أهداني الله إبناً شاباً

في الحياة، الكلّ يجد طلبه حتى لو كان إنساناً مثلي، أي امرأة في الخمسين من عمرها توصف بالقبيحة. أجل، لطالما علمت أنّني بعيدة كلّ البعد عن الجمال، الأمر الذي أبعد عني الرجال طوال حياتي. الحقّ يقع طبعاً على والدي اللذين كانا هما أيضاً قبيحَين لكن ليس بمقداري، فلقد ورثتُ أشنَع ملامحهما الجسديّة، الأمر الذي أحزنَهما وأثَّرَ بشكل مُباشَر على قرارهما بعدَم الإنجاب ثانية.

ولأنّ كان لدَيّ المُتّسع مِن الوقت بعيداً عن أمور الحبّ والزواج والإنجاب، صبَبتُ اهتمامي على التطريز وحياكة الصّوف والكروشيه حتى تمكّنتُ مِن العَيش بِكرامة، بعدما ماتَ والدايَ مِن دون أن يتركا لي شيئًا.

فتصوّروا دهشتي عندما قالَت لي جارتي إنّها وجَدت ليَ عريسًا، وإنّ أهله يودّون زيارتي للتعرّف إليّ وطلَب يدي! خلتُها طبعًا تمازحُني فضحكتُ عاليًا قائلة:

 

ـ أليس لدَيهم أعيُن؟

 

ـ لا تقولي ذلك، فأنتِ...

 

ـ أنا ماذا؟ جميلة؟ جذابّة؟ فتيّة؟

 

ـ لدِيكِ خصائص عديدة، يا عزيزتي... لِما لا تستمعي لهؤلاء الناس؟ لا تنسي أنّكِ وحيدة وأنّ الحياة لن تكون سهلة عليكِ في المُستقبل.

 

ـ لدَيّ عملي!

 

ـ وماذا ستفعلين عندما تبدأ أصابُعكِ بالرّجفان وتؤلمُكِ مفاصلكِ؟

 

قبلتُ على مضض عرض جارتي، وفي اليوم المذكور دقّ بابي ثنائيّ لَم أرَه في حياتي. كان مِن الواضح أنّهما أناس أثرياء مِن لباسهما الفاخرة، ومجوهرات السيّدة والسيّارة الفخمة التي تنتظرهما في الخارج. إرتبكتُ للغاية وتمتمتُ لهما أن يدخلا إلى بيتي المتواضع. جلَسنا صامتين لبضع دقائق ثمّ قال لي الرّجل:

 


ـ لقد سمعنا أشياءً حميدة عنكِ يا آنسة، وبودّنا أن تقبلي بابن السيّدة ليلى زوجًا لكِ. أنا مُحاميها فزوجها متوفٍّ.

 

نظرتُ إلى السيّدة التي لَم تُحرّك ساكنًا، فتابَعَ المحامي:

 

ـ إبن السيّدة ليلى، وإسمه عُمر، هو شاب في الخامسة والعشرين مِن عمره.

 

ـ مهلاً أستاذ! هل تُدرك كَم عمري؟

 

ـ أجل، نعرفُ كلّ شيء عنكِ.

 

ـ إذًا لماذا...

 

ـ السيّد عُمر مكفوف، فقد فقَدَ نظره إثر حادث مؤسف... كان بعض الأولاد يرمون كريات ثلج على السيّارات المارّة وكان في إحدى الكريات، بالخطأ، حجر كبير. فأُصيبَ السيّد عُمَر بوجهه، وانكسَرَت نظاراته ودخَلَ زجاجها في عَينَيه.

 

ـ يا إلهي...

 

ـ ثمّ غرِقَ المسكين بإكتئاب حاد، بعد أن تركَته خطيبته وابتعدَ عنه أصدقاؤه، فما حاجتهم لإنسان غير قادر على مُجاراتهم في سهراتهم ولهوهم.

 

ـ ولماذا تزويجه لامرأة غريبة عمرها ضعف عمره؟

 

ـ موكّلتي، السيّدة ليلى، مُصابة بمرض عُضال وستموت قريبًا.

 

ـ أنا آسفة...

 

ـ وبعد موتها، سيبقى وحيدها مِن دون رعاية، فكما أخبرتُكِ لقد تأذّى نفسيًّا لدرجة كبيرة.

 

ـ لأيّ درجة تعني؟

 

ـ هو يجلسُ مكانه طوال النهار ولا يتفوّه بكلمة إلى حين يخلد إلى النوم. لا تُريدُ موكّلتي إرساله إلى مؤسّسة خاصّة خوفًا مِن أن يُسيئوا معاملته يومًا.

 

ـ قد أُسيء أنا أيضًا مُعاملته.

 

ـ ليس طالما أنا على قَيد الحياة. إسمعيني جيّدًا، آنستي... إن قبلتِ الزواج مِن السيّد عُمَر، ستنالين مبلغًا مِن المال شهريًّا ومبلغًا ضخمًا كلّ خمس سنوات إن أحسنتِ التعامل مع زوجكِ.

 

ـ لكنّني سأموتُ قبله... مَن سيهتمّ به حينها؟

 

ـ لا بل قد يموت هو قبلكِ... فهو ورِثَ حالة أمّه الصحّيّة، لكنّنا لا نعلم بعد إن كانت حادّة أم ألطَف مِن التي تعاني منها السيّدة ليلى.

 

ـ وما رأي السيّد عُمَر بالزواج ومنّي بالذات؟

 

ـ قُلنا له إنّكِ قريبة لأمّه وإنّه سيكون في مكان هادئ وبعيدًا عن الناس الذين يعرفُهم. مسألة الزواج هي صُوَريّة وفقط لحماية سمعتكِ مِن كلام الناس. فلَن يكون هناك أيّ اتّصال جسديّ بينكِ وبينه. إخترناكِ بالذات كي لا تُنجبي منه لو حصل خرق لهذا الشرط.

 

ـ أنا بحاجة إلى بعض الوقت للتفكير.

 


رحَلَ ضَيفايَ مِن دون أن تفتَحَ السيّدة ليلى فمها، وأنا جلستُ في الصالون أحلّل ما حدَثَ. فكّرتُ مليًّا بذلك العرض، ووجدتُ أنّ لا بأس به مِن جهة تأمين شيخوختي. إضافة إلى ذلك، زواجي، وإن كان صوَريًّا، هو انتصار على بشاعتي وإثبات للجميع أنّني قادرة على الفوز بقلب شابّ ثريّ. فكنتُ قد سئمتُ التلميحات المؤذية حيال شكلي، أو حتى نظرات الشفقة التي لطالما رأيتُها في أعيُن الناس.

بعد أن أعطَيتُ جوابي للمحاميّ بأيّام قليلة، وصَلَ "عريسي". تفاجأتُ بسنّه ووسامته، وأسفتُ جدًّا على الذي حصَلَ له، فبلحظة كان قد فقَدَ مُستقبله بأسره. فالإصابة لَم تكن فقط في عَينَيه بل أثّرَت أيضًا على عقله.

تصرَّفَ عُمَر وكأنّني غير موجودة، فراح يجلس على إحدى الكنبات الموضوعة قرب الشباك وكأنّه علِمَ بأنّ المنظر الذي لن يراه يومًا، هو خلاب. أعطاني المُحامي كيسًا فيه أدوية الشاب لعلاج كآبته ودائه العضال، وشنطة تحتوي على أمتعته، ثمّ أكمَلَ ببعض التوصيات العامّة والخاصّة والطبّيّة... ورحَلَ. إحتَرتُ في أمري لكيفيّة التعامل مع إنسان عزلَه عقله عن العالم الذي يُحيطُ به لكثرة خَيبته مِن الناس والحياة. لِذا تركتُه جالسًا مكانه ورحتُ أحضّر غرفته والغداء. ومِن الجيّد أنّني كنتُ أجيدُ الطهو، فأحبّ عُمَر ما قدّمتُه له. عرفتُ ذلك مِن البسمة الخفيفة التي علَت شفتَيه وعندما أشارَ إلى الطبق الفارغ كي أملأه مُجدّدًا.

مِن حسن حظّي أنّ ضَيفي كان يعرفُ كيف يستحمّ بنفسه وإلا لَما استطعتُ المُتابعة، فلَم أرَ بحياتي رجلاً عاريًّا ولَم أكن مُستعدّة لأنّ يحصل لي ذلك في هذه المرحلة مِن حياتي. للحقيقية، أجادَ عُمر التجوّل في البيت لوحده بعد بضع مُحاولات، الأمر الذي وفَّرَ عليَّ الكثير مِن العناء.

جاء الناس إليّ مُهنّئين بعدما نشَرَت جارتي، بناءً على طلَبي، خبَر زواجي ولَم يُصدّقوا أنّ عُمَر، حتى لو كان مكفوفًا و"هادئًا" قد يُريدُني زوجة له. إلا أنّهم فوجئوا بحقيقة الأمر وأنا افتخَرتُ بنفسي، خاصّة بعدما رويتُ للجميع قصّة إخترَعتُها عن لقائنا الأوّل وبداية الحبّ الذي جمعَنا.

مرَّت أيّامي مع عُمَر بهدوء تام، فهو كان يجلسُ في مكانه المُفضَّل ويُحدّق بظلمة عَينَيه، وأنا أهتمّ بالبيت وبأشغالي اليدويّة وبه. حاولتُ التكلّم معه مرارًا، إلا أنّه لم يُجِب ولو مرّة واحدة. كنتُ أعلم ممّا قالَه لي المحامي أنّ الشاب يسمعُ ويفهَم كلّ شيء، إلا أنّه غير قادر على التعبير عمّا في رأسه نتيجة الصدمة.

إنقضَت الأشهر ومِن ثمّ السّنوات، وجاء المُحاميّ ليُعطيني مبلغًا كبيرًا كما وعدَني أن يفعل، وليُخبرَني على انفراد أنّ أمّ عُمَر قد ماتَت. ثمّ رحَلَ. ولحظة أقفلتُ الباب وراء الرجل، سمعتُ صوتًا يقول لي: "أنا جائع". إستدرتُ لأكتشف بِفرح لا يوصَف أنّ عُمَر تكلّمَ أخيرًا. لَم أقُل شيئًا بل ركضتُ أحضّر طعام ضيفي المُفضّل.

تحسّنَت حالة عُمَر ببطء لكن باستمراريّة مُرضية. لَم أخبِر المُحاميّ بشيء خوفًا مِن أن يتراجع الشاب فجأة بعد أن لاحظتُ شدّة تأثّره بكلّ ما يُحيطُ به. تفاعله كان بأوجّه عندما كانت تأتي جاراتي وألعب معهنّ الورق. عندها كنّا نسمع عُمر يُصحّح لنا حسابات النتائج أو يُصفّق عندما أربَح.

كتمتُ سرّ تعافي عُمَر التدريجيّ إلى أن صارَ قادرًا على الكلام بطلاقة والتعامل مع الذي يُحيطُ به بصورة شبه طبيعيّة، وذلك كي لا يَنصدم بالعالم الخارجيّ بعد أن عاشَ في كنَفي بأمان.

طلبتُ مِن المُحاميّ أن يأتي ويرى بنفسه كيف أنّ عُمَر صارَ أهلاً لاستعادة ما ترَكه منذ حوالي العشر سنوات.

عندما رحَلَ عُمَر، شعرتُ أنّ قطعة منّي أُخِذَت منّي، فكان عُمَر قد أصبَحَ بمثابة الابن الذي لطالما تمنَّيتُه، وعاملتُه بحبّ لا يُقاس. لكنّني كنتُ أُدركُ أنّ مُستقبله لا يجب أن يكون معي بل مع مُحيطه وناسه. فكيف ستكون حياته لو بقيَ بجانبي؟ بكينا سويًّا كالأطفال وأوصَيتُه بألا يُنسني، ويسأل عنّي مِن وقت لآخر، وهو وعدَني بأن يفعل.

زغرَدتُ عاليًا عندما أخبرَني عُمَر هاتفيًّا بأنّه وجَدَ مَن يُحبُّه ومرّة أخرى عندما جلَبَ خطيبته إليّ. كان قلبي قد ارتاحَ أخيرًا على "صغيري". إستغرَبَ الجيران كيف لي أن أفرَحَ هكذا للذي كان يومًا زوجي، فضحكتُ بسرّي وأجَبتُهم بأنّ صدري رحب للغاية. وعندما تزوّجَ عُمَر، أصرّ عليّ أن أسكن معه وعروسه، لكنّني رفضتُ بتهذيب. فمكاني في بيتي ومكانه هو في بيته، إلا أنّه بقيَ على وعده لي ولَم يتركني، بل ظلّ يزورُني باستمرار ويدعوني إلى منزله ويُساعدني ماليًّا. لِحسن حظّه، لَم يتفاقَم المرَض الذي ورثَه مِن المرحومة أمّه، لكن كان عليه أخذ الأقراص مدى حياته.

أنا اليوم في السبعين مِن عمري وأستقبلُ كلّ أسبوع "أحفادي" بِفرح كبير، هم أيضًا تعلّموا أن يُحبّوني وكأنّني فعلاً جدّتهم بعدما أخبرَهم أبوهم عمّا فعلتُه له. وعندما أفكّرُ بتلك القصّة، أُدركُ كَم أنّ الله يُحبُّني وكَم أنّ هدّيته لي كانت عظيمة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button