أراد أبي أن يعيش إلى الأبد

كَم أنّ الإنسان ضعيف أمام مستجدَّات الحياة، وكَم أنّه يخشى الزّوال أو المرض أو التشويه. فمَع أنّه يعمل ويبني للمستقبل ويجمع الثروات، يُدركُ فجأة أنّ وجوده الذي خالَه لفترة أبديًّا، هو مؤقّت وسينتهي به الأمر كسائر البشر في حفرة قد لا تحملُ اسمه. لذلك ينتابُه الرّعب ويُحاولُ بشتّى الطرق إطالة وجوده على الأرض أو حتى التغلّب على الموت. وهذه قصّة أبي الذي بقيَ يرفض ترك الحياة حتى لو كان ذلك على حساب أقرب الناس إليه.

لطالما كان والدي رجلاً قاسيًا وأنانيًّا، لكنّنا لم نعرف إلى أيّ مدى حتى كبرنا وبتنا نقارنه بآباء أصدقائنا. فخلافًا لهم، كان أبي يكرهُ تمضية الوقت مع أولاده أو زوجته، بل يُفضّل الإنعزال في مكتبه أو الخروج مع أصدقائه. كان أيضًا يصرخُ فينا لنسكت حين كنّا نلعب بجواره، ويسألُ نفسه عاليًا كيف زجّته أمّنا في هكذا "مصيبة" عندما وُلدَنا.

كبرنا متكّلين على عاطفة أمّنا وصِرنا نهاب ذلك الرجل القاسي، لكنّنا لم نتمكّن مِن حبّه. كنّا أسرى طغيانه، وكنّا نمتثل لأوامره كما قد يفعل أيّ تلميذ مع أستاذه. تزوّجَ إخوَتي وبقيتُ عازبًا، ربمّا لأساند أمّي ولا أتركُها مع أبي الذي أصبَحَ، مع الوقت، أكثر بشاعة. وكما توقّعتُ، صبَّ غضبه عليّ وحدي وبتُّ كبش محرقته الدائم. لكنّني كنتُ قد تعوّدتُ على الأمر، ولَم أعد أتأثّر بما يقولُه أو يفعلُه. ضمنيًّا كنتُ سعيدًا لأنّني لم أختَر زوجة حسب معاييره وموافقته كما فعَلَ إخوَتي، وكانت العزوبيّة نعمة أردتُ التمتّع بها أطول وقت ممكن. للحقيقة، لَم أكن أنويِ الإرتباط إلا بعد رحيل أبي إلى دنيا الحق، فما مِن كنّة باستطاعتها العَيش مع هكذا رجل.

مِن الناحية الماديّة، كنتُ أصرفُ على نفسي وعلى أمّي. فبالرّغم مِن نجاح أعمال أبي وثروته التي جمعَها عبر السنوات، لَم يكن يُعطينا قرشًا واحدًا، بحجّة أنّه يُؤمّن لنا سقفًا فوق رأسنا وطعامًا يوميًّا. أمّا أنا، فشكرتُ ربّي لأنّه أعطاني الذكاء والمهارة للحصول على عمل يدرّ عليّ المال الكافي. صدفةً علِمنا أنّ والدي تزوّج سرًّا مِن سكرتيرته، وبدلاً مِن أن نغضب منه، أخذنا نأسف على المسكينة. فكان مِن المؤكّد أنّها ستُعاني مِن طباعه البشعة وبخله قريبًا، أي بعدما يسأم مِن لعب دور الزوج المحبّ والمتيّم.

 


مرّت السنوات بهدوء، ولَم نعد نرى أبي كثيرًا لأنّه انتقَلَ بشكل شبه دائم للعيش مع زوجته الثانية، ولَم ينسَ طبعًا التوقّف عن جَلب القوت إلينا مُتحجّجًا بأنّه لا يستطيع الصّرف على بيتَين في آن واحد. وكنتُ وأمّي بغاية السعادة أثناء غيابه، إذ بدأَت تعودُ إلينا البسمة والبهجة ونشعرُ وكأنّه مات. قد يبدو كلامي قاسيًا، لكنّني أتكلّم بغاية الصراحة، فما الغاية مِن إخبار قصّتي إن كنتُ سأحرّف بها؟

وشاء القدر أن توعّكَت صحّة أبي، فرأيناه عائدًا إلينا مع كامل أغراضه بعد أن رفضَت زوجته الثانية "الإعتناء بعجوز بخيل ومُزعج". وقد يخالُ المرء أنّ حالته الصحيّة وسنّه وحاجته إلينا لطّفَت مِن طباعه، لكنّه بقيَ كما عهدناه، بل عادَ وكأنّنا مُلزمون بخدمته كونه ربّ البيت. ولكن أي بيت؟ الذي تركه ليركض وراء صبيّة بنصف سنّه؟

فعلنا بأصلنا، أي عاملناه بلطف بالرغم مِن صراخه الدائم وطلباته اللامتناهية، وكشَفَ لنا الطبيب أنّ كليَتَي والدي على وشك التوقّف. وكانت زراعة كليّة هي حلّه الوحيد. سجّلناه على قائمة الإنتظار، وبدأتُ آخذه ثلاث مرَّات بالأسبوع إلى المشفى ليخضع لغسل كليَتَيه.

لكنّ أبي لَم يكن ينوي الإنتظار إلى حين يجدوا له كلية صحيحة، فناداني ذات يوم إلى غرفته وقال لي:

 

ـ لدَيكَ كليَتان صحيحتان وأنا بحاجة إلى واحدة فقط. إذهب إلى المشفى واخضع للتحاليل المطلوبة للتأكّد مِن أنّها توافقُني.

 

ـ ماذا؟!؟ ومَن قال إنّني مستعدّ لإعطائكَ كليَتي؟

 

ـ هكذا قرّرتُ. لا تُجادلني!

 

ـ لكنّني بمستهلّ عمري وقد أكون قد ورثتُ مشكلتكَ الصحيّة، وإذا تنازلتُ عن كلية، مِن أين أجد واحدة ثانية في حال تعطّلَت الصّحيحة؟

 

ـ هذا ليس مِن شأني! أنتَ ابني ومجبور بإنقاذ حياتي! أم تريدُني أن أموت؟

 

لم أجِب، الأمر الذي أغضبه إلى أقصى درجة:

 

ـ أنتَ ولد عقوق! لقد ربَّيتُكَ و...

 

ـ وماذا؟ ماذا فعلتَ مِن أجلي؟ لعبتَ معي؟ ذهبتَ إلى مدرستي لحضور حفلاتي؟ ساعدتَني في واجباتي المدرسيّة؟ أخَذتني في نزهة ولو مرّة واحدة؟

 

ـ أنا أبوكَ!

 

ـ لا، بل أنتَ فقط الذي أنجَبني، شأن أيّ كائن حَي آخر. حتى الحيوانات تسهر على صغارها وتعلّمهم الحياة.

 

ـ ستُعطيني كلية، آمركَ بذلك! لا أريدُ أن أموت، بل أن أعيشَ إلى الأبد! ستموتون جميعكم وأنا أبقى حيًّا!

 

لو لَم أكن أعرف أبي تمام المعرفة، لقلتُ إنّه فقَدَ عقله. لكنّه كان سليم العقل تمامًا وكلامه نابعًا مِن أنانيّة لا حدود لها. وقبل أن أغادر غرفته قلتُ له:

 

ـ أطلب كلية مِن أحد إخوَتي فلقد قدّمتُ لكَ الكثير حتى الآن.

 

ـ بل سآخذها منكَ!

 

أسرعتُ بالخروج قبل أن أفقد أعصابي، ولجأتُ إلى أمّي التي بكَت كثيرًا وطلبَت السماح منّي على إنجابي مِن هكذا رجل. فمنذ ولادتي لَم أرَ يوما جميلاً معه، وها هو يطلبُ منّي أن أخاطر بصحّتي مِن أجله. لو كانت أمّي بحاجة إلى كلية لأعطَيتُها. على كلّ الأحوال، أنا متأكّد مِن أنّها لَم تكن لتطلب شيئًا كهذا منّي، لأنها كانت إمرأة عاقلة ومحبّة وحنونة.

 


لكن بعد التفكير، أخَذَ ضميري يُتعِبُني، فرفضي إعطاء كلية لأبي كان نابعًا مِن امتعاضي منه ولمعاملته لي وإخوَتي وأمّي. وكنتُ قد نسيتُ الناحية الإنسانيّة أي أنّه كائن حيّ قد يموت إن لم أساعدُه.

لِذا رحتُ المشفى وخضعتُ لشتّى التحاليل لمعرفة إن كنتُ قادرًا على إفادة أبي. وبانتظار النتائج، قرّرتُ إخباره بتغيير رأيي لأُطمئن قلبه على مصيره.

كانت فرحة والدي لا تُقاس، ودعا لي بالخير وغمرَني بشدّة، وكانت تلك أوّل مرّة أشعرُ بدفئه. كرَجَت الدّموع على خدَّيّ، وسألتُ نفسي إن كنتُ قد قسوتُ على مَن أعطاني الحياة أكثر مِن اللازم. وانتظرنا سويًّا صدور النتيجة. وأعترفُ أنّني وجدتُ نفسي مقرّبًا جدًّا مِن الذي كرهتُه سنينًا، لأنّه أظهَرَ لي عاطفة أبويّة غير مسبوقة.

إلا نّ كليَتي لم تكن مناسبة لأبي، وأسفتُ كثيرًا أنّني لن أنقذُه، ورجوتُ أن يجد لدى أخوتَي التجاوب المرجو.

أمّا أبي، فعندما سمِعَ الخبر، بدأ يُوَلوِلُ ويتأسّف على نفسه. ثمّ استدار نحوي قائلاً:

 

ـ لطالما كنتَ بلا نفع! لم أطلب منكَ شيئًا سوى كلية.

 

ـ سوى كلية؟!؟ وهل الأمر لا يُذكَر؟ وما دخلي أنا إن لم تكن كليَتي مطابقة؟

 

ـ دخلكَ أنّكَ إبن عقوق! أريدُكَ أن تخرج مِن بيتي وألا تعود!

 

ـ أين ذهبَت عاطفتكَ ودعواتكَ لي؟

 

ـ هل صدّقتَ هذه التفاهات؟ هيّا! أخرج مِن بيتي أيّها الفاشل!

 

عندها تدخّلَت والدتي، ولأوّل مرّة في حياتها وقفَت تواجه زوجها:

 

ـ إن رحَلَ إبني فسأرحلُ معه وستبقى لوحدكَ مع مرضكَ! أّلا يكفي إهمالكَ له وجفاؤكَ، وترككَ له مِن أجل امرأة؟ وصلَت وقاحتكَ لطرده؟ إنّه باقٍ! ماذا تقول؟

 

سكَتَ أبي ليس لأنّه ندِمَ على طرده لي، بل لأنّه خافَ مِن أن يبقى وحيدًا. ومنذ ذلك اليوم، تجنّبتُ دخول غرفته كي لا أرى وجهه البغيض.

بعد فترة، قَبِلَ أخي الكبير بإعطاء كلية لأبيه. وبعد أن تبّينَ أنّها مناسبة، أُجريَت العمليّة.

لكنّ القدر عاقَبَ أبي، فبالرغم مِن نجاح العمليّة، رفَضَ جسده الكلية واضطرّ الأطبّاء لنزعها. كان أخي إذًا قد فقَدَ كلية سدىً، وأبي لَم يشكُره حتى على هكذا هبة، بل قطَعَ كل اتصال معه بعد العمليّة. وقضى والدي باقي أيّامه يشتمُنا جميعًا بدءًا بأمّي الذي أسماها "البومة" ونحن أبناؤه "غير النافعين بشيء"، وتمنّى مرّات عديدة لو أنجَبَ حيوانات بدلاً منّا.

عندما ماتَ أبي لَم يحزن أيّ منّا عليه، بل ارتَحنا منه، واستطعتُ أخيرًا التفكير باختيار زوجة المستقبل. عادَت البسمة على وجه المسكينة أمّي التي باركَت قراري ببناء عائلة.

أنا اليوم متزوّج ولدَيّ ولدان، وحياتي جميلة مع عائلتي وأمّي التي كانت بركة علينا. فهي لم تزعجنا أو تتدخّل في شؤوننا يومًا بل بقيَت تدعو لنا بالخير وتُساعدنا.

الحياة إستمرَّت بعد رحيل أبي وصارَ طَيّ النسيان. فالانسان لا يأخذُ معه شيء بل يتركُ وراءه الكثير. يتركُ وراءه سمعته وذكريات عن الذي فعله مِن أجل غيره وليس مِن أجل نفسه فقط. فلو كان لي أبًا صالحًا ومحبًّا، لبكَيتُه طوال حياتي وأخبرتُ أولادي عنه ليبقى حيًّا في قلوبنا. فهكذا فقط يبلغ المرء الخلود.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button