أرمَلتي تخونُني

أعلَم ما تقولونه: "كيف له أن يكون ميّتًا ويُخبرُ قصّته؟" . الجواب بسيط للغاية، فأنا حَيّ أُرزَق وأتمتَّع بصحّة مُمتازة! دعوني أُطلِعُكم على التفاصيل كلّها وستعرفون تمامًا ما جرى:

تزوّجتُ ورانيا حين كنتُ لا أزالُ أبحَث عن عمَل بعد تخرّجي مِن الجامعة. فهي كانت جميلة لِدرجة خفتُ أن يسرقها أحَد منّي. تفاجأ الجميع بقراري وحذّروني، إلا أنّني كنتُ آنذاك أحسبُ نفسي ذكيًّا وشاطِرًا كفاية لمعرفة ما يجب فعله. الحقيقة كانت أنّ أهلي أناس ميسورون وهم ساعدوني في البداية كثيرًا، خاصّة أنّني ولَدهم الوحيد. فلَم يشاؤوا أن يسكن ابنهم في مكان حقير ويموت جوعًا مع عروسه. فاشتروا لي شقّة جميلة، وأقاموا لي حفل زفاف رائع، وأعطوني مصروفي إلى حين صرتُ مُتمرّسًا بالعمَل... في شركة صديق أبي. وقَعَ الحَمل باكرًا ورُزِقتُ وزوجتي بابن جميل ثمّ بثانٍ بعد سنتَين. لَم أستَوعِب أنّني صِرتُ أبًا إلا بعد فترة، وأصبحتُ أهتمّ بولدَيّ كما يجب وأكثر، فأعجبَني الأمر خاصّة أنّ رانيا كانت تُحِبّ النوم والذهاب للقاء صديقاتها.

مرَّت السنوات وكبُرَ الشرخ بيني وبين زوجتي، لأنّنا كبرنا كلّ واحد منّا في جهة، لكنّني لَم أستاء كثيرًا لكميّة العمَل التي كانت على كتفَيّ، فاتضَحَ أنّني أهوى الأعمال وأجيدُ التجارة، وكأنّني رجُل ناضج له خبرة عميقة وقديمة. ثمّ فتَحَ صديق أبي فرعًا في إحدى بلدان الخليج العربيّ وطلَبَ منّي أن أترأسه وأديره. شعرتُ بحماس عظيم، لكنّ رانيا لَم تقبَل الانتقال معي إلى هناك تحت حجّة أنّها ستشعر بالوحدة في بلَد ذي مُناخ حارّ. إضافة إلى ذلك، هي تحجّجَت بأنّ تغيير المدارس لولدَينا سيكون مُضرًّا لهما. لِذا اضطرِرتُ للسفَر وحدي، على الأقلّ لتأسيس الفرع والعودة لدى انتهاء مهامي.

عدتُ إلى البلَد بعد شهرَين، وعانقتُ زوجتي وولدَيّ والدموع في عَينَيّ، ثمّ رحتُ أقبِّل يدَي والدَيّ، فذلك البُعد ضايقَني كثيرًا إذ أنّها كانت أوّل مرّة أُسافِر فيها. قضيتُ حوالي الأسبوع مع عائلتي وطرتُ مِن جديد.

بقيتُ آخذُ الطائرة ذهابًا وإيابًا، إلى حين وجَبَ عليّ التواجد في الخليج لفترة طويلة مِن دون انقطاع، فوعدتُ رانيا أنّني سأفعلُ جهدي كَي لا تشعُر ببُعدي هي وولدَانا، وذلك بالبقاء على تواصل دائم عبر الهاتف والفيديو، وهي بكَت لفكرة ابتعادي عنها هكذا. إعتذرتُ منها شارِحًا أنّ بقائي هناك يعني مالاً أكثر وضمانة أكبَر لراحتنا جميعًا. ولَم أكن أعلَم حينها أنّ زوجتي لَم تكن تُحبُّني.

بعد فترة ليست بطويلة، بدأتُ أُلاحظُ أنّ رانيا ترتدي الأسوَد حين أراها في الفيديو، فسألتُها عن الأمر وهي أخبرَتني أنّ صديقة حميمة لها، واسمها سميرة، قد توفّيَت في الغربة وأنّ قلبها حزين للغاية، إذ أنّها فقدَت أعزّ إنسانة على قلبها. تعجَّبتُ قليلاً، إذ أنّني لَم أكن أعلَم أنّ زوجتي مُتعلّقة بسميرة لهذه الدرجة لأنّها بالكاد تتكلّم عنها أو تتواصَل معها. كلّ ما أعرفه هو أنّها كانت زميلتها في المدرسة وحسب. حزنتُ للمسكينة سميرة، إذ علِمتُ أنّ لدَيها أولادًا وزوجًا كان يعشقها، وشكرتُ ربّي أنّ زوجتي وأمّ ولدَيّ لا تزال موجودة بيننا، فتصوّروا لو فقدتُها! أهلي أيضًا أطلعوني على سماعهم بموت تلك الصديقة، وكيف أنّ زوجتي تلبسُ الأسود حدادًا عليها، وتبكي أمامهم كلّما جاءَت على ذكرها. لَم يكن يعلَم أيّ منّا أنّ لرانيا موهبة خارِقة بالتمثيل. مكثتُ سنة بكاملها في الخليج، وكان قلبي يتقطّع كلّما سمِعتُ ولدَيّ يقولان لي كمّ أنّهما مُشتاقان لي وكذلك رانيا، وبقيتُ أطلبُ منهم أن يصبروا إلى حين أعود. لكن تفاجأتُ كثيرًا وإلى حدّ لا يوصَف برانيا تطلبُ منّي الطلاق!

توسّلتُ رانيا أن تُعطيني ولو بعض الوقت، مُضيفًا أنّني أتفهّم ضياعها مِن دوني، وكثرة المهام التي أُلقِيَت على كتفَيها، إلا أنّها بقيَت مُصرّة. أضافَت أنّها ستترك لي ولدَينا وتُسافِر بعيدًا "لِتبحث عن نفسها"، بعد أن وجدَت أنّ حياتها لَم تعُد مُلكًا لها، وأنّها أهدرَت أيّامها بلعب دور الأم والزوجة المُتفانية. قرّرتُ عندها أنّ عليّ العودة حتّى لو كلّفني ذلك منصبي، فعائلتي كانت الأولويّة لدَيّ.

يوم عدتُ إلى البيت تفاجأتُ برانيا لا تزال تلبسُ الأسود، لكن كان لدَيّ أمور أكثر أهميّة أتناقشها معها. وبعد أن عانقتُ ولدَيّ مُطوّلاً وبكيتُ معهما، جلَستُ مع زوجتي لوحدنا لأعرِفَ منها شخصيًّا ما الذي يدفعُها لتركنا هكذا، وإن هي كانت بحاجة إلى رؤية مُعالِج لتخطّي محنتها، عارضًا مُرافقتها إن كانت تُريدُ ذلك. لكنّها قالَت:

 

ـ أنا لا أشكو مِن شيء على الاطلاق، أريدُ الرحيل بعيدًا وحسب. لقد قمتُ بواجباتي حيالكم، وحان الوقت لأرى ما أُريدُه أنا.

 

ـ سأُعطيكِ بعض الوقت يا حبيبتي و...

 

ـ لا، أُريدُ الطلاق وعلى الفور!

 

ـ ماذا سنقول لولدَينا؟ هل فكّرتِ بهما؟

 

ـ لَم يعودا أطفالاً! خذهما معكَ إلى الخليج، سيلتهيان بإقامة صداقات جديدة.

 

ـ حسبتُ أنّ تغيير المدارس ليس جيّدًا لهما، ألَم تقولي ذلك في ما مضى؟

 

ـ في ما مضى. الآن كلّ شيء تغيّرَ.

 

ـ قولي لي... لماذا لا تزالين تلبسين الحداد على سميرة.

 

ـ لقد اعتدتُ على اللون الأسود... أرى نفسي جميلة به. لا تُغيّر الحديث، أريدُ الطلاق.

 

ويوم أعطَيتُ رانيا طلاقها، خلعَت الملابس السوداء وحزمَت حقائبها، ثمّ ودّعَت ولدَينا اللذَين لَم يستوعبا تمامًا ما يجري، وبالكاد أومَت لي بِيَدها وهي تخرجُ مِن الذي كان بيتها الزوجيّ. أمّا بالنسبة لي، فكنتُ قد طلبتُ مِن الشركة الأمّ أن تُعيّنَ مُديرًا غيري، بعد أن شرَحتُ لهم ما يجري في حياتي الشخصيّة. إلا أنّ مجلس الإدارة قرّرَ أنّ ذلك المُدير البديل سيكون مؤقّتًا، فهم لم يشاؤوا الاستغناء عنّي كلّيًّا.

حضَنتُ ولدَيّ كثيرًا وساعدَني أهلي بذلك. والأغرَب هو أنّ أهل رانيا إنقلَبوا على ابنتهم، مُعتبرين ما فعلَته لا يُمثِّل مبادئهم وقيَمهم. وهكذا لَم نشعُر بغياب زوجتي السابقة كثيرًا، واستطَعنا التفكير بحياة مِن دونها.

وذات يوم، ذكَرَ أحَد ولَدَيّ "العمّ سمير"، وكنتُ أسمعُ بذلك الاسم لأوّل مرّة. سألتُ مَن يكون ذلك الرجُل، فأجابَ ابني الثاني:

 

ـ إنّه صديقُكَ! أنسيتَه؟

 

ـ صديقي؟!؟

 

ـ أجل، هو نفسه الذي أتى حين كنتَ مُسافرًا وجلَبَ لنا الهدايا والحلويات.

 

ـ أكمِل يا حبيبي.

 

ـ ...ولاعبَنا ثمّ انفرَد مع الماما، وخرَجا سويًّا بعد أن طلَبَ منّي وأخي أن نُناديه "بابا"، فرفَضنا. وبعد عودتها، طلبَت منّا الماما عدَم ذكر العمّ سمير وما قالَه، أو أيّ شيء يتعلّق به أمامكَ كَي لا تتضايَق أو تغار. وهو عادَ مرّات عديدة خلال غيابكَ.

 

شعرتُ بغضب لا يوصَف! فكيف لرانيا أن تجلِب عشيقها إلى البيت وتُجلِسه مع ولدَينا؟!؟ هل فقَدت أيّ اعتبار لِحرمة البيت؟!؟ أمّا هو، فكيف يجرؤ على القدوم إلى بيت رجُل آخَر أثناء سفَره، ويطلب مِن ولديه أن يُنادياه بابا؟!؟ إلا أذا... لا، لا يُعقَل ذلك! هل أنّ رانيا قالَت لعشيقها إنّني ميّت؟!؟ ألهذا السبب ارتدَت الأسود طيلة تلك المدّة الطويلة؟

قرّرتُ التقصّي عن خبَر موت سميرة، صديقة رانيا، فكان حَجم زعَلها عليها غريبًا جدًّا. فتّشتُ جيّدًا عبر الانترنت وعلى جميع مواقع التواصل الاجتماعيّ... حتّى وجدتُها! فلا شيء يُخفى في أيّامنا هذه. جلتُ في صفحتها، ولَم أجِد أيّ تعليق يُعبِّر عن أسَف أحَد على موتها في أيّ مكان. لذلك، كتبتُ لسميرة رسالة أدّعي فيها أنّني أريدُ دعوتها وعائلتها إلى العشاء عندما يزورون البلَد... وهي أجابَت على رسالتي شاكِرة دعوتي، وسائلة عن أحوال رانيا التي لَم تسمَع أخبارها منذ سنوات!

هكذا إذًا...

جمَعتُ كلّ المُعطيات التي بتُّ أعرفُها، وتوصّلتُ إلى هذه الاستنتاجات: لسبب لا أعرفه بعد، إدّعَت رانيا أنّها أرملة ولدَيها ولدان، وكي تُبرّر أمامي والجميع لبسها الأسوَد، إخترعَت قصّة موت سميرة، لأنّ تلك الصديقة تعيشُ في الخارج وليست على تواصل معنا، أيّ أنّ أمرها لن يُفضح.

لكن بقيَ سؤال يُحيّرُني: إذا قالَت رانيا لذلك الرجُل إنّها أرملة، فكيف ستتزوّجه إن كانت لا تملك شهادة وفاة؟ أمر غريب بالفعل.

لِذا عدتُ إلى الانترنت، وفتّشتُ على فيسبوك عن أيّة صورة قد يظهرُ فيها رجُل غريب مع رانيا، فأخبارها كانت قد بدأَت تنتشرُ فور وصولها إلى البلد الذي هاجرَت إليه. كانت لها صور عديدة مع صديقات وأصدقاء جدد هناك... ورأيتُ رجُلاً يظهرُ في كلّ الصوَر تقريبًا! والأهمّ أنّ زوجتي السابقة وضعَت علامة على إسمه فلَم يتبقّ لي سوى النقر على بروفايله. نادَيتُ ولدَيّ وسألتُهما إن كان الذي في الصورة نفسه "العمّ سمير"، وهما صرخا: "أجل، أجل!". إبتسمتُ ابتسامة شرّيرة وبعثتُ له الرسالة التالية: "مرحبًا... أنا زوج رانيا السابق... لا أدري إن كنتَ تظنّني ميّتًا، إلا أنّني حَيّ أُرزَق. إعلَم أنّ رانيا تركَتني وولدَينا مِن دون سبب على الاطلاق لتكون معكَ". وبعد ساعات قليلة، أجابَ الرجُل:

 

ـ يعني ذلك أنّها كذبَت.

 

ـ إن شئتَ، يُمكنكَ التأكّد مِن كلامي لدى دوائر النفوس والأمور العائليّة.

 

ـ لكنّها أتَت بشهادة وفاة تحملُ أسمكَ.

 

ـ شهادة مُزوّرة حتمًا. لكن لماذا إصرارها على تلفيق خبَر موتي؟!؟

 

ـ ربّما لأنّني تعرّفتُ إليها حين كانت مُتزوّجة، وقلتُ لها إنّني لا أواعِد نساء مُتزوّجات، فأسرعَت بـ "قتلكَ" صوَريًّا. يا إلهي كَم بكَت عليكَ وكَم انشغلَ بالي على ولدَيكما! واسَيتُها كثيرًا وحاولتُ استمالَة ولدَيكَ وإشعارهما بأنّني قد أستطيع أنّ أكون بمثابة أبيهما. سأرى ما عليّ فعله. لكن سأتأكّد مِن كلامكَ أوّلاً، فقد تكون مُنتحِلاً شخصيّة الزوج.

 

ـ أتفهّم الأمر، ولو كنتُ مكانكَ لفعلتُ الشيء نفسه. على كلّ الأحوال، عليكَ أن تعي أمرًا مُهمًّا: المرأة التي تترك زوجها وخاصّة أولادها مِن دون سبب، لا تتحلّى بأيّة ذرّة أخلاق أو محبّة. ومِن المؤكّد أنّها ستترككَ أنتَ الآخَر يومًا ما.

 

وصلَني اتّصال هاتفيّ مِن رانيا لَم أفهَم نصفه، لأنّها كانت تصرخ لِدرجة أنّني أبعدتُ الهاتف عن أذني. إلا أنّني سمعتُ جيّدًا الشتائم والوعود بالانتقام. هي لَم تسأل عن ولدَيها على الاطلاق. وقد أقفلتُ الخط وحظرتُها.

لكن بعد حوالي الخمسة أشهر، بدأَت رانيا بالتواصل مع ولدَيها وتتوسّلهم أن يُقنعاني بإعادتها إلى البيت. لَم أعرِف بالأمر إلا لاحقًّا، لأنّهما لَم يُريدا إزعالي.

لا تزال رانيا حتّى اليوم تُحاول بين الحين والآخَر الرجوع إلينا. أظنّ أنّها تتذكّرُنا كلّما حاولَت إقامة علاقة مع رجُل وفشِلَت. باتَ الأمر مُضحكًا ومُسليًّا لنا، إذ لدَينا حياة جميلة نحن الثلاثة، خاصّة بعدما أخذتُ ولدَيّ معي إلى الخليج واستعَدتُ منصبي هناك. أمّا بالنسبة لارتباطي بامرأة جديدة، فمِن الأفضل أن أنتظر قليلاً ريثما يكبر ولدَاي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button