أين رموا ابني؟

عندما رأيتُ ريما لأوّل مرّة كانت تمشي في الطريق وكأنّها تائهة، فلحقتُ بها لأعرض عليها مساعدتي. ما لفَتَني فيها كانت نظرتها عندما سألتُها إن كان بإمكاني مساعدتها، فقد بدَت لي مندهشة إلى أقصى حد وكأنّها المرّة الأولى التي تجد فيها مَن يسأل عنها. أجابَتني أنّها بخير وابتسمَت لي قبل أن تكمل طريقها.

كنتُ سأنسى أمرها لو لم أرَها بعد أيّام قليلة في المكان نفسه أي قرب عملي، وأخَذتُ أراقبها. كانت تبحث عن شيء أو أحد ما فقصدتُها مجدّدًا. لم تعرفني على الفور. ذكَّرتُها بنفسي وسألتُها عمّا تبحث. أجابَتني:

 

- عن ابني... إنّه في مكان ما... قالت لي إنّهنّ قتلنَه ولكنّني لا أصدّقهنّ

 

ورفعَت غطاء مستوعب القمامة وأخَذَت تبحث بين الأكياس وتفتح البعض منها. عندها استوعبتُ أنّ تلك الشابة لا تمتلك كلّ قواها العقليّة. أسفتُ كثيرًا عليها ودخلتُ ردهة مقرّ عملي.

 

وبتُ أراها يوميًّا تقريبًا حتى أصبحنا نلقي على بعضنا التحيّة. وذات نهار جلَبتُ لها بعض الحلوى وسألتُها إن كانت قد وجَدَت ابنها فأجابَت:

 

- لا... ولكنّني سأفعل... لا بد أن يكون قد وجدَه أحد بعدما رمَته أختي الصّغيرة عن السطح... وضَعَته في كيس... لِذا أبحث في القمامة.

 

إمتلأت عَينايَ بالدّموع ولم أعد أعلم ما أقوله، فبالرغم مِن جنونها الواضح، شعرتُ أنّها تقول الحقيقة. لِذا حثَّيتُها على اخباري قصّتها. جلسنا على حافة الطريق وهذا ما قالَته لي:

 

- أنا الابنة الكبرى لعائلة مؤلّفة مِن 4 بنات وكنّا سعداء إلى أن توفّيَت والدتي. بكينا كثيرًا، خاصة أبي، ولكنّه أسرَعَ ليتزوّج مِن جديد بذريعة أنّه لا يستطيع الاعتناء بنا لوحده. وجاء بامرأة شرّيرة لا تعرف الرحمة، خاصة أنّها كانت هي الأخرى أرملة ولم تقدر على الانجاب لا مِن زوجها الأوّل ولا مِن أبي. فكرهتنا أنا وأخواتي وكرهَت تضامننا مع بعضنا.

 

وقرَّرت تلك الأفعى أن تفرّق بيننا لتتمكّن مِن السيطرة على البيت وسكّانه. لَزِمَ زوجة أبي سنوات مِن التخطيط للوصول إلى قلوب أخواتي ونجحَت بذلك أخيرًا. لم تستطع التأثير عليّ لأنّني كنتُ الأكبر، لذلك أمسيتُ أنا الضحيّة لأنّها حاربَتني مِن خلال أخواتي.

 


كبرنا ولم نعد نحب بعضنا كما في السابق بل ساد بيننا مناخ الغيرة والمحاسبة. فعندما بدأَت أخواتي بالعمل، جئنَ تُطالبنَ بأن أشترك أنا الأخرى بمصاريف المنزل. كنتُ أعلم أنّ زوجة أبي هي وراء هذه المطالبة، ولكنّني لم أكن قادرة على إيجاد عمل جيّد بسبب عدم تمكّني مِن اكمال دراستي لأنّني قضَيتُ وقتي كلّه أهتمّ بمَن هنّ أصغر منّي. وبعدما هدَّدَتني بالطرد، عَرَضتُ عليهنّ أن أعمل في البيت مقابل قوتي وفراشي. كنتُ مستعدّة أن أكون خادمة لَدَيهنّ شرط أن أبقى في بيتنا.

 

وبدأت المشاكل الكبيرة والعنيفة بيننا، ولم أعد أطيق رؤيتهنّ أو التكلّم معهنّ. حاولتُ الاحتماء بأبي، ولكنّه كان يُفضّل عدم التدخّل بيننا، خاصّة بعدما قالت له زوجته إنّني "أثير المتاعب". وأصبحتُ كبش محرقة الجميع، لذا هربتُ ذات ليلة مِن المكان الذي لم أعد أريد العيش فيه.

 

مشيتُ وحدي لساعات مِن دون أن أعلم إلى أين أذهب ومَن أقصد، فكلّ ما كان يهمّني هو أن أبتعد عن أهلي. كنتُ قد أعطَيتُهم حبّي واهتمامي وحناني، وهم بادلوني بالشتائم والتهديد والكراهية. وبعدما مشيتُ ومشيتُ وصلتُ إلى مكان لا أعرفه. كان الليل باردًا ولم آخذ معي معطفي أو أيّ شيء آخر. فعندما توقّفَت سيّارة بالقرب منّي وعَرَضَ عليَّ سائقها أن يقلّني معه، لم أرفض بل قبلتُ بسرور. ولكن ذلك الشاب لم يكن يريد مساعدتي بل رأى فيَّ فريسة سهلة. تحدّثنا قليلاً ولمَسَ ضياعي وحزني، فاقتَرَحَ أن نذهب إلى شقّة صغيرة يملكها لأمكث فيها بضعة أيّام. أيّة فتاة أخرى كانت قد رأَت أبعاد ذلك الاقتراح إلا أنا، فكيف لي أن أعلم ما يجول برأس ذلك الشاب وأنا لم أتكلّم يومًا مع رجل. كانت حياتي آنذاك تقتصر على البيت والأشغال المنزليّة والاهتمام بأخواتي. لم أخرج مع صديقات ولم ألتقِ بأحد ولم يُنبّهني أبي مِن الحياة ومخاطرها. عشتُ وكأنّني فتاة صغيرة أحلم بعالم لم يكن موجودًا.

 

وصلنا الشقّة وأراني الشاب المكان وأخَذَني إلى غرفة النوم. وهناك اغتصبَني. حاولتُ الإفلاة منه ولكنّني لم أستطع. صرختُ وبكيتُ مِن دون جدوى. وعندما انتهى منّي أخَذَ يواسيني ويعدني بالحب الأبديّ والزواج. وأمام استحالة عودتي إلى أهلي، صدّقتُه وأقنعتُ نفسي بأنّ الأمور ستأخذ مجرىً شرعيًّا عندما نتزوّج.

ولكنّ ذلك الوحش لم يكن ينوي أن يرتبط بي بل أن يلهو هو وأصدقاؤه "باللعبة الجديدة".

وحين وصَلَ ذات مساء مع شابَين وطلَبَ منّي أن أكون" لطيفة" معهما، هَرَبتُ مجدّدًا ولكن هذه المرّة في الاتجاه المعاكس أي إلى البيت.

عند وصولي لم أجد ما كنتُ أنتظره مِن ذويّ، أي الخوف عليّ والاستفسار عن مكان تواجدي خلال غيابي، بل التجاهل الكلّي وكأنّهم كانوا قد ارتاحوا منّي. وعاقبوني بإجباري على تنظيف البيت بأسره والمكوث في غرفتي طوال الوقت. بكيتُ كثيرًا لأنّني تصوّرتُ أن تحضنَني أخواتي وتطلبنَ السماح منّي لسوء معاملتهنّ لي.

 

وبعد أسبوع واحد اكتشفتُ أنّني على الأرجح حامل، وأكلَني الهم، فكنتُ أعلم ما كان سيعني ذلك، فبقيتُ بغرفتي لا أبارحها إلا لجلب الأكل إليها والذهاب إلى الحمّام. كنتُ أقوم بواجباتي المنزليّة بسرعة لأعود وأسجن نفسي بعيدًا عن الأنظار. وعندما كبُرَ بطني صِرتُ ألبس ثيابًا واسعة، ولم يلاحظ أحد شيئًا لأنّهم كانوا بالكاد ينظرون إليّ. بالنسبة إليهم كنتُ شخصًا غير مرغوب به.

 

وسافَرَ أبي وارتحتُ كثيرًا لأنّه لن يكون موجودًا عندما يحين موعد الولادة. وجاء اليوم الذي كنتُ أخشاه. كان الألم لا يُحتمل ولم أستطع كبت صراخي. ركضتُ إلى الحمّام وهناك ولِدَ ابني. إلتمَّت اخواتي وراء باب الحمّام، وبدأنَ بالخبط على الباب حتى كسرنَه فرأتني على الأرض مع طفلي وبركة دماء تحيط بي. أخذنَ ابني منّي وتركَنني بعدما قالَت لي إحداهنّ: "يا لكِ مِن انسانة عديمة المسؤوليّة... جلبتِ العار علينا".

 


وبقيتُ أنزف لوحدي، وكنتُ حتمًا سأموت لولا دخول جارتنا التي سمعَت صوتي وقرَّرَت أخذي إلى المشفى. وقبل أن أخرج مِن البيت، جاءَت أختي الصغيرة وهمسَت في أذني: "وضعناه في كيس قمامة ورميناه عن السطح... مات ابنكِ يا عزيزتي الشريفة... مات!"

 

وأغمِيَ عليّ عند سماع ذلك الخبر الفظيع، وجاء زوج الجارة وحملَني إلى سيّارته.

وعمِلَ الأطبّاء على ايقاف النزيف، وعلِموا طبعًا أنّني وضعتُ مولودًا وسألوني عنه. ولكثرة خوفي نكرتُ الأمر ما حملهم على استدعاء الشرطة. جاء مفتّش وبدأ يحقّق معي حتى أخبرتُه بأنّ أخواتي أخذنَ ابني ورمَينَه عن السطح.

ولكن تماسك أخواتي لعِبَ طبعًا ضدّي فبتُ أنا المجرمة بنظر العدالة. وفور خروجي مِن المشفى، نُقِلتُ إلى السجن وتمّت محاكمتي وسجني لسنين. وطيلة فترة سجني لم يكن ببالي سوى أمر وأحد وهو التفتيش عن ابني.

 

ـ ولكنّه مات... ألم تعثر عليه الشرطة أسفل المبنى؟

 

ـ هكذا قالوا ولكنّني لا أصدّقهم... إبني حيّ وسأجده... هو حتمًا في أحد المستوعبات...

 

ـ يا حبيبتي... لقد مرَّت سنوات على الحادثة ولا يُعقَل أنّه لا يزال في مستوعبات القمامة!

 

ـ وما أدراك أنتِ؟؟؟ لماذا لا تريدين أن أجد ابني؟ أنتِ كالباقين... خلتُكِ مختلفة.

 

ـ لا... اعذريني... لم أقصد إغضابكِ... معكِ حق... قد يكون على قيد الحياة... أين تسكنين الآن؟

 

ـ آكل وأنام في مؤسّسة خيريّة ولكنّهم أشرار... يُريدون أن أنسى ابني... يُحاولون محوه مِن ذاكرتي... خاصة ذلك الرجل الذي يُسمّي نفسه طبيبًا نفسيًّا... أعرف ما يحاول فعله ولن أدعه يعبث برأسي... يا إلهي! أتسمعين؟؟؟

 

ـ أسمع ماذا؟

 

ـ طفلًا يبكي... هذا ابني! هذا ابني!

 

وقامَت ريما عن الحافة وركضَت إلى المستوعب، وأخَذَت تفتّش بين الأكياس ومِن ثمّ غابَت عن نظري.

 

بقيتُ أراها وأجلب لها المأكولات وأحدّثها إلى أن اختفَت. بحثتُ وسألتُ عنها ولكن مِن دون نتيجة. إتصلَتُ بالجمعيّات الخيريّة الواحدة تلوَ الأخرى حتى وجدتُ التي كانت تأويها وقالوا لي إنّها لم تعد تقصدهم.

 

أين هي ريما اليوم وما الذي حَدَثَ لها؟ قد تكون ماتت أو قرَّرَت أن تبحث عن ابنها في مكان آخر، بعدما أدركَت أنّه ليس في مستوعبات هذه المنطقة.

 

مضى على اختفاء ريما خمس سنوات ولم تبارح فكري. لم أستوعب مدى شرّ هؤلاء الناس، ولا كيف استطاعوا أن ينقلبوا عليها هكذا وقتل جنينها بتلك الطريقة الهمجيّة. وضعوه في كيس قمامة ورموه... تخلّصوا مِمّا سموّه "العار" وتناسوا أنّ في صدره قلب يدقّ وأنّ ذلك المخلوق الصغير كان متعطّشًا للحياة ولحضن أمّه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button