلك على إيجاد زوجاً ثريّاً. وهذا ما نويتُ فعله لأنّني لم أكن قادرة على قضاء حياتي أعمل في المنازل أو عند أصحاب المِهَن الصغيرة.

ولكي أتعرّف على مَن سينتشلني مِن عذابي أخترعتُ طريقة خاصة وهي أن أرمي نفسي أمام السيّارت الجميلة التي يقودها رجال. ستقولون لي أنّها طريقة خطرة وأنّ لا بد مِن سبل أخرى ولكنّني لم أجد إلاّ ذلك فكيف لي أن أتعرّف على هذا النوع مِن العرسان؟ في حيّنا الفقير أم عند الحلاّق النسائي الفاشل الذي كنتُ أعمل عنده؟

 


وهكذا وبعد تمارين عديدة وجدتُ الطريقة الأفضل لكي لا تدوسني السيّارات أو تقتلني ولا تكلّفني سوى كدمات قليلة. ولكنّ الحظ لم يحالفني على الأقل في البدء لأنّني لم أجد سوى رجال متزوّجين يريدون اللهو معي أو أناس غير مهتمّين في الموضوع. وقبل أن يصيبني اليأس بقليل وجدتُ وليد. كان مارّاً على الطريق حيث كنتُ واقفة أنتظر الباص لأعود إلى المنزل حين رأيتُه. وجدتُ أنّه مناسب مِن نوع مركبته ومِن شعره الأبيض لأنّني لم أكن مهتمّة بالشبّان الذين كانوا بمعظمهم إمّا مخطوبين لأحد وإمّا يبحثون فقط عن عشيقة. أمّا بالنسبة للرجال الكبار في السنّ فكان عدد كبير منهم مطلّقين أو مستعدّين للزواج مجدّداً بعدما سئموا مِن زوجاتهم.

وهكذا ركضتُ ورميتُ نفسي على سيّارة وليد عندما كان يتوقّف عند الإشارة الحمراء. وحين وقعتُ أرضاً ترجّلَ وأسرعَ إليّ ليرى إن كنتُ بخير. عندها صرختُ له:"خذني إلى المستشفى... أرجوك!." وبالرغم أنّه كان يفضّل أن ينتظر الإسعاف أقنعتُه بأن يأخذَني بنفسه إلى الطوارئ لكي يتسنّى لي أن أتكلّم معه وأخلق نوعاً مِن الرباط بيننا. فساعدَني على الصعود إلى السيّارة وبدأ يسألني إن كنتُ بخير وما الذي كان يؤلمني بينما كنتُ أتفحّص داخل المركبة وثيابه لأرى إن كان فعلاً مِن ذوي الدَخل العالي. أجبتُ على أسئلته بصوت رفيع وحزين ووبّخته لأنّه صدَمَني ولكن بطريقة لطيفة فإعتذَرَ كثيراً وأكَّدَ لي أنّه سيهتم بعلاجي مهما كلّفه ذلك. عندها وضعتُ يدي على كتفه وقلتُ له:

 

ـ كم أنتَ لطيف... وكم أنّ زوجتَكَ محظوظة بكَ.

 

وسكتُّ لأرى ما سيكون جوابه آملة طبعاً ألاّ يكون مرتبطاً. عندها أجابَني:

 

ـ زوجتي توفّت مِن سنين عديدة...

 

ـ رحمها الله...

 

كنتُ قد قلتُ ذلك وبسمة طفيفة على وجهي لأنّ فخّي كان قد نجحَ أخيراً وكل ما بقيَ عليّ كان أن يتعلّق بي الرجل ويُغرم بي رغم الفارق الإجتماعي الكبير. ووصلنا المستشفى وبقيَ وليد معي إلى حين قالوا لي أنّ بإستطاعتي الرحيل فعرَضَ عليّ أن يأخذني إلى بيتي ولكنّني رفضتُ ذلك لأنّني لم أكن أريده أن يرى البؤس الذي كنتُ أعيش به. عندها قال الجملة المنتظرة:"وكيف سأتمكنّ مِن الإطمئنان عليكِ؟" فأعطيتُه رقم هاتفي.

 


وهكذا بدأ يتصل بي ونتكلّم ساعات طويلة حتى أن أبدى رغبته في لقائي وقَبِلتُ طبعاً. وأخبرَني عن نفسه وعن نجاحه في أعماله وفشله في حياته العاطفيّة وعن رغبته في إيجاد مَن يملئ فراغ قلبه. وبالطبع فهمتُ أنّه يعرض عليّ ملئ ذلك الفراغ وأدركتُ أنّها الفرصة التي كنتُ أنتظرها. وعملتُ جهدي لكي يحبّني أي أنّني أعطيته وقتي وإهتمامي وإستمعتُ لمشاكله وأوحيتُ له أنّني أشعر معه وأقلق عليه. هل كنتُ صادقة؟ جزء منّي كان صادقاً ولكنّ دافعي الفعليّ كان طبعاً حمله على الوثوق والتعلّق بي لكيّ يصل إلى درجة الإعتقاد أنّه لا يستطيع العيش مِن دوني وأن يقرّر أن يتزوّجني لأنعم بحياة سهلة وهنيئة. وكنتُ متأكدّة أنّني كنتُ سأكون بأمان مع رجل عاصميّ وناجح كَوليد وأنّني لن أقلق بشأن أيّ أمر يمكنه أن يطرأ على حياتنا سويّاً.

والذي كنتُ أنتظره حصل أخيراً فبعد شهرَين طلبَ منّي أن أتزوّجه وشعرتُ أنّني وأخيراً إنتصرتُ على مصير كان قد لازمني منذ ما فتحتُ عينيّ على الدنيا. وعندما أراد تعريفي على عائلته رفضتُ لأنّني خفتُ أن يعرفوا أنّني مِن محيط جدّ متواضع وأن يؤثّروا على قرارة فتحجّجتُ بأنّني سأشعر بالخجل المُحرج وأنّ لا لزوم لذلك لأنّه كان رجل ناضجاً لا يحتاج إلى موافقة أحد. وبدوري دعوته إلى بيتنا لأنّ والدي كان مصرّاً على رؤية صهر المستقبل ولكنّني حضرّتُه مسبقاً لأنّه كان سيرى بأيّ حالة نعيش. ولكنّه لم يأبه لهذا الفارق الإجتماعي وجاء محمّلاً بالهدايا. وبالطبع لاقى وليد إعجاب الجميع وكنتُ سعيدة جدّاً. وحدّدنا موعد الزفاف وعملتُ جهدي لأكون أجمل عروس ضمن إمكانيّاتي طبعاً. ولكن قبل يوم واحد مِن عقد القيران إتصلَ بي وليد هاتفيّاً وقال لي:


ـ لطالما كنتُ أفضل منكِ وسأظلّ هكذا...

 

ـ ما الأمر حبيبي؟

 

ـ كنتُ أنوي المتابعة باللعبة ولكنّ تربيتي ومبادئي لم تسمح لي...

 

ـ عمّا تتكلّم؟ أيّ لعبة؟

 

ـ لعبتكِ يا آنسة! هل إعتقَدتي ولو لثانية واحدة أنّ رجل مثلي سيقع بالفخ بهذه السهولة؟ لقد بدأتُ مِن لاشيء وصعدتُ سلّم النجاح لوحدي وبفضل ذكائي ومنطقي... ولن تأتي فتاة مثلكِ وتلعب بي بهذه السهولة...

 

ـ أنا؟ لعبتُ بكَ؟


ـ أجل... قبل أن"تصدمكِ" سيّارتي بفترة ليست طويلة أخبرَني صديق لي أنّ فتاة رمَت نفسها على مركبته وبعدما أخذَها إلى المستشفى حاوَلت التقرّب منه ولكنّها إبتعدَت منه عندما علمَت أنّه متزوّج ومِن وصفه لكِ ولظروف الحادثة علمتُ أنّكِ هي لحظة ما ركضتِ تلقينَ بنفسكِ تحت إطاراتي... وتظاهرتُ أنّني لم أشكّ بنواياكِ ومشيتُ معكِ بكذبتكِ... إستمتعتُ كثيراً بدور الرجل العاشق وكنتُ أنوي أن أجعلكِ أنتِ وأهلكِ ومعازيمكِ تنتظروني دون أن آتي ولكنّني أفضل مِن أن أفعل ذلك خاصة أنّني شعرتُ أنّ ذويكِ ليسوا على علم بِمكركِ... إسمعي... لو تعرّفتُ إليكِ بطريقة أخرى ولو لم تكوني مهتمّة بمالي هكذا كنتُ سأحبّكِ لأنّكِ ضمناً فتاة صالحة ولكنّكِ نسيتِ مَن أنتِ بسبب سعيكِ وراء الثروات... نسيتِ أنّكِ تستطيعين تحسين أوضاعكِ بنفسكِ كما فعلتُ أنا عندما كنتُ في سنّكِ.

 

- ربما لستُ بِذكائكَ!

 

- لا... بل لستِ بِطموحي.

 

وأقفلَ الخط وإنهملَت دموعي على وجهي. كانت أحلامي كلّها قد تبخّرَت في لحظة ناهيك عن مواجهة أهلي بِخبر إلغاء الزفاف. فإخترعتُ لهم حجّة مقنعة كفاية لكي لا يزعجني أحد وعدتُ إلى حياتي العاديّة في صالون الحلاقة. ولكنّني لم أنسَ ما قاله لي وليد فعندما أوشكَ صاحب الصالون على الإقفال بِسبب قلّة الزبائن عرضتُ عليه أن أدخل معه بِصفتي شريكة وأن أدير الأعمال. وقبِلَ معي لأنّه لم يكن يملك خياراً آخراً وبدأتُ العمل بِجدّ. وبِفضل مهارتي التي لم أكن أعلم أنّني أمتلكها ومعرفتي بأساليب المحادثة بدأتُ أجذب زبائن جدد وإبقاء القدامى منهم.

وأنا اليوم صاحبة أكبر صالون في البلد تتكلّم عنّي الصحف وتستقبلني محطّات التلفزة. وكل ذلك بفضل رجل علّمَني كيف أؤمِن بِقدراتي وألا أقضي وقتي بالركض وراء الكسب السهل.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button