أصبحنا ضحية حلقة الموت

كانا أعزّ الأصدقاء، وأقسم أنّ وسام ابني كان مستعداً للموت مِن أجل كريم فلقد كبرا سويّاً في قريتنا الجميلة. ولاحقًا عندما تزوّج كريم مِن سارة وحتى بعد ولادة أولادهما الثلاثة، بقيَ الجميع على علاقة وطيدة.

كنتُ أتمنّى أن يتزوّج إبني هو الآخر، ولكنّه كان مشغولاً بي وبحالتي الصحيّة التي لطالما كانت هشّة. ولو سألَ أيّ أحد عن وسام، لقال له الجميع إنّه ألطف رجل في العالم. فهو لم يرفع صوته يوماً أو يدخل بمشاجرة مع أياً كان بل كان يجد دائمًا الحلّ المسالم والودّي.

 

ولكنّ الشيطان دائمًا موجود، مختبئاً في زوايا العقول، متربّصًا في طيّات النفس البشريّة بانتظار اللحظة المناسبة لتدمير حياة أو أكثر، لِيتفرّج مِن بعدها ضاحكًا على الخراب الذي سبّبَه. فأنا متأكّدة أنّ وحده الشرّ هو الذي أقنعَ وحيدي بشراء مسدّس، خاصّة أنّه لم يكن أبدًا بحاجة إليه.

لماذا فَعَل ذلك إذًا؟ سألتُه ذلك السؤال عندما أراني سلاحه الجميل، فأجابَ بكلّ بساطة:

 

-مِن دون سبب... عَرَضَه عليّ أحد أصدقائي وأشترَيتُه لأساعده في محنته.

 

هكذا كان وسام، دائمًا حاضرًا لمساعدة الآخرين، ولم أفهم يومًا كيف تحوّلَ بين لحظة وأخرى إلى قاتل. فكما ذكرتُ سابقًا، كان كريم وعائلته يأتون دائمًا لزيارتنا وقضاء وقت ممتع عندنا، وكنتُ أحبّ الجلوس مع سارة نتحدّث عن أمور عديدة. وفي تلك الليلة المشؤومة، جاءا مِن دون الأولاد، وأحمِد ربّي أنّهما لم يصطحبانهم معهما.

كان وسام قد أخرجَ مسدّسه الجديد ليريه لصديقه، ويعرض عليه الذهاب في اليوم التالي للتمرّن على الرماية في الحرج المجاور. وكي يبهر كريم، أخَذَ إبني ينظّف سلاحه ليجعله يبرق جيّدًا.

 


وفي تلك الليلة، دخل كريم وسارة بعد ان كنتُ قد تركتُ لهما الباب مفتوحًا. ومِن المطبخ، سمعتُ طلقة نار قويّة جدًا. ركضتُ كالمجنونة لأرى كريم على الأرض ودمه يفرغ منه بسرعة هائلة. كان إبني قد وضعَ سهوًا الرّصاص في المسدّس وانطلقَت إحداها رغمًا عنه. وأخَذَت سارة تصرخ بأعلى صوتها:

 

-لقد قتلتَ كريم! أيّها المجرم! أين الشرطة؟ أيّها المجرم!

 

ونظَرَ إبني إليها وأطلق متر مسدّسه وقتلها بدورها لإسكانها. وتجمَّدَ الدم في عروقي لرؤية وحيدي يقتل المسكينة بكلّ برودة أعصاب وكدتُ أن أموت بدوري. شعرتُ بالغرفة تدور مِن حولي وتمسّكتُ بالأثاث كي لا أقَع. ومِن ثمّ خرجَ وسام مِن البيت وكَسَر زجاج نافذة الصالون واطلقَ مِن الخارج رصاصات أخرى. وعندما عاد إلى الداخل قال لي:

 

- أتى غرباء وأحاطوا المنزل وقتلوا كريم وسارة... أفهمتِ؟ أفهمتِ؟ خذي المسدّس وخبّئيه تحت ملابسكِ فلن يشكّ أحد بكِ.

 

نظرتُ إلى عينَيَه ولم استطع التعرّف إلى إبني وخفتُ منه كثيرًا، وخلتُ للحظة أنّه سيقتلني أيضًا. وتمتمتُ:

 

-أجل... فهمتُ... سأفعل ما تطلبه منّي

 

وبعد ثوانٍ قليلة، إمتلأ البيت بالذين سمعوا صوت الرصاص، سائلين عمّا جرى وسمعتُ وسام يروي لهم قصّته. وبالطبع وافقتُ عليها لأحمي الذي تعِبتُ عليه منذ ولادته والذي اعتقَدتُه إنسانًا طيبًّا وبريئًا.

وعندما أتَت الشرطة وحقّقَت ورأت النافذة مكسورة، إستنتجَت أنّ القاتل أو القتلة جاؤوا مِن خارج القرية بغرض تصفية حساب ما مع كريم. ولم يشكّوا بإبني لعدم وجود أي دافع لدّيه، خاصة بعدما شهدَ الجميع بقوّة صداقة الرّجلَين. وطوِيَت الصفحة.

 

وبقي أولاد الفقيدَين لوحدهم، وكان عمرهم آنذاك 10 و7 و3 سنوات.

كان يأتي عمهمّ وبعض الأقارب للإطمئنان عليهم وتزويدهم بالأكل والشرب وبعض المال، ولكن ما مِن أحد أخذ على عاتقه إيواءهم. وكنتُ مِن الذين اهتموّا بهم وهذا أقل ما كان بإمكاني فعله مِن أجلهم. أمّا وسام فبقيَ يتصرّف وكأنّ شيئًا لم يكن، وسألتُ نفسي مرارًا إن كان إبني يملك عقله الكامل. فلم ارَ علامات الندم على وجهه أو في تصرّفاته. كان وبكلّ بساطة قد نسيَ أنّه قتل شخصَين.

وبعد بضع سنوات، تزوّج إبني أخيرًا وأنجب ولَدَين، أصبح أولاد كريم وسارة أعزّ أصدقائهما يلعبون سويًّا ويتقاسمون معهم كلّ شيء.

 

وقرّر إبن كريم البكر الإنتقال إلى العاصمة لإيجاد عمل يُخوّله تحسين أحوال أخوَيه ودفع تكاليف دراستهما. وبعد أن ودّعنّا وأوصانا بالإهتمام بشقيقَيه رحَلَ وقلبه مليء بالأمل. وقد كان على خلاف باقي الأولاد، شابًا مسؤولاً وقويّ العزيمة ربما لأنّه كان الأكبر وكان واعيًا كفاية وقت وقوع الحادثة ليُدرك أنّ على أحد لعب دور ربّ العائلة.

 


ومرَّت الأشهر قبل أن يعود محمّلاً بالهدايا للجميع. وكان يُرسل لأخوَيه المال اللازم، ولكنّه لم يكن قادرًا على ترك عمله الجديد. كان قد كبر مع المسؤوليّة الملقاة على كتفَيه، وبات يُشبه أباه كثيرًا، الأمر الذي أثّر بي إلى حدّ كبير... ورجع إلى المدينة بعد أن اطمأنّ علينا.

ولكنّ العالم صغيراً، وحصل أن التقى جاد بأحد سكّان القرية الذي كان هو الآخر قد ترك كلّ شيء والتجأ إلى العاصمة. وبعد تبادل الحديث والأسماء والتفاصيل، تعرّف الرجل إلى إبن كريم وسارة وتكلّما عمّا جرى في تلك الليلة. وقال له:

 

ـ مسكينان كريم وسارة... كم مِن المؤسف أن يموتان هكذا... وعلى يدّ صديق لهما.

 

ـ ماذا؟

 

ـ لم تمرّ قصّة وسام على أحد... أقصد إلا على الشرطة التي صدّقَت نظريّة الغرباء الذين أتوا بغرض التصفية... كل أهالي القرية رأوا أنّ كسر النافذة مفتعل... وبمجرّد النظر إلى والدة وسام علِمنا أنّ ابنها مذنب... كانت خائفة منه وليس عليه... إضافة إلى ذلك وعلى مسمعنا كان هناك وقت بين الطلقات... لوَ أتى رجال بقصد القتل لكانت الطلقات متتالية ليُتيح لهم الأمر بالفرار بسرعة... وعلِمنا أنّ وسام إشترى مسدّسًا مِن صديق له... ما مِن شيء يُخفى في القرية، إلا ذلك المسدّس الذي تبخَّرَ فجأة.

 

ـ لا أصدّقكَ! هذا مستحيل!

 

ـ سأتصل بشخص يُمكنه إقناعكَ... هو أيضًا كان موجود ليلة الفاجعة.

 

وأتى صديقه وروى لجاد الأحداث نفسها مع تفاصيل إضافيّة. ولقد علِمتُ ما جرى مِن جاد نفسه.

بعد أن علِمَ الشاب بالحقيقة، إمتلأ قلبه بغضب شديد تجاه ذلك الصّديق القاتل والغدّار الذي حرمه مِن أبوَيه وجعل منه ومِن أخوَيه أيتامًا يتكلّون على حسنات الناس.

وبات لا يُفكّر إلا بشيء واحد، وهو الإنتقام. وكان عليه الأخذ بثأر أبيه بأيّة طريقة وبأسرع وقت.

وهكذا جاء جاد إلى القرية في ليلة مظلمة ومكَثَ في الحرج يُراقب المنزل. كان ينتظر لحظة تواجد وسام لوحده في البيت كي لا يؤذي باقي العائلة فقد كان عليه الثأره من إبني فقط. وعندما كانت كنّتي مع حفيدَيّ عند أمّها دخل علينا جاد. فتح الباب الذي لم يكن مقفلاً يومًا ووقَف أمام وسام صامتًا. سمعتُ إبني يقول له:" ما أخّرَكَ حتى الآن؟". وعندما دخلتُ الصالون لأرى مَن جاء لزيارتنا، وجدتُ جاد يحمل مسدّسًا بيده. توقّف قلبي لثانية أو إثنَتين عن الخفقان لشدّة خوفي على إبني. كنتُ أخشى تلك اللحظة منذ زمن بعيد فلا بدّ أن يدفع أحد ثمن ما حصل. والغريب في الأمر أنّ وسام لم يكن خائفًا، وكأنّ الوقت جاء ليرتاح أخيرًا مِن تأنيب ضميره الذي عمِلَ جهده على إخفائه وإسكاته. وأخبرَنا جاد أنّه علِمَ الحقيقة مِن سكان القرية، ولم يُكذّبه إبني ولا حتى أنا. كنّا قد تعبنا نحن الإثنَين. وقبل أن يُطلق جاد النار على وسام، قال لي: "سامحيني". وقتل وحيدي. وركضتُ أضمّه إلى صدري للمرّة الأخيرة.

وخَرَجَ جاد بِصمت. ولم أقل لأحد مَن قتل إبني فلم أكن أريد أن يُقرّر أحد أحفادي الإنتقام لأبيه. أردتُ كسر حلقة الثأر اللعينة. كفى موتًا، كفى دماء. دفَعَ وسام ثمن جريمته، ويا ليتَني قلتُ آنذاك للشرطة ما حصل فعلاً لكان إبني لايزال على قيد الحياة اليوم.

واحتفظتُ بهذا السرّ الثقيل حتى اليوم، بعدما تأكّدتُ أنّ الأسماء والتفاصيل التي تدلّ على هويّة الأشخاص المتورّطين سيتمّ تغييرها.

فكان لا بدّ لي أن أخبر الناس بما جرى ليُدركوا أنّ الجميع معرّض لأن يصير قاتلاً إن توفّرَت الظروف لذلك، وأنّ الإنتقام أو ما يُسمّى بالثأر لا يُعيد الأموات إلى الحياة بل يزيد مِن شرّ هذا العالم ويُفرح قلب عدوّ الإنسان: الشيطان.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button