أرادوا معاقبتي على موت حبيبتي

كانت خلود حبّ حياتي، وأقسمتُ لها أن أكون الرّجل الذي سيهتمُّ بها ويحميها مِن أيّ شيء... ولكن كنتُ أيضًا الذي تسبَّبَ بموتها. حصَلَ ذلك منذ حوالي الثلاثين سنة ولا أزال أبكيها حتى اليوم.

كنّا مُراهقيَن وكانت الحياة تفتحُ لنا ذراعَيها، وحين التقَينا علِمنا على الفور أنّنا وجَدنا نصفنا الآخر. حسِبنا أنفسنا محظوظَين للغاية، فمعظم الناس يقضون حياتهم بالبحث عن الشخص المناسب، وها نحن نعيشُ قصّة حبّ لا مثيل لها.

كانت خلود أخت أعزّ صديق لي، لكنّها طلبَت منّي عدَم إخباره عن حبّنا بسبب طبعه الحاد. لَم أرَ مانعًا لأن يعرف مجد عن علاقتي بأخته، فكنتُ أنوي الزواج منها فور حصولي على شهادة تخوّلُني العمل وتأسيس مستقبل جميل لحبيبتي. إلا أنّني رضختُ لرغبة خلود وكتَمتُ السرّ.

وفي فترة تواعدنا، كنتُ أسرقُ سيّارة أبي لآخذ حبيبتي في نزهة بدلاً مِن الإلتقاء بها في أماكن موحشة ومُظلمة. وهكذا كنّا نجوبُ المناطق، ونتوقّفُ أمام مشهد خلاب لنُمجّد الخالق الذي أعطانا جمالاً كهذا وقدرة على الحبّ. كنّا نقبّلُ بعضنا أمام غروب شمس يخطفُ الأنفاس، ونرجعُ بسرعة إلى السيّارة لأعيدُها إلى بيتها قبل أن يشكّ أحدٌ بشيء. بكلمة، كانت مشاعرنا صافية وبريئة ومُفعمة بأمل لا حدود له.

لكن في إحدى الأيّام، عندما كنّا نجوبُ الطرقات الجبليّة، جاءَت شاحنة ضخمة قُبالتنا واصطدَمَت بنا بقوّة رهيبة، فانقلبَت بنا المركبة وتدحرجَت إلى أسفل الوادي. ركَضَ سائق الشاحنة ليرى ما حدث، وعند استحالة إسعافنا إتّصل بالشرطة.

أوّل شيء فعلتُه عندما فتحتُ عَينيّ في المشفى كان السؤال عن خلود. ومِن صمت الممّرضة والطبيب، علِمتُ أنّ حبيبتي رحلَت. بدأتُ بالبكاء والصّراخ: "أنا قتلتُها! أنا قتلتُها!" واستلزَمَ الأمر إعطائي مُهدّئًا كي لا أمّزقَ قطب العملّيات العديدة التي أُجريَت لي. فالحقيقة أنّني كنتُ قد تأذّيتُ كثيرًا مِن الحادث وكانت نجاتي مسألة حظّ ليس إلا. والندبات التي أحملُها اليوم هي خير دليل على مدى خطورة الحادث. وعلِمتُ لاحقًا أنّ سائق الشاحنة فقَدَ السيطرة على آليّته بسبب خطب ميكانيكيّ وقد عوقِبَ على ذلك. لكن أيّ عقاب سيُعيدُ لي خلود؟ إلا أنّ لَم يخطر ببالي أبدًا أنّني الذي سيُعاقَب... حتى آخر أيّامه.

فبالطبع علِمَت عائلة خلود أنّها كانت برفقتي حين ماتَت، وركضَ مجد إلى غرفتي في المشفى ليستفسر منّي عن سبب وجود أخته معي في سيّارة أبي. فهي كانت قد قالَت لذويها إنّها عند صديقتها بقصد الدرس... وهم صدّقوها.

وهذا ما دار بيننا في المشفى:

 


ـ أيُّها الخائن! أنا صديقكَ! كيف تُسيء إلى عرض أختي؟!؟

 

ـ كنّا مُتحابَين... حبًّا طاهرًا وجميلاً، وكنّا سنتزوّج حين تسمحُ أحوالي بذلك.

 

ـ أنتَ كاذب، لو كان حبّكَ طاهرًا كما تدّعي، لأطلعتَني على علاقتكما! ماذا سيقول الناس عنّا الآن؟

 

ـ أهذا كلّ ما يُزعجُكَ؟ ألستَ حزينًا على فقدانكَ أختك؟!؟

 

ـ لن أحزن على عاهرة!

 

ـ لا أسمحُ لكَ بالتكّلم عن خلود هكذا! كانت أشرَف إنسانة عرفتُها. ولو كنتُ قادرًا على ذلك، لقُمتُ مِن سريري وأبرحتُكَ ضربًا لتتعلّم إحترام المرحومة اختكَ!

 

ـ أنا الذي سأبرحُكَ ضربًا، لا بل أكثر مِن ذلك بعد، إلا أنّ رجولتي لا تسمحُ لي بالإستقواء على رجل في مثل حالتكَ.

 

ـ ليس لدَيكَ أيّ رجولة يا مجد، فالرّجولة لا تكون في شَتم الأموات وتهديد المُصابين. إرحل مِن هنا، فحزني على خلود وذنبي مِن الذي حصَلَ لها أكبر مِن كرامتي... على الأقل في الوقت الحاضر.

 

ـ مِن الجيّد أنّكَ اعترفتَ بأنّك مُذنب... وستدفع الثمن، أعدُكَ بذلك.

 

خرَجَ مجد مِن غرفتي والشرّ يتطايَر مِن عَينَيه، وخلتُ حقًّا أنّه سيهدأ حين يعي فظاعة كلامه. إلا أنّ ذلك الشاب كان قد قرَّرَ تدميري.

بعد أسبوعَين، إستطعتُ العودة إلى المنزل حيث تمكّنتُ مِن البكاء على سجيّتي خلف باب غرفتي. فذكرى خلود كانت تلازمُني، وأخذتُ أطلبُ منها السماح على إنهاء حياتها اليافعة. فلن تصبَحَ حبيبتي يومًا زوجتي وأمّ أولادي، ولن أستطيع إلا تقبيل ومُعانقة طَيفها الرقيق.

لكن بعد أسابيع معدودة، حاوَلَ أحدٌ دهسي بسيّارته وأنا سائر في الطريق، ولولا رجل كان مارًّا بقربي، لمُتُّ على الفور. لَم أنتبِه لطراز تلك السيّارة أو رقم لوحتها، إلا أنّني كنتُ متأكّدًا مِن أنّ الأمر لَم يكن صدفة، بل كنتُ مقصودًا بالذات. لكن مِن دون دليل لم أكن قادرًا على إبلاغ الشرطة، لِذا قرّرتُ الإنتباه، وبشدّة، على سلامتي. وفي اليوم نفسه، وصلَتني رسالة هاتفيّة مِن رقم مجهول تقول: "العَين بالعَين والسنّ بالسنّ". لَم أتفاجأ، فقد كنتُ متأكّدًا مِن أنّ لِمجد ضلعًا بمحاولة دهسي، لكنّ دافعه لَم يكن الإنتقام لأخته، بل مُعاقبتي لمواعدتها مِن دون معرفته وتعريض سمعة العائلة للأقاويل البشعة. كان مِن الواضح أنّني كنتُ الوحيد الذي بكى حقًّا خلود.

 


مرَّت الأشهر ونسيتُ خوفي مِن إنتقام مجد، لِذا لَم أعد آخذُ إحتياطاتي كالسابق وصرتُ أخرجُ باستمرار مِن البيت. ولكن في أحدّ الأيّام، وأنا أمشي في الطريق، جاءَت نحوي صبيّة حسناء وسألَتني عن أحوالي. كانت إحدى قريبات خلود، وقد حزِنَت جدًّا لموتها وأرادَت أن تعزّيَني لأنّها كانت تعلمُ مدى حبّي لخلود. شكرتُ الفتاة بحرارة، فلَم يُعزِّني أحدٌ. سألتُها عن إسمها فأجابَت: وفاء. أكملتُ طريقي خفيف القلب، بعد أن وجدتُ أنّ شخصًا مِن جهة حبيبتي كان يُدركُ فعلاً مدى حزني عليها، لِذا لَم أتردّد بإعطاء وفاء رقم هاتفي حين لحِقَت بي لتطلبُه منّي.

صارَت وفاء تتّصلُ بي باستمرار، ونقضي ساعات نتكلّم عن خلود، وشعرتُ براحة كبيرة لاستطاعتي إفراغ حزني أمام أحد. فحتى أهلي لم يعطُني فرصة للتعبير عمّا حصَلَ لي، لأنّهم أرادوا نسيان تلك الفاجعة بأسرع وقت. ولم يفهَمني أحدٌ سوى وفاء التي كانت تستحقّ إسمها... كما تبيّنَ لي لاحقًا.

حصلتُ أخيرًا على شهادتي بفضل أساتذتي الذين أخذوا بعَين الاعتبار ذلك الحادث المرّوع وتداعيّاته على صحّتي الجسديّة والنفسيّة، وتحضّرتُ لخوض مُعترك العمل. ولأتقاسم فرحتي مع أحد، إتصلتُ بوفاء لتُرافقني إلى العشاء، وكانت تلك أوّل مرّة نتلاقى سويًّا بعد فترة طويلة جدًّا مِن المكالمات الهاتفيّة والرسائل الإلكترونيّة.

جاءَت وفاء إلى الموعد ووجدتُها جميلة وأنيقة للغاية، فجاملتُها بهذا الخصوص. هي كانت تعرفُ تمام المعرفة أنّ كلامي كان مُجرّدًا مِن أيّة نيّة، فحبّي لخلود بقيَ كما كان، أي كاملاً وكأنّها لَم تمت.

بعدما جلَسنا إلى مائدة الطعام، أمسَكَت وفاء بيدَي، فشعرتُ بالإحراج ونويتُ سَحب يدي إلا أنّها أقفلَت أصابعها حول أصابعي هامسة: "لا تتحرّك وابتسم لي... فنحن مراقبان... لا تنظر مِن حولكَ! فقط ابتسم لي". فعلتُ كما أمرَتني وطلَبنا الأطباق. وحين بدأنا بالأكل قالَت لي وفاء:

 

ـ إنّهم بانتظاركَ بالخارج، سيتّهمونكَ بأنّكَ تنتهكُ عرضهم مِن خلالي.

 

ـ ثانيةً؟ ما الأمر بكم؟

 

ـ إخوَتي اتّفقوا مع مجد للنَيل منكَ... وهم بعثوني إليكَ.

 

ـ ماذا؟!؟ إذًا كلامكِ عن خلود كان كذبًا... ومساندتكِ لي كذلك.

 

ـ أبدًا! كنتُ أحبّ قريبتي كثيرًا وحزنتُ حقًّا مِن أجلها. أمّا بما يخصُّكَ، فأعترفُ أنّني كنتُ فعلاً أنوي الإنتقام لها منكَ، لكنّني اكتشفتُ مدى حبّكَ لها، لِذا لا أستطيع إيذاءكَ. حبّكَ لخلود شيءٌ نادرٌ للغاية، وأحسدُها عليه حتى بعد مماتها. إسمعني جيّدًا، سندّعي المُشاجرة وسأخرجُ مِن المطعم بمفردي، هكذا لن يستطيع أخوَتي التعرّض لكَ، على الأقل ليس في هذه الليلة. أنصحُكَ بالاتصال بصديق ليأتي إلى هنا ويُرافقكَ إلى الخارج، فقد يُصرُّ اخوَتي على إيذائكَ. سأحاولُ وعدهم بأنّني سأنجحُ بمهّمتي في المرّة القادمة. الوداع.

 

ـ أشكركِ يا وفاء... وخلود تشكرُكِ.

 

قامَت وفاء مِن مكانها ورمَت فوطتها بوجهي صارخة بي، ثمّ خرجَت غاضبة مِن المطعم. بقيتُ جالسًا مكاني حتى جاء إبن عمّي ورفاقه إلى حيث أنا. عندها، قلتُ لهم إنّ لصوصًا قد تبعوني إلى المطعم وقد يكونون بانتظاري في الخارج. شعرتُ بالخزيّ لأنّني طلبتُ النجدة، لكن كان مِن المستحيل عليّ التغلّب على أخوة وفاء الذين كانوا كثر. لو كان المُتربّص بي رجلاً واحدًا، لواجهتُه وصارعتُه كما يجب.

مشيتُ إلى البيت مُرافَقًا، واستطعتُ رؤية أخوة وفاء مِن حولنا طوال الطريق. وعند وصولي، رويتُ لأهلي ما حدث لي. بدأت أمّي بالصراخ وكأنّني متُّ، وهزّ أبي برأسه، علامة أنّه يفكّر بالحلّ المُناسب.

في اليوم التالي قال لي والدي:

 

ـ ستحزم أمتعتكَ وتُسافر عند أختي في الولايات المُتحّدة.

 

ـ ماذا؟!؟ مستحيل أن أهرب كالجبان! سأواجه مجد وأدعوه لمبارزة مُنصِفة، وسنرى مَن يتفوّقُ على الآخر!

 

ـ تُريدُ أن تموت؟ هل تظنّ أن هذا الشاب لدَيه كرامة؟ فهو بعثَ لكَ شابة لتُغريكَ وتوقِع بكَ، وشبابًا ليقوموا بالعمل نيابة عنه، ناهيكَ أنّه حاوَلَ دهسَكَ.

 

ـ ربمّا يجدرُ بي أن أموتَ بعدما فعلتُه بخلود.

 

ـ أنتَ لم تقتلها يا بنيّ، بل سائق الشاحنة فعَلَ. لا تنسَ أنّكَ كدتَ أن تُلاقي المصير نفسه. لا، الذنب ليس ذنبكَ وليس عليكَ دفع أيّ ثمَن. سترحل وبأسرع وقت. أنتَ إبني الوحيد، فهل تُريدُ تحطيم قلبَ والدَيكَ؟!؟ عندما تكبرُ قليلاً ستعرفُ أنّني أفعلُ الصواب.

 

ـ كيف أرحل وأتركُ حبيبتي وحدها تحت التراب؟

 

ـ خذها معكَ... في قلبكَ... فهو أفضل مكان لها. التراب بارد أمّا قلبكَ فهو دافئ. إسمَع منّي يا إبني، ذكرى مَن نفقدُ هي التي تُعطيهم الحياة الأبديّة وليس مثواهم.

 

طرتُ إلى الولايات المتّحدة بعد أيّام. أردتُ توديع وفاء وشكرها على إنقاذ حياتي، إلا أنّني خفتُ أن يعرف أحدٌ بسفري ويتربّص بي وأنا في طريقي إلى المطار.

عشتُ في أمريكا طوال حياتي ولَم أعُد إلى البلد، بل جئتُ بوالدَيَّ إلى حيث أنا. أسّستُ عملاً ناجحًا، وبعد وصولي بأكثر مِن عشر سنوات، تزوّجتُ مِن إمرأة صالحة وأنجبتُ منها ولدَين.

لَم أنسَ خلود، فلا يمرّ يوم مِن دون أن أفكرُّ بها، إلا أنّ لا بدّ للحياة أن تأخذُ مجراها، فالعَيش مع طيف لأمرٌ موحش للغاية. لقد أخبرتُ زوجتي عن خلود وما حصل لها، وهي تحترمُ هذا الجزء مِن تاريخي ولا تحاولُ انتزاعه منّي لأنّني مِن دونه لا أكون أنا. ولهذا السبب أحترمُها إلى أقصى درجة، فهي عرفَت كيف تدخلُ قلبي وتعيشُ فيه إلى جانب التي سبقَتها. فالقلب الكبير ويتّسعُ لكلّ مَن يُحسِن مُعاملته.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button