أمي هي التي دمَّرَتني

بعد مشاجرات عديدة وعنيفة، تركَت أمّي المنزل وقصَدَت أهلها حيث مكثَت حوالي السنة، ولم تعد إلا بعدما توسّلَها أبي. ولكنّ فور عودتها، لا حظَت والدتي تغييرًا في بعض الأثاث والأغراض، وشعَرَت عن حق أنّ امرأة ثانية حلّت مكانها. عندها اعترَفَ لها والدي بأنّه تزوّج بعد رحيلها مِن أجلنا أنا وأخي الأصغر.

وبالرغم من أنّها هي التي تركَته وأنّه طلّق الزوجة الجديدة، أدركَت أنّها لم تكن مِن دون بديل وأنّ الجميع خانها... الجميع؟ بالأحرى أنا بالذات، وعاتبَتني لأنّني لم أكتب لها لأخبرها بالذي يجري. وكيف لي أن أفعل وأنا كنتُ لا أزال فتىً في السادسة مِن عمري وبالكاد كنتُ قد بدأَت أذهب إلى المدرسة. واصبحتُ الخائن الذي ساهَمَ بغشّها وأجبرَها على العودة. لم تفكّر حتى بأنّها كانت قد تَرَكَت وراءها ولَدَين صغاراً. لم تفكّر سوى بنفسها. هكذا كانت ولا تزال.

وبالرّغم مِن ادّعائها بأنّها كانت تكنّ لنا حبّ الأم الأسطوريّ، إكتشفتُ لاحقًا عندما كنتُ أرتّب أغراض أبي بعد وفاته أوراق دعوى الطلاق حيث أكّدَت للقاضي أنّها لا تطالب بالحضانة ولا تريد سوى الطلاق والإبتعاد عن زوجها. وصُدِمتُ كثيرًا، فكيف لأمّ أن تتخلّى بهذه البساطة عن صغارها؟ والجواب كان سيأتي في معاملتها لنا وخاصّة لي.

مرَّت السنين وكبرنا، وبقيَ أخي الأصغر المفضّل عند الجميع بعد أن فقدتُ الحليف الذي وجدتُه بأبي. فتّشتُتُ عن العاطفة عند أصدقاء لي، وكنتُ أقضي وقتي معهم كي لا أعود إلى البيت حيث كنتُ الغير مرغوب به.

 


وانتقلنا مِن مدينة بوقرة للعيش في حجوط وبدأتُ حياة جديدة مركّزًا على دراستي. ولكنّني كنتُ مختلفًا عن رفاقي. كنتُ خجولاً ومنزويًا بالرغم مِن علاماتي الممتازة. فقد كنتُ الأوّل في المدرسة كلّها.

وللحقيقة لم أكن سعيدًا بسبب أمّي التي لم تكفّ عن معاملتي بقساوة. كانت تفرض عليّ أن أقوم بالأعمال المنزليّة مِن تنظيف وكوي وحتى الطهو. أمّا أنا فطاوعتُها على أمل أن ترضى عليّ وتنسى أنّني في عمر السادسة لم أخبرها عن زواج أبي. ولكن وبالرّغم مِن تفوقيّ في المدرسة وعملي في البيت، لم ألمس منها أيّة شفقة.

وتمنَّيتُ الموت. وكلّ ليلة قبل أن أنام، كنتُ أطلب مِن ربّي أن يأخذني إليه. ولكنّني كنتُ أستفيق في الصباح ليبدأ نهار جديد مِن التجاهل والذِل. وكبرتُ لأنّني لم أمُت. وأنهيتُ دراستي في العاصمة بدرجة ممتاز وباشرتُ مشواري المهني. كل ما كنتُ أريده كان أن أصبح مستقلاً وأصرف على نفسي، بعد أن مللتُ مِن تهديدات أمّي بقطع المال والمأكل عنّا بين الحين والآخر. وكان علينا إطاعتها أو ترمينا في الطريق. وحتى لو فعلتُ كل ما تطلبُه لم يكن ذلك ليرضيها. رحمكَ الله يا أبي... كم عانَيتَ منها وكم ارتحتَ بموتكَ!

ولكن مِن دون واسطة لم أكن قادرًا على التقدّم في عملي، فهكذا فكانت تجري الأمور في بلادي لذا قرّرتُ العمل مِن دون توقّف. ومع أنّ رؤسائي كانوا ممتنّين مِن أدائي، لم أشعر بمهارتي بعد أن اعتدتُ أن أُتحطَّم مِن قِبَل أمّي. فمع مرور السنين، كنتُ متأكّدًا من أنّني لا أستحقّ الحبّ وأنّ موتي أفضل مِن بقائي على قيد حياة لا أستحقّها. ولأنّ الانتحار محرّم عندنا فقد تابعتُ العيش على مضَض.

 

وتركتُ منصبًا مهمًّا في الوزارة عندما كنتُ في الـ 35 لأنّهم أرادوني أن أكون مطيعًا فرفضت أن أتحمّل المزيد مِن الذل. فما كنتُ أعاني منه في البيت كان كافيًا. وعدتُ إلى أمّي لأكتشف أنّها أعطَت أخي نصف المنزل، وأنّه كان ينوي هدمه ليبني لنفسه منزلاً جديدًا بقصد الزواج.

كانا قد محياني مِن حياتهما. وبالرغم مِن ذلك، ساعدتُ في أعمال الهدم والعمار. وفي المساء بعد انتهائي مِن بالتنظيفات، كنتُ أنام على فراش في أرض المطبخ وسط برد قارص، بينما كانا ينامان كلّ واحد منهما في غرفته الدافئة. كنتُ عبدًا لتلك العائلة التي لم تحمل تجاهي أيّة مودّة أو إحترام حتى لو فعلتُ المستحيل.

 

كراهيّة أمّي لي كانت تصل إلى حدود اللامعقول، فهي كانت تفضّل خلال شهر رمضان رمي الطعام في القمامة على أن تطعمني إيّاه، مع أنّني صرفتُ آخر فلس لديّ لشراء الأكل خلال الشهر المبارك.

وفي ثاني أيّام العيد، وبعد أن ضاقَ قلبي بالذي يحصل، فضّلتُ أخيرًا الرحيل عن المكان الذي لا مكان لي فيه. وقصَدتُ مدينة وهران والتجأتُ لدى صديق لم أكن حتى أستلطفه، ولكن كره أمّي لي دفَعَني إلى رمي نفسي في أي مكان طالما كان بعيدًا عنها. واستقبلَني الرّجل بلطف وسط عائلته التي أحسنَت معاملتي، ووجَدَ لي عملاً في معمل لم أبقَ فيه طويلاَ.

 


وسافرتُ إلى العاصمة مِن جديد، ومِن ثم إلى مدينة بجاية لمقابلة عمل، ولكنّي لم أحظَ بالوظيفة بل بقيتُ بضعة أيّام أنعم بجمال تلك المدينة حيث خالَ الجميع أنّني مدير مؤسّسة كبيرة في الوقت الذي كنتُ بلا عمل أو مسكن.

وبعد أن صرفتُ القليل الذي كنتُ أملكه، عدتُ إلى العاصمة ونمتُ تحت الجسور وفي مواقف الباصّات. كنتُ آكل كلّ ما أجده وأتمنّى لو أموت في كل لحظة. ولكنّني بقيتُ على قيد الحياة.

وبعد أيّام طويلة، علِمَت صديقَتَين لي تعيشان الواحدة في فرنسا والأخرى في كندا بحالتي المزرية، فقرّرتا مساعدتي عبر معارف لهما في العاصمة. وهكذا سكنتُ في فيلا قيد الانشاء في مدينة سطاوالي مع عاملَين أجنبيَين عملا جهدهما لإزاحتي مِن دربهما باتهامي تارة بالسّرقة وتارة بالتعامل مع بنات الهوى. وبالطبع لم يكن ذلك صحيحًا فقد كان همّي الأوحد أن أجد سقفًا يأويني.

ووجدتُ نفسي في الطريق مِن جديد أبكي وأنا أستعطف ربّي ليأخذني إليه ويُريحني مِن عذابي وجوعي.

وتذكّرتُ أنّني أعرف شخصًا في تلك الأنحاء، فاتصَلتُ به وآواني في شبه خربة لا يوجد فيها كهرباء ولا ماء ولا غاز ولا حتى شبابيك. لم يكن لدَيّ شيئًا آكله ولكنّني وجدتُ سقفًا. كان ذلك الحيّ غير ودود والناس لم تتقبّلني، فاخترتُ أن أقضي وقتي في الجامع أصلي واستعمل حمامّات بيت الوضوء لأخزّن الماء قبل وصول المصلّين.

وفي ذات يوم وأنا على شفير الموت جوعًا، قدِم إليّ شاب كان يصليّ صلاة المغرب بجنبي. قال لي إنّه إبن المؤذّن، وكان الرجلان قد لاحظا ضيقي ويأسي فطلبَ منّي أن أنضمّ إلى العائلة كلّ ليلة لتناول وجبة المساء معهم. وكبر قلبي إذ كانت هناك طيبة في الدنيا القاسية التي رُميتُ بها.

ولأنّ القدر كان قد قرَّرَ أن يلتفِت إليّ، وجدتُ عملاً في مركز إتصالات في العاصمة إذ كنتُ أتقن اللّغّة الفرنسيّة لأنّ الزبائن كانوا بمعظمهم فرنسيّين.

وهكذا كنتُ أعود في المساء إلى بيت المؤذّن وآكل شَبَعي وآخذ معي كميّة مِن الماء اللازمة للوضوء والإستحمام قبل أن أذهب إلى وظيفتي في الصباح.

وانكببتُ على عملي وعلى الصّلاة. كنتُ أحمل القرآن الكريم وأقرأ كلّ ليلة 200 آية على ضوء الشمعة، وأستفيق عند الفجر للصّلاة. صلّيتُ بكلّ جوارحي ليجد لي الله الخلاص، وكنتُ أبكي دموعي كلّها لكثرة حسرتي.

وبعد أشهر قليلة، إتّصل بي زميل لي سابق في الوزارة التي عملتُ بها وطلَبَ منّي أن أعمل لدَيه.

اليوم أنا موظّف كبير في شركة كبيرة. لا أزال مِن دون مسكن وأنام في حَرَم المؤسّسة.

أحاول نسيان ما فعلَته أمّي بي وأحاول المضيّ بحياتي. ولكن في صميمي لا أزال مقتنعًا بأنّني لا أستحقّ حبّ الناس وبأنّني لا أستحقّ شيئًا كما كانت تردّد عليّ والدتي. ليس لدَيّ حياة عاطفيّة، فلم أجد مَن يرفع ثقتي بنفسي. قصدتُ طبيبة نفسيّة ولكنّها لم تستطع مساعدتي. أواصل العيش لأنّني وبسبب ايماني لا أستطيع وضع حدّ لحياتي، ولا أعرف ما هي السعادة لأنّ أمّي دمّرَت حياتي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button