إبني العقوق

يوم وقّعتُ تلك الأوراق اللعينة، لم أعِ أبعاد الذي فعلتُه، أو بالأحرى الذي فعلَه بي أولادي. أقسمُ أنّني عملتُ جهدي لأربّيهم على أسس صالحة، ليُصبحوا أناسًا نزيهين ومحبّين، لكنّ الطّمع تغَلَّبَ على الباقي. كم أنّ الإنسان فاسد حين يستولي المال على عقله، فلا يعود يُفرّق بين الخير والشرّ وينسى أقرب الناس إليه.

كان قد قال لي عدنان، إبني البكر، إنّ عليّ وضع إمضائي في أسفل معاملات بسيطة وعاديّة. ومع أنّني استغربتُ وجود شخصَين معه لم أرَهما مِن قبل، لَم أسأله مَن يكونان لسبب بسيط: لَم يخطر ببالي قط أن يكونا الشاهدَين على توقيعي. فكيف لي أن أتصوّر ولو للحظة أنّ أولادي ينهبوني؟ فمالي كان سيصلُهم فور مماتي، وكانوا قد حصلوا على نصيبهم مِن ميراث أبيهم حسب القانون. فهل أن أعيش بأمان كثير عليّ؟

كنتُ أشعرُ أنّ عدنان سيكبر ليكون في مجال المال، فلطالما كان يُجادل أباه بما يخصّ مصروفه الأسبوعيّ ويُطالب بالمزيد، مُستندًا إلى حجج وبراهين وأرقام. كنّا نبتسم له ظانِّين أنّه يتحضّر لمستقبل لامع وواعد، إلا أنّنا لم نتوقّع أبدًا أنّه سيصير طمّاعًا لا يطيق رؤية غيره بحال أفضل مِن حاله. تأثيره على باقي أولادي كان ملحوظًا، إذ أنّه، بصفته الأكبر، إستطاعَ لمّهم تحت وطأته وباتوا ينتظرون منه الإشارة في كلّ شيء. هنا أيضًا خلنا أنّه سيكون قائدًا عظيمًا، وكم مِن أهل أخطأوا بتصوّرهم لمستقبل أولادهم!

لم يُصبح عدنان رجل أعمال كبيرًا أو قائد شيء أو أحد، بل صار نصّابًا يتنقّل مِن دار للقمار إلى آخر. لم أكن على علم بما يفعله وإلا لأسرعتُ أوقفُه عند حدّه. حتى زوجي المرحوم لم يشكّ بشيء، بل اقتنعَ مثلي بأنّ ابننا يعمل كمستشار لشركة ماليّة كبيرة. فلقد كان عدنان ينهض باكرًا في كلّ صباح ويلبس بذّة أنيقة ويذهب إلى عمله، ليعود في المساء ويقصّ علينا إنجازاته. أنا متأكّدة مِن أنّ باقي أولادنا كانوا على علم بحقيقة عمله، لكنّ الخوف والإحترام الشديد الذي كانوا يُكنّونه له منَعهم مِن فضحه. ومِن المؤكّد أنّه كان أيضًا يمدّهم بالمال للتأكّد مِن سكوتهم.

لم يكن عدنان ولا أيّ مِن أبنائنا بحاجة إلى المال، فنحن كنّا نُعطيهم الكثير كما أمّنّا لهم حياة رخاء والذهاب إلى أفضل المدارس والجامعات، لأنّ زوجي كان يملك الكثير. وحين توفّي، قبَضَ أولادنا مبلغًا كبيرًا يكفي لإسعادهم وأولادهم.

 


تزوّج عدنان قبل أخوته، فلَم يكن ليدَع أحدًا يحظى بأوّل فَرَح تصوّرَه ضخمًا. كان محقًّا بذلك، فقد أقَمنا له حفلاً لا مثيل له. الفتاة التي تزوّجها لم تكن مِن مستوانا الإجتماعيّ، لكنّنا استقبلناها بأذرع مفتوحة، ليتضَحَ لي لاحقًّا أنّها كانت راقصة في إحدى الكباريهات التي كان يقضي إبني وقته فيها. لكنّ الأوان كان قد فات، خاصّة أنّها أنجبَت له طفلَين جميلَين أحبَبتُهما كثيرًا. زوجات الباقين كنّ نساءً عاديات لا رأي لهنّ، كرجالهنّ.

لحظة توفّي زوجي وقبَضَ كلّ مِن أولادي حصّته، إتجّهَت الأنظار إلى حصّتي وكأنّني لم أكن أستحقّ نصيبي. وبدأ عدنان يُخطّط لتجريدي ممّا كان سيُؤمّن لي حياة كريمة عندما أشيخ. كنتُ قد بدأتُ طبعًا أعي حقيقة إبني البشعة وتبعيّة أولادي الباقين له، إلا أنّني لم أتوقّع ما فعلَه بي، أنا أمّه.

فبعد أن وقّعتُ تلك الأوراق بحوالي الشهر، دقّ بابنا ثنائيّ تفاجأتُ أنّهما آتيان لرؤية البيت الذي كان معروضًا للبيع. أكّدتُ لهم أنّ هناك خطأً ما، لكنّهما لم يقتنعا خاصّة أنّهما اتّصلا بعدنان ليقولا له إنّهما سيزوران البيت وقال لهما إنّه سيُوافيهما إلى هنا. إنتظرنا إبني الذي وصَلَ بعد حوالي النصف ساعة ورحّبَ بالشاريَين. خلتُ أنّني في حلم مزعج، فكيف له أن يبيع البيت الذي أعيشُ فيه وذلك مِن دون معرفتي وإذني؟ أخَذَني عدنان جانبًا بعدما بدأتُ أصرخ بالثنائي أن يرحلا، وقال لي:

 

ـ هذا البيت أصبح لنا.

 

ـ مَن تقصد بـِ" لنا"؟

 

ـ لي ولأخوَتي. فلقد وقّعتِ بيدكِ على تنازل عام لنا... أقصد لي أنا، فإسمي هو المذكور على الأوراق، لكنّني سأوزّع المال والرّزق على الباقين بإنصاف.

 

ـ لم أوقّع على هكذا شيء! متى حصَلَ ذلك؟َ!؟

 

ـ بلى... أتذكرين عندما أتَيتُ مع شخصَين وأعطَيتُكِ أوراقًا لتضعي إمضاءكِ عليها؟

 

ـ يا إلهي! ماذا فعلتَ بي؟

 

ـ لا تبالي، سنهتمّ بكِ جيّدًا ولن تحتاجي إلى شيء. فقد رأينا أنّ لا داعي لأن تشغلي بالكِ بأمور عقارّية وماليّة.

 

ـ تريدون بَيع البيت الذي أسكُن فيه!؟!

 

ـ ستأتين للعَيش عندي وعند أخوَتي بالتداور. ما حاجتكِ لبيت بهذا الكبر، فلقد بتِّ لوحدكِ.

 

ـ وثمَن البيت، مَن سيأخذه؟

 

ـ سنأخذه أنا وأخوَتي لنستطيع الصّرف عليكِ يا أمّي. ثقي بي.

 


أثق بعدنان؟ وكأنّني لم أكن أعلم حقيقته البشعة! إتصلتُ بالمحامي وأطلعتُه على الذي حصل ويحصل، وهو تأسّف لكوني وقّعتُ على التنازل بكامل إرادتي وأمام شاهدَين. نعم، كنتُ صحيحة العقل، ولم يكن هناك أيّ اثبات على تلاعب أو إكراه ما.

بكيتُ كثيرًا وتمنّيتُ الموت، وتحسّرتُ على نفسي لكنّني رضختُ للأمر الواقع، أي أنّني أخذتُ بعض الأمتعة وقصدتُ بيت عدنان للعَيش معه ومع عائلته. قضَيتُ وقتي هناك أهتمّ بولدَي إبني بينما يذهب هو وزوجته إلى السّهرات والدعوات.

لكن إبني البكر أخطأ بحساباته حين التهى بصرف مالي لوحده مُبعِدًا اخوَته الذين، كما ذكرتُ سابقًا، كانوا يتبعونه منذ صغرهم لأنّهم اعتادوا على ذلك وليس لأنّهم سيّئون. واستغلّيتُ تصرّفه وحده بمالي لأحثّ الباقين على الإنقلاب عليه. لِذا بدأتُ أتنقّل مِن بيت إلى آخر وأوضح لأبنائي أنّ أخاهم لم يُجرّد أمّه فقط مِن كلّ شيء، بل فعَلَ الشيء نفسه معهم. لم أنسَ طبعًا ذكر قوّة سلطته عليهم، أي أنّهم أمامه ضعفاء لا إرادة لهم. واستغلَّيتُ أيضًا غيرة زوجاتهم تجاه زوجة عدنان التي، إلى جانب استفادتها مِن ميراث زوجي، كانت تنعم أيضًا بمالي ورزقي. لم أكن متأكّدة أبدًا مِن نتيجة خطّتي، فأولادي كلّهم تآمروا ضدّي في وقت مِن الأوقات.

في تلك الأثناء، باعَ عدنان قطعة أرض كنتُ أملكُها ولم يُعطِ اخواته قرشًا واحدًا، الأمر الذي أكَّدَ لهم أقوالي. عندها اقترحتُ عليهم أن يشهدوا جميعًا بأنّه غشّني عندما حملَني على توقيع التنازل، الأمر الذي كان سيُجبرُه على إعادة ما أخذه منّي، أي أنّه لن يعود المستفيد الأكبر. لعبتُ على طمع أولادي لبعضهم وغيرتهم مِن بعضهم، لأنّني بكلّ بساطة أمّهم ولا أحد يعرفُهم أكثر منّي.

حين أصبحَت الخطّة جاهزة، طلبتُ المحامي الذي رفَعَ على الفور قضيّة ضد عدنان بالاحتيال والسلب وسجَّلَ افادة كل مِن ابنائي وزوجاتهم. حاوَلَ ابني البكر التأثير على الباقين ووصَلَ الأمر به إلى تهديدهم، لكن مِن دون نتيجة لأنّ الكره كان قد ملأ قلوبهم. وعندما قصدنا المحكمة، كانت القضية قد رُبِحَت مُسبقًا.

حكَمَ القاضي على عدنان بإعادة كلّ ما أخذه منّي وبفترة سجن، إلا أنّني أسقطتُ حقيّ لأنّني لم أكن لأقبل بأن أرمي ولدي وراء القضبان.

لم أستطع طبعًا إسترجاع بيتي القديم، إلا أنّني اشترَيتُ مسكنًا جديدًا لأعيش فيه بكرامتي حتى آخر أيّامي.

لم يتقبّل عدنان ما فعلناه به، لأنّه أدركَ أنّ "امرأة مسنّة" تغلّبَت عليه وجّردَته ليس فقط مِن أموال كان قد سلَبها بل مِن وطأته على أخوَته. وهكذا وجَدَ نفسه معزولاً تمامًا، خاصّة بعدما علِمَ الناس بأنّه نَهَبَ أمّه، الأمر الذي جلَبَ له الإنتقادات اللاذعة والإستهزاء الشديد. لِذا فضّل الإنتقال إلى مدينة أخرى حيث لا يعرفُه أحد.

أدركَ باقي أولادي مدى جحودهم بعدما ربَّيتُهم وكبّرتُهم، وندموا كثيرًا وحاولوا التعويض بزيارتي باستمرار وجلب الهدايا لي. إلا أنّ قلبي كان قد جُرِحَ إلى أقصى درجة. صحيح أنّني لم أكفّ عن حبّهم، لكنّني لم أعد أرى فيهم أولادي بل أناسًا لا يُمكنني الوثوق بهم. تَرَكَ عدنان زوجته وولدَيه وهاجَرَ، ولم أتفاجأ كثيرًا بالخبر، فذلك الرجل لم يكن قادرًا على حبّ أحد سوى نفسه والمال. جاءَت كنّتي وحفيدَاي للعَيش معي فاستقبلتُهم بكلّ طيبة قلب، إلا أنّني وضعتُ حدودًا لهم منذ البداية. فلَم أكن مستعدّة للوقوع ضحيّة الطمع مرّة أخرى.

نحن اليوم نعَيش بسلام، واتّضَحَ لي أنّ الجميع أبدى استعدادًا للتعاون، وسادَت المحبّة بيننا لأنّ الرأس المدبّر ومصدر الشرّ أمسى بعيدًا عنهم.

أين عدنان اليوم؟ لستُ أدري لكنّني متأكّدة مِن أنّه يجري وراء الرّبح السهل، وأرجو ألا يكون قد خلَّفَ وراءه الكثير مِن الضحايا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button