أردتُ الإستيلاء على كل ما لديها

بعد بحث دامَ أشهر طويلة، لم أجد عملاً سوى كعاملة منزليّة. بالطبع كنتُ أفضّل شيئًا آخرًا، لكنّ حالتي المادّيّة كانت ستُلزمُني مدّ يَدي إلى الناس، الأمر الذي كان غير وارد بتاتًا.

وبعد أن سجَّلتُ نفسي في مكتب للتوظيف، إتّصَلوا بي ليقولوا إنّني سأعمل لدى أناس أثرياء، وإنّ عليّ اعتبار نفسي محظوظة بما يحصل لي. شكرتُ طبعًا ربّي على إنقاذي مِن الفقر، ووعدتُ نفسي بأن أعمل مِن كلّ قلبي في خدمة هؤلاء الناس.

كانت ليلى، ربّة البيت، مِن سنّي تقريبًا، أي في الخامسة والثلاثين وكانت بغاية الجمال. كان مِن الواضح أنّها تنفقُ الكثير على مظهرها بسبب التزاماتها الإجتماعيّة العديدة. فالسيّدة ليلى محظوظة بكلّ شيء... خاصّة بزوجها السيّد سمير.

وأنا مِن لحظة ما رأيتُ ذلك الرّجل، بدأ قلبي يخفقُ بقوّة وخفتُ أن يظهر عليّ إعجابي. إبتسَمَ سمير وتمنّى لي أن أسعَدَ في العمل لدَيه ولدى زوجته. لم يكن لدَيهما أولاد، واستغرَبتُ الأمر لأنّهما، بفضل مالهما، كانا قادرَين على الإنجاب قدر ما يشاءان. لكنّني لم أتطفّل، ووعدتُ نفسي بأن أعلَمَ المزيد أثناء وجودي في ذلك البيت الجميل.

كان عمَلي شاقًّا وسهلاً في آن واحد، فبالرّغم مِن كبر المكان المؤلّف مِن طابقَين، كان أصحاب البيت دائمَي الغياب، أي أنّ الطلبات كانت قليلة. ومع الوقت، بدأتُ أشعرُ وكأنّني في بيتي. وهذا بالذات ما أوقعَني في المصائب التي تلَت.

إسمحوا لي أن أعود بالزمَن إلى طفولتي وظروف عَيشي، فتلك التفاصيل ستساعدُكم على فهمي أكثر.

وُلِدتُ وسط أولاد كثر، ولم يكن لدَينا معيل سوى أبي الذي بقيَ مصرًّا على تكبير عائلته، بالرّغم مِن عدَم قدرته على إطعام أفرادها. كان إنساناً يفتقدُ المنطق والتخطيط، ولم يرَ البؤس الذي سكنَنا لسنين لا تُحصى. مِن جهّتها، كانت أمّي امرأة بسيطة لا رأي لها، ولا تهتمّ سوى بتحضير وجبات الطعام المؤلّفة مِن الحبوب والأرز والبطاطا.

 


لم أذُق طعم اللحمة إلا عندما جاءَ في أحد الأيّام قريب لنا مغترب محمّلاً بالمأكولات. بعد رحيله، عُدنا إلى فقرنا ولكن طعم اللحمة اللذيذ بقيَ يُلازمني وقتًا طويلاً، وأدركتُ حينها أنّ في الحياة أشياء جميلة جدًّا. لم أذهب إلى المدرسة، بل تعلّمتُ القراءة والكتابة مِن أخي الكبير الذي حظيَ، لوقت قصير، بتعليم يكفي بالكاد للإبتعاد عن الأميّة. لبِسنا ثيابًا مُستعملة أو أخاطَتها لنا أمّنا مِن فضلات أقمشة المحلات.

لذلك كان وجودي في بيت ليلى وسمير بمثابة انتصار على الفقر، واكتشاف لِما كان يجب أن أحصل عليه منذ البدء.

وسرعان ما بدأتُ أكره سيّدتي لأنّها، بنظري، كانت وكأنّها سلبَت منّي حقّي. فكيف لها أن تعيش تلك الحياة الجميلة بينما أكلَني الفقر؟ إضافة إلى ذلك، كنتُ أمقتُ تجاهلها لزوجها. فبينما كان هو في عمله أو مسافرًا، كانت هي تقضي وقتها في المحلات والمقاهي ومصفّفي الشعر. ونادرًا ما كان يجتمع الثنائيّ، وحين يحدث ذلك كانت تدور بينهما شجارات ومناكدات كانت تُزعجني إلى أقصى درجة. لم أفهم ما الذي كان ينقص تلك السيّدة لتكون سعيدة، بينما كنتُ سأكتفي بربع ما لدَيها لأكون في هناء تام.

لَم تشعر ليلى بامتعاضي منها، وبقيَت لطيفة معي، وكم كنتُ أنزعج منها حين تُعطيني أحد فساتينها إذ كنتُ أشعر بأنّني لا أستحقّ في نظرها سوى ما هو قديم وغير مرغوب به.

في تلك الأثناء، بدأ الناطور يتقرّب منّي، الأمر الذي أزعجَني لأنّه ذكّرني بأنّني لن أنال سوى الرجال الذين هم مِن طبقتي الإجتماعيّة، بينما كنتُ أريد رجلاً كسمير.

مِن جهته، كان سمير يُعاملُني بلطف ويُكلّمُني بهدوء مبتسمًا لي طوال الوقت، الأمر الذي حمَلَني على الإعتقاد بأنّه يكنّ لي مودّة خاصّة شبيهة بالإعجاب، ولِما لا، الحب. وأنا، بدأتُ أحوكُ السيناريوهات عن أخذي مكان ليلى في ذلك البيت الجميل وأخذ ثيابها وحلاها، وما هو أهمّ مِن ذلك، زوجها. أذكرُ أنّني قضيتُ أيّامًا أحلمُ بحياتي الجديدة، وكنتُ أنتظرُ خروج سيّدتي لارتداء ملابسها وأحذيتها، ولأتمشّى في البيت وأنزل السلالم إلى الصالون مقلدّةً حركاتها وصوتها. وبعد فترة، لم أعُد قادرة على التمييز بين الواقع والخيال، لدرجة أنّني قرّرتُ أنّ الوقت قد حان لآخذ مكاني الحقيقيّ إلى جانب سمير.

كان عليّ التصرّف بذكاء، الأمر الذي لم أكن بارعة فيه، فلطالما كنتُ إنسانة بسيطة، وهذا ما أثَّرَ علي باقي الأحداث.

قبل أن أتابع، عليّ توضيح أمر بغاية الأهميّة: لَم أكن يومًا إنسانة سيّئة أو شرّيرة، ولا أعلم مِن أين جئتُ بهذا الكمّ مِن الأذى. هل كان نائمًا في داخلي واستفاقَ فجأة، أم أنّ الظروف التي ترعرَعتُ فيها ووجودي بين أناس حصلوا على كلّ ما تمنَّيتُه، هي التي دفعَتني إلى ارتكاب ما لا يقبلُه عقل؟ لا أملكُ الجواب، بل سأدعُكم تحكمون بنفسكم.

عندما انتهَيتُ مِن إعداد خطّطي، إحتَرتُ في وجوب إخبار سمير بها أم لا. فقد كان مِن الواضح أنّه يميل إليّ وقد يَسعَد لِما أنوي فعله، لا بل يفتخر بي، إلا أنّني لم أشأ توريطه مباشرة. لِذا أبقَيتُ ما في نفسي لنفسي وانتظرتُ التوقيت المناسب لبدء التنفيذ. أكثر ما كان يهمّني كان أن يكون سمير بعيدًا عن البيت كي لا تطالُه الشّبهات.

 


فبعد أن سافَرَ سمير لمدّة يومَين، إرتأيتُ أنّ الظروف أصبحَت مناسبة للتحرّك. وفي تلك الليلة، تربّصتُ لليلى وهي تتحضّر، كعادتها، للخروج. وعندما وصَلَت أعلى السلالم التي تفصل بين غرف النوم والصّالون، ظهَرتُ مِن ورائها بصمت وسدّدتُ لها دفعة خفيفة على ظهرها. كنتُ أعرفُ أنّ ذلك سيكون كافيًا لإفقدها توازنها لأنّها كانت ترتدي تلك الأحذية ذات الكعب العالي والرفيع. فتدحرجَت إلى أسفل السلالم محدثةً صوت عظام تتكسّر، ثمّ سادَ الصّمت التام. نزلتُ بدوري، وحين رأيتُ أنّها لا تتحرّك، أخذتُ هاتفها مِن حقيبة يدها واتصَلتُ بزوجها:

 

ـ السيّدة ليلى... حصَلَ لها مكروه.

 

ـ يا إلهي! ما الذي جرى؟ هل هي بخير؟ أريد التحدّث معها!

 

ـ لا أظنّ أنّها قادرة على التكلّم.

 

ـ إتصلي بالإسعاف! ما بكِ؟!؟

 

ـ سأفعل، سأفعل. أردتُ أن أزفّ الخبر السّار لكَ.

 

ـ الخبر السّار؟ هل فقدتِ عقلكِ؟!؟ ليلى حبيبتي وزوجتي وكلّ حياتي! ماذا فعلتِ لها؟!؟

 

أقفلتُ الخط ومِن ثمّ اتصلتُ بالشرطة، لأنّني لم أرَ حاجة لطلب الإسعاف لميتة. لكنّني كنتُ مخطئة، فالسيّدة ليلى لم تمُت، الأمر الذي أرعبَني إلى أقصى درجة. هل أدركَت أنّني دفعتُها؟ هل ستكون قادرة على إتّهامي؟ لكنّ همّي الأكبر كان ردّة فعل سمير على ما حدَث. لم أتوقّع أن يُصاب بالهلَع والحزن على زوجته، بل خلتُه سيفرَح لفقدانها. هل كنتُ مُخطئة بشأنه أم أنّه كان يدّعي الحزن للحفاظ على ماء الوجه؟

بعدما استفاقَت ليلى، لم يكن بمقدورها تذكّر الكثير، ولم تُزعجني الشرطة التي اعتبرَت أنّها فقدَت توازنها بسبب حذائها، وتنفّستُ الصّعداء. لكن حين عادَ سمير مُسرِعًا مِن السفر، إشتكاني إلى السّلطات. وعندها أيضًا لم أفهمَ سبب تصرّفه، ألَم يكن يحبّني بقدر ما أحبُّه؟ ولكثرة امتعاضي ويأسي، إعترفتُ للمحقّق بما فعلتُه. فإذا لم يكن سمير يُبادلُني مشاعري وينوي استبدال زوجته بي، فلم يعد لدَيَّ سبب لأعيش. ظهَرَ في التحقيق واستنادًا إلى شهادتي، أنّني أُعاني مِن اضطراب نفسيّ، فجاؤوا لي بطبيب مختصّ سألَني مئة سؤال وسؤال، واستنتَجَ أنّني بحاجة إلى علاج وليس إلى سجن. لم أفهم آنذاك ما الغريب بأن أريد عَيش حياة غيري، وقتل مَن يقف في طريق تحقيق أحلامي التي باتَت أشبه بحقيقة بالنسبة لي. لكن بعد سنوات مِن العلاج في مستشفى الطب النفسيّ في السّجن، بدأتُ أعي ما فعلتُه وكيف دخلتُ حياة أناس سعداء وقلَبتُها إلى جحيم. فالجدير بالذكّر أنّ ليلى أصبحَت بسببي كسيحة لمدى الحياة.

لا أظنّ أنّني سأخرج مِن هذا المكان، وربمّا مِن المُستحسن ألا أفعل، فمَن يضمنُ أنّني تعافَيتُ تمامًا؟ أحيانًا تراودُني أفكار بشعة أُطردُها مِن بالي بسرعة. وعندما أُخبرُ الطبيب المعالج بالأمر، أرى في عَينَيه نظرة قلَق، فمِن الأفضل أن أبقى حيث أنا كي لا أؤذي أحدًا. على كلّ الأحوال، لقد أصبَحَ لدَيّ أصدقاء هنا وأتناغَم معهم كثيرًا... إلا مع تلك المريضة التي تُزعجني باستمرار. ومِن صالحها أن تكفّ عن ازعاجي وإلا...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button