أين فريدة؟

كانت فريدة، زوجة خالي، فائقة الجمال ولقد انبهَرنا جميعًا بها وسألنا أنفسنا السؤال ذاته: لماذا مخلوقة كهذه تربطُ حياتها برجل مثل خالي؟ والجواب كان واضحًا... مِن أجل ماله طبعًا. فأخ أمّي، الذي إسمه سمير، كان إنسانًا غليظًا وقبيح الملامح والقوام لدرجة أنّه قضى طفولته وهو يسمع تلميحات عن شكله مِن قِبَل أصدقائه الصغار. هل كان ذلك هو السبب وراء اجتهاده وعزمه على النجاح؟ وقد فلَحَ بالحياة وصارَ تاجرًا كبيرًا يلعبُ بالمال لعبًا.

تزوّجَ سمير مِن جارة كان يُحبُّها سرًّا إلا أنّها توفّيَت مِن دون أن تُعطيه ولدًا، لِذا صبَّ اهتمامه على أعماله وباتَ يعتبرُني الوريث الذي لَم يولدُ منه. للحقيقة لَم يهمّني ماله بل كنتُ أنزعجُ مِن دعاباته غير المُضحكة وأقضي معه أقلّ وقت مُمكن. رفضتُ أيضًا أن أعمَلَ معه، الأمر الذي أغضبَه، فهو تصوّرَ أن أُتابع أعماله عندما يتقاعد أو يموت. وفي أحد الأيّام، قدَّمَ لنا سمير فتاةً بسنّ أولاده قائلاً: "هذه هي فريدة وهي بالفعل فريدة مِن نوعها... سنتزوّج قريبًا وأُريدُكم أن تسعدوا لي، فلقد وجدتُ أخيرًا الحبّ الحقيقيّ وأنوي العَيش سعيدًا حتى آخر أيّامي". لاحظتُ ملامح وجه العروس كيف تغيّرَت عندما قال "حتى آخر أيّامي"، وفهمتُ أنّها وجدَت أن حياتها مع هكذا رجل ستكون طويلة للغاية. فالجدير بالذكر أنّ خالي كان يتمتّعُ بصحّة حديديّة بسبب اتّباعه حمية غذائيّة صحّيّة للغاية ويُمارس الرياضة باستمرار. لكنّ فريدة عادَت وابتسمَت لعريسها مُظهرةً أسنانًا بيضاء وجميلة ككلّ شيء فيها.

لا يسعُني القول إنّني وقعتُ في حبّ فريدة، لكنّني كنتُ مفتونًا بها كأيّ شاب وجَدَ نفسه أمام الكمال بحدّ ذاته.

لَم تُحبّ أمّي فريدة وكان ذلك طبيعيًّا، فقد كانت تلك الأخيرة تُذكّرُها بطريقة غير مُباشرة أنّها امرأة عاديّة للغاية وبعيدة كلّ البعد عن الجمال، خاصّة بعدما صارَ أبي يُحدّقُ بإعجاب بزوجة خالي.

 


مرَّت السنوات ولَم يُرزَق خالي بأولاد وباتَ مِن الواضح أنّ الأمر عائد لمشكلة لدَيه. فلَم يعُد مُصرًّا على الإنجاب وركّزَ أكثر فأكثر على تجارته مُهمِلاً بطريقه فريدة بالرغم مِن جمالها ورقّتها. فمِن المعلوم أنّ الإنسان يعتادُ بسرعة على الجمال ولا يعودُ يُميّزه وينبهرُ به كالسابق. فريدة، مِن جهتها، عمِلَت جهدها لصرف ما يمُكنُها مِن مال زوجها ولَم تكن لتُلام، فتحمّل سمير شكلاً ومضمونًا كان له ثمن. في آخر المطاف، كلاهما كان قد وجَدَ سعادته في مكان ما.

إلا أنّ الانسان، الطبيعيّ طبعًا، لا ينفكُّ يبحث عن نصفه الآخر، فهذا مصيرُنا شئنا أم أبَينا، لِذا أحسَّت فريدة بالحاجة إلى رجل يملأ فراغها العاطفيّ... والجسديّ. فلقد سمعتُ والدتي تُخبرُ والدي أنّ سمير توقّفَ عن القيام بواجباته الزوجيّة حين أدركَ أنّه عاقر، ولَم يعد يرى حاجة لصرف طاقته مِن دون جدوى بل فضَّلَ استعمالها في تجارته.

وبعد أن سئمَت فريدة مِن التسوّق وشراء كلّ ما يلزم لعائلتها وأصدقائها، أخذَت لنفسها عشيقًا. كيف علِمتُ ذلك؟ أوّلاً لأنّني لاحظتُ تغيّرًا بمزاجها، فهي باتَت سعيدة وتضحكُ طوال الوقت، وثانيًا لأنّني رأيتُها برفقة رجل وسيم. ربطتُ الأمرَين ببعضهما وعلِمتُ بما يجري. لَم أقل شيئًا لأحد، فذلك لَم يكن مِن شأني لا بل فرحتُ ضمنًا لفريدة بالرغم من أنّ ما كانت تفعله هو مُشين بحدّ ذاته. تمنَّيتُ حتى لزوجة خالي أن تهربَ بعيدًا مع حبيبها، فأنتم لا تعرفون سمير... ولن تعرفوا كيف تكون الحياة معه.

مرَّت قرابة السنة وشعرتُ بأنّ شيئًا يتحضّرُ لكن مِن دون أن أعرف ماذا بالتحديد، وقصّة خالي وزوجته أخذَت الكثير مِن انتباهي ومُراقبتي ولستُ أدري لماذا. ما أعرفُه هو أنّ فريدة تغيّرَت فجأة بعد أن غادرَها الفرَح والحماس وفقدَت بسمتها الجميلة لتحلّ محلّها كآبة لا مثيل لها. فالمسكينة لَم تعُد تُبارح المنزل لا بل فراشها، والطبيب لَم يجِد لدَيها أي مرض جسديّ بل وصَفَ لها بعض الأقراص التي لن تُشفيَ الحزن الذي يسكنُ في قلبها.

وذات يوم، أخذتُ على عاتقي معرفة حقيقة ما يجري، فاخترتُ وقتًا يكون فيه خالي في شركته وزرتُ زوجته. هي استقبلَتني بسرور لأنّها كانت تكنُّ لي مودّة خاصّة، وسألتُها فيما كنّا نشرب القهوة:

 

ـ ما الأمر يا فريدة؟ أراكِ حزينة طوال الوقت والدمعة لا تُفارق عَينَيكِ.

 

ـ الحياة قاسية... لا تحمِل همّي أرجوكَ.

 

ـ كنتِ سعيدة في العام الذي سبَق... وقد أعرفُ السبب. لا تُسيئي فهمي، فأنا لا اتدخّل بشؤونّكِ الخاصّة، لكن إعلمي أنّني إلى جانبكِ فلديكِ الحقّ بأن تعيشي سعيدة. أعلمُ كَم مِن الصعب تحمّل طباع خالي وغلاظته، فهو إنسان أنانيّ وغير مبالٍ بشعور مَن حوله ولن يلومُكِ أحدٌ لو قرّرتِ البحث عن شخص آخر.

 

ـ أنا لا أفهَم ما تقصد.

 

ـ بلى يا فريدة، فلقد رأيتُكِ مع ذلك الرجل. كنتِ سعيدة... ما الذي غيّر أحوالكِ؟

 

ـ إنّه... يا إلهي... لا... لا أعرفُ عمّن تتكلّم.

 

ـ أقسمُ لكِ بأن أكتُمَ سرّكِ... تمامًا كما لَم أُخبِر خالي عن الرجل الآخر. لا بدّ لكِ أن تثقي بأحد، فلا يُمكنكِ تحمّل هكذا حياة مِن دون صديق.

 

ـ لقد ماتَ حبيبي.

 


ـ ماذا؟!؟ المسكين! كيف ومتى؟!؟

 

ـ ماتَ دهسًا... كنتُ بانتظاره في مكاننا المعتاد... مكان عام، فقد كانت علاقتنا شريفة بانتظار... أعني أنّني كنتُ أنوي طلَب الطلاق مِن خالكَ وأنتظرُ الوقت المُناسب كي لا تتعقٌد الأمور.

 

ـ متى حصَل الحادث؟

 

ـ منذ حوالي الشهر... ماتَ حبيبي وعدتُ إلى حياتي البائسة، فالمال ليس كلّ شيء ولا يجلِبُ السعادة، لا تنسَ ذلك أبدًا.

 

ـ عليكِ التحلّي بالشجاعة. إضافةً إلى ذلك، يمكنُكِ ترك خالي حتى لو لَم يكن لدَيكِ البديل ومُتابعة حياتكِ.

 

ـ يا لَيتني قادرة على ذلك.

 

ـ ما الذي يمنعُكِ؟

 

ـ خالكَ. إسمع... أظنُّ أنّه قتَلَ حبيبي.

 

ـ ماذا؟!؟ خالي قاتلٌ؟!؟ لا أستطيع تصوّر ذلك! كيف ساورَتكِ هذه الشكوك؟

 

ـ لستُ أدري تمامًا إلا أنّني أشعرُ بذلك... نظراته لي... تلميحاته المُبطّنة... لا أملكُ أيّ دليل حسّيّ على تورّطه إلا أنّني شبه أكيدة مِن أنّه تخلّصَ مِن غريمه.

 

ـ إنّها مسألة خطيرة للغاية... إذًا عليكِ فعلاً الرحيل!

 

ـ زوجي يُخيفُني... قد يقتلُني أنا الأخرى. أنتَ تعرفُه كخال لكَ لكنّه مُختلف تمامًا، أعني على الصعيد الشخصيّ... لدَيه إصرارٌ مُخيفٌ للحصول على مراده فيتحوّل إلى وحش ضارّ.

 

ـ سأٌبقي عينًا عليه... في هذه الأثناء تصرّفي بطريقة طبيعيّة معه ولا تدَعيه يعرفُ ما يدورُ في ذهنكِ، بل ادّعي أنّكِ نسيتِ حبيبكِ.

 

رحتُ أُقنعُ أمّي بأنّ عليها قضاء بضعة أيّام عند فريدة لأنّ المسكينة مُكتئبة، ونجحَت خطّتي فارتاحَ بالي قليلاً. لكن كيف لي أن أتأكّد مِن أنّ سمير تخلَّصَ مِن الحبيب أم لا؟ كان ذلك فعلاً مُستحيلاً. عندها صرتُ أسألُ معارفي عن مُحامٍ يكون بارعًا، وحين وجدتُه جلستُ معه وشرحتُ له ظروف حياة فريدة. وحسَب قوله كان الأمر سهلاً، فخالي توقّفَ عن القيام بواجباته الزوجيّة منذ فترة طويلة ويجوزُ الطلاق في هكذا حالة.

رحتُ أزفُّ الخبَر لزوجة خالي وطمأنتُها بأنّ كلّ شيء سيسيرُ على ما يُرام. بكَت المسكينة وشكرَتني بحرارة وأوكلَت المحامي بقضيّتها. ومِن ثمّ جمعَت فريدة أغراضها واشترَت رقم هاتف جديد وغادرَت سرًّا البيت لتسكن مؤقتًا في فندق لَم أسأل عن أسمه كي لا يتمكّن خالي مِن استجوابي. ودّعتُ فريدة والدمع في عَينَيَّ.

وكانت تلك أخر مرّة أرى فيها فريدة... أو أسمع منها!

فالمرأة كانت وكأنّها تبخّرَت. في البدء حسبتُها مُختبئة، إلا أنّ بالي بدأ ينشغلُ عليها حين اتّصَلَ بي المحامي ليسألني عنها لأنّها تغيّبَت عن حضور جلسات الطلاق. إحترتُ بأمري فلَم أكن أعلَم أين تقطن أو رقم هاتفها الذي غيّرَته، فصرتُ أدورُ على فنادق المنطقة لأسأل عنها لكن مِن دون جدوى.

مرَّت على هذه الحادثة عشرون سنة ولَم تظهَر فريدة. هل قتلَها خالي هي الأخرى أم أنّها فضّلَت التواري عن الأنظار تمامًا؟ بعض الناس قالوا إنّهم رأوها في بلد أوروبيّ وآخرون في أمريكا. لا شيء مؤكّدًا بما يخصّ فريدة وهي لَم تُبارح بالي أبدًا.

عاشَ خالي مُرتاحًا باقي حياته حتى ماتَ أخيرًا آخذًا سرّه معه. ولكن، هل هناك سرّ؟ لستُ أدري إن كانت فريدة قد تخيّلَت أنّ لزوجها دخلاً بموت حبيبها، أمّ أنّها أدركَت أنّها تعيشُ مع وحش قد يتخلَّصَ منها هي الأخرى.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button