إبنتي ميار

علِمتُ أنّني حامل عشرة أيّام بعد موت أمّي. كنتُ في حالة يُرثَى لها لأنّني كنتُ أحبّ جدًّا والدتي ولأنّها فارقَت الحياة أمام عينيَّ.

كنا جالستَين سويًّا حين أحسَّت بألم حاد وقالت لي: "لقد حانَت ساعتي يا ابنتي الحبيبة". وبعد نصف ساعة، أغمضَت عيَنيَها إلى الأبد تاركة حزنًا عميقًا في قلبي. وشعرتُ أنّ الحياة توقَّفَت بالنسبة إليّ، ولم يعد لها معنى مِن دون نبع الحنان الذي سقاني حبًّا بدون انقطاع منذ مجيئي إلى الدّنيا.

 

ورأيتُ في حملي الجديد فرصة لاستعادة نفسي، وإعادة الفرحة إلى قلب زوجي وأولادي الذين رأوا أَلمي وعانوا منه. ولكنّ الطبيب الذي فحصَني طلَبَ منّي مراجعته بعد أسبوع، لأنّه لم يستطع سماع دقّات قلب جنيني. وعند زيارتي الثانية، تأكَّدَت مخاوفه فقرَّر إجهاضي لأنّ "ما في بطني كان ميّتًا". حضَّرتُ نفسي لخسارة ثانية، وقصدتُ العيادة والدّموع تنهمر على خدَّيّ. وهناك المعجزة: عادَت دقّات قلب ابنتي وبقوّة وكأنّها تصرخ بنا: "أنا هنا! لا تقتلوني! أريد أن أعيش... أرجوكم".

وعادَ الأمل إليّ، وركضتُ خارج العيادة بعيدًا عن المكان الذي كدتُ أن أقتل فيه حبيبتي.

 

ولكنّ فرحتنا لم تدم سوى ثلاثة أشهر، أي حتى علِمنا مِن الطبيب أنّ مقياس رقبة الجنين يدلّ على حملها متلازمة داون، أي أنّها لن تكون مثل باقي الناس طوال حياتها. وخضعتُ لتحاليل وتأكّدَ الخبر. عندها قال لي الطبيب إنّ عليّ وبسرعة إنهاء حياة ما أسماها "البنت المخالفة للطبيعة". كلّمَّني بصوت مجرّد مِن أيّ عاطفة أو شفقة، وكأنّه يحكي عن شيء وليس عن مخلوقٍ حَيّ. شَرَحَ لي المصاعب التي تنتظر المولودة مِن حيث الشكل والإستيعاب والحالة الصحيّة، وعن عذابنا معها ولم ينسَ ذكر نظرة الناس إليها.

 

الصّورة التي رسمَها لنا كانت فظيعة وقبيحة، إلى درجة أنّنا فقَدنا الشهيّة والنوم، خاصّة أنّه أضاف أنّ لدَينا فترة قصيرة لاتخاذ قرارنا الذي تمنّاه أن يكون الإجهاض. وتَرَكَ لي زوجي حريّة أخذ ذلك القرار، الأمر الذي زادَ مِن حيرتي ويأسي. فلطالما كنتُ امرأة مؤمنة، وكنتُ أعلم أنّ قتل جنيني سيُغضب ربّي وأنّها كانت إرادَته أن تكون ابنتي مختلفة عن باقي الأولاد. ما كانت رسالته لي مِن خلال تلك المصيبة؟ لم أعرفها آنذاك ولكنّني وثقتُ بحكمته تعالى.

 


خفتُ على حبيبتي مِن العالم الذي لا ولن يرحمها، ومِن المرض لأنّ هؤلاء الأولاد يُعانون غالبًا مِن أمراض القلب والرئتَين. خفتُ ألا أحسن التعامل مع احتياجاتها وخفتُ أن أهمل باقي أولادي. لم أكن أعلم في ذلك الوقت أنّ الحب يصنع المعجزات ويُخفّف مِن آلام الدنيا كلّها.

وقرَّرتُ التمسّك بابنتي بالرغم مِن كلّ شيء ووقفتُ في وجه كلّ الناس. وعندما أعلمَتُ زوجي بقراري قال لي والدّمع يملأ عَينَيه: "حسنًا فعلتِ".

 

ما تبقّى من حملي كان صعبًا مِن حيث الهمّ والتفكير والزيارات المستمرّة للتأكّد مِن أنّ ابنتي لا تزال حيّة. ولكنّني صمَدتُ وصمدنا جميعًا. والغريب في الأمر، أنّ قدوم ابنتي إلى الدنيا قوّانا بدل أن يُضعفنا، وأعطانا هدفًا جَمَعَ كلّ أفراد عائلتنا: أن تعيش ميار.

وفي بداية شهري التاسع، قال لي الطبيب أنّ جنيني بحالة سيّئة وعليّ أن أولِدها على الفور. وكلّ ما خطَرَ ببالي هو أن تنجو ابنتي حتى لو كلّفَني ذلك فقدان حياتي. إستغرَبَ الطبيب كثيرًا أن أطلب منه إنقاذ طفلة مختلفة على حساب حياتي. ورأيتُ دموعًا في عيَنيَه ووعدَني أنّه سيفعل المستحيل لتعيش ابنتي.

وحين سمعتُ صرختها الأولى ووضعوها على صدري، شعرتُ بسعادة لن تقدر كلّ كلمات العالم على وصفها. إنتصرنا أنا وهي على كلّ ما كان منذ البداية يُوجّهنا نحو الموت. إنتصَرَت الحياة لأنّ الأمل أقوى مِن كلّ شيء. وعندما أمسكتُ أصابعها الصغيرة همستُ لها في أذنها: "لا تخافي، يا ميار... سنواجه صعوبات وبشاعة العالم سويًّا... لن أدَع أحدًا أو شيئًا يؤذيكِ... أقسم لك بذلك".

وبكى زوجي فرحًا عندما رأى الصغيرة وحملَها بفخر. وأدخلنا أولادنا ليروا أختهم، ولَم تسعهم الدنيا مِن كثرة حماسهم لها بعد أن انتظروا قدومها لأشهر طويلة.

كانت ميار ولا تزال هديّة مِن السماء لنا، ربّما لنقدّر معنى الحياة ونتمكّن مِن أن نحبّ مِن دون أيّ مقابل.

ولكنّ مشوارنا المحفوف بالمشاكل كان لا يزال في بدايته. فكما نبَّهنا الطبيب، كانت ميار تعاني مِن مشاكل في القلب والرئتَين، وكان علاجها صعبًا علينا وخاصة عليها، وكنتُ أسأل نفسي كيف لمخلوق بهذا الحجم الصّغير أن يتحمّل تلك الفحوصات والتحاليل؟

علّمَتني ابنتي الكثير، وأعطَتني القوّة التي لم أخَلها موجودة عندي. صحيح أنّ الله أخَذَ منّي أمّي باكرًا ولكنّه أعطاني ميار مكانها، فهو لا يأخذ مِن دون أن يُعطي وعلينا نحن رؤية السّعادة حيث الحزن والأمل واليأس.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button