أخَذَ منّي عائلتي

تردّدتُ كثيرًا قبل القبول بأن تظهر قصّتي إلى العلَن. فمع أنّ الأسماء ستتغيّر وكلّ ما يُشير مُباشرة إلى هويّتي، أشعرُ بالعار وأعلم أنّ العديد سيصفُني بأسماء بشعة... لأنّني أحبَبتُ زوجتي وأرَدتُ الحفاظ على عائلتي. فأحيانًا يذهبُ المرء إلى أقصى الحدود ليتمسّك بالذي لدَيه، حتى لو كان ذلك على حساب كرامته. لستُم مكاني لتحكموا عليّ، صلّوا فقط ألا يحصل ذلك معكم، فأعدُكم بأنّكم قد تتفاجأون بردّة فعلكم.

أحببتُ سهام منذ طفولتي، فهي كانت جارتنا في الحيّ. مِن ثمّ قرّرتُ أن أتزوّجها حين أكبر، وبقيتُ على قراري حتى نفّذتُ ما في رأسي... بعد عشرين سنة! نعم، أنا مِن هؤلاء الذين يرسمون هدفًا لأنفسهم ويعملون بكدّ لتحقيقه. قبِلَت سهام بي لأنّها أحبَّتني أيضًا، ولأنّها شعَرت بالأمان معي، وكانت فرحتي لا تُقاس. أقَمتُ لنا فرحًا جميلاً، وسكنّا في شقّة جميلة وأنجَبنا ثلاثة أطفال جميلين. بالإختصار: كنتُ سعيدًا... قبل أن يدخل إلى حياتنا ذلك الرجل الذي لَم أُعِره أيّة أهميّة، لأنّنا كنّا عائلة مُتماسكة ولأنّه كان يكبُر سهام بأربعين سنة! فكيف لي أن أتصوّر ما حدَثَ لاحقًا؟

أوّل مرّة رأينا فيها عادل كنّا عند أصدقاء لنا، وأعترفُ بأنّ حديثه شدّني إليه. فهو مِن الذين يتمتّعون بِكاريزما قويّة، أي يجذبون الأنظار والإهتمام مِن دون أيّ جهد. هو الآخر إستمتَعَ برفقتنا، وتبادَلتُ معه أرقام هاتفَينا، لكنّني لَم أتصوّر أنّه سيُخابرني في اليوم التالي. خلتُ أنّه فعَلَ ذلك مِن باب التهذيب فقط، فهو كان رجلاً مشغولاً للغاية بسبب أعماله الناجحة وثرائه.

دعانا عادل إلى منزله الفخم وسط البلد، وذُهِلنا لجمال وكبر المكان. صحيح أنّنا لَم نكن فقراء، لكنّ حالتنا المادّيّة كانت متوسطّة، ولَم نرَ يومًا منزلاً بهذا المستوى. إنزعجتُ قليلاً لكميّة الأكل الذي قُدِّمَ لنا، إلا أنّ صاحب المكان عرِفَ كيف يحملنا على الشعور بالإرتياح. تكلّمنا عن أمور عدّة ووعَدناه بالبقاء على اتّصال معه. وعندما غادرنا، كنتُ واثقًا مِن أنّنا لن نراه مجدّدًا، فماذا كان سيُريدُ منّا؟ لَم يكن هناك مِن شيء يجمعنا، إلا زيارة إجتماعيّة وحسب.

نسيتُ أمر عادل، لكنّه عادَ واتّصل بي ليأخذنا إلى بيته في الجبَل، ورفضتُ بتهذيب، فلَم نكن قادرَين على ردّ هذه الدعوات، على الأقل ليس بالطريقة الفخمة نفسها. إلا أنّه بقيَ مُصرًّا، وأقنعَني بالقبول بعد أن قال لي إنّ جوّ الجَبل النظيف كلّه مَنفعة لِصحّة أولادنا. رحنا نقضي ثلاثة أيّام في مكان أقرب إلى الخيال وأعترفُ أنّني كنتُ سعيدًا للغاية. بعد ذلك، صارَ عادل صديق العائلة، يأتي ليأكل ويشرب معنا ويجلبُ للأولاد أجمل الهدايا. ولَم ألاحظ شيئًا عليه مِن ناحية إعجابه بسهام، لأنّه لَم يقترف أيّ خطأ بوجودي، وبقيَ يتصرّف باحترام تام.

 


بعد أشهر قليلة، قالَت لي زوجتي إنّها ستأخذُ الأولاد وتقضي فرصة نهاية الأسبوع في بيت عادل الجبَليّ. تفاجأتُ بقرارها وقلتُ:

 

ـ مِن دوني؟

 

ـ أنتَ شديد الإنشغال.

 

ـ صحيح، ولكن ليس في آخر الأسبوع. وليس مِن اللائق أن تذهبي مِن دون زوجكِ إلى منزل رجل عازب.

 

ـ كَم أنَّكَ سخيف! إنّه عجوز! ولن أكون لوحدي بل معي أولادنا. ممّا أنتَ خائف؟ أن أُغرَم بالرجل؟ ها ها ها!

 

ـ لَم أقل ذلك... لكن...

 

ـ خذ قسطًا مِن الراحة ومنّا ومِن صراخ الأولاد... إذهب إلى أهلكَ أو أخرج برفقة أصدقائكَ... مِن المُفيد أحيانًا أن يبتعد الزوجان عن بعضهما. وقد أكون مُشتاقة جدًّا لكَ عندما أعود، إن كنتَ تفهمُ قصديَ.

 

غمزَتني وفهمتُ قصدها. وعند عودتها، بقيَت سهام على وعدها وقضينا ليلة جميلة جدًّا.

لَم يكن يجدرُ بي السّماح لزوجتي بالذهاب إلى ذلك المكان مِن دوني، لكنّني لَم أفكّر أنّ رجلاً بهذا السنّ قد يكون بهذه الجاذبيّة والقوّة الجسديّة. فالذي غابَ عنّي، هو أنّ عادل يتمتّع بقدرة وخبرة جنسيّة تفوقُ العقل، وأنّ زوجتي "إكتشفَت ذاتها وأنوثتها معه" كما قالَت لي لاحقًا.

فعندما عادَت سهام مِن تلك الفرصة، كانت إمرأة أخرى. رأيتُ ذلك في عَينَيها وحركاتها وضحكتها العالية، وأنا ظنَنتُ أنّ جوّ الجبَل كان مُفيدًا لها. قد تقولون إنّني غبيّ، لكن أليس مِن الشائع أن يكون الزوج آخر مَن يعلَم؟ والذي شعرتُ به أيضًا مِن دون أن أستطيع تفسيره، هو إبتعاد أولادي عنّي. كان عادل قد استحوذَ على قلب عائلتي كلّها بفضل ماله وشخصيّته. لَم أكن قادرًا على مُنافسة هكذا رجل، لا مِن حيث حالتي المادّيّة ولا جاذبيّتي. فقد كنتُ إنسانًا عاديًّا.

وفي أحد الأيّام، قرّرَت سهام أنّ الوقت حان لتعيش حياةً تُناسبُها أكثر، فقالَت لي بِرفق:

 

ـ أشكرُكَ على تلك السنوات الجميلة التي قدّمتَها لي.

 

ـ أنا عليّ شكركِ يا حبيبتي.

 

ـ أعني... أقصد... لا أدري كيف أقولُ لكَ ذلك... أريدُ الطلاق.

 

ـ ماذا؟!؟ أنتِ حتمًا تمزحين! ما الخطب؟ نحن سعيدان مع بعضنا ولَم نتشاجر يومًا. قولي لي إنّكِ تمزحين!

 

ـ أنا جادّة للغاية. هناك شخص آخر في حياتي.

 

ـ ماذا؟!؟ مَن هو؟ أريدُ إسمه!

 

ـ ومَن غيره، عادل.

 


ـ ذلك العجوز؟!؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ هل ماله الذي شدَّكِ؟ ألا أؤمِّنُ لكِ حياة كريمة؟ إن شئتِ أبيعُ قطعة أرض والدي، رحمه الله، وأُعطيكِ ما تشائين.

 

ـ ليس ذلك وحسب، فهو...

 

وبدأت زوجتي تُخبرُني عن مزايا عادل العديدة وخاصّة الحميمة، وخلتُ نفسي في كابوس رهيب. ما الذي حصَلَ لسهام؟ هي حتمًا وقعَت تحت تأثير سحر ذلك الرجل! رفضتُ إعطاءها الطلاق لأنّني لَم أصدّق أنّها لَم تعُد تُحبّني، لِذا أوكَلَ لها عادل محاميًّا بارعًا وبدأَت الدّعاوى بيننا. كانت تريدُ أخذ الأولاد منّي أيضًا، الأمر الذي لَم أكن لأقبلُه... حتى ذلك اليوم حين سألتُهم:

 

ـ أنتم حتمًا على علم بالمشاكل التي بيني وبين أمّكم.

 

ـ أجل يا بابا... ويا لَيتكَ تكفّ عن تعذيبها، هي لَم تعُد تريدُكَ... دعها تذهب إلى العمّ عادل ودعنا نذهب معها.

 

ـ أنا أبوكم! أحبُّكم ولا أستطيع العَيش مِن دونكم! لقد أغراكم عادل بالمال والألعاب ومنازله الفخمة، لكنّه لا يُحبّكم.

 

ـ هذا لا يهمّ، نريدُ العَيش معه.

 

عندها أدركتُ أنّني سأخسرُ كلّ ما لدَيّ وبدأتُ بالبكاء. فلَم يعُد أحدٌ يُريدُني، مع أنّني بذلتُ أقصى جهدي لإسعاد جميع أفراد عائلتي.

بقيتُ أناضل حتى نفَذَ مالي ولَم أعُد قادرًا على دفع مصاريف المحامي والمحكمة. عندها بدأتُ أتوسّل سهام لتبقى، وعدتُها بأن أنسى ما فعلَته مع ذلك الرجل. أجل، كنتُ مُستعدًّا للعَيش مع خائنة لكثرة حبّي لها ولأولادي. دستُ على كرامتي ورجولتي، وبكيتُ أمامها وصرختُ لها عاليًا بأنّني لا شيء مِن دونها... لكنّها بقيَت مُصرّة على تركي. لِذا قبلتُ على مضض بالتخليّ عنها، شرط أن أرى أولادي أسبوعيًّا.

لن أنسى يوم رحلوا. كنتُ نائمًا ولَم أشعر بشيء. رحلوا كاللصوص وسط الليل، وعندما استفقتُ ووجدتُ البيت فارغًا، بدأتُ بالبكاء.

بعد أسبوع، رحتُ آخذ أولادي ليمضوا معي فرصة نهاية الأسبوع، إلا أنّهم رفضوا مرافقتي وبدأوا بالصراخ والبكاء. كنتُ قد أصبحتُ بالنسبة لهم كالغول الذي يخطفُ الصغار ليأكلهم. صبِرتُ على أمل أن يستفيقوا مِن تأثير عادل وأمّهم عليهم، لكن انتطاري طال وطال. وفي النهاية، سافروا جميعهم إلى بلد أجهل مكانه.

صِرتُ مضحكة الجميع بعدما سرَقَ عجوز عائلتي منّي، وبدأَ الناس يُؤلّفون روايات عنّي مفادها أنّني عاجز جنسيًّا وضعيف الشخصيّة. لو كانوا هم مكاني لَما نجوا مِن عادل، ولمَا استطاعوا الحفاظ على عائلتهم، أنا متأكّد مِن ذلك.

وبعد حوالي الخمس سنوات، إتّصلَت بي سهام:

 

ـ أنا في البلد... أتريد رؤية أولادكَ؟

 

ـ بالطبع! لكن، هل يُريدون رؤيتي؟

 

ـ أجل، فلقد ماتَ عادل منذ شهر.

 

ـ وورثتِ منه أمواله وممتلكاته! كمّ أنّكِ محظوظة... أو بالحريّ ذكيّة.

 

ـ كفى سخرية. لقد أحبَبتُه لشخصه فقد كان انسانًا رائعًا.

 

ـ لا أريدُ معرفة التفاصيل! إبقِ أخباركِ لنفسكِ أرجوكِ. تعرفين أين أسكن، إجلبي الأولاد لي.

 

تفاجأَت سهام بموقفي، فهي تصوّرَت أن أركض إليها لرؤية أولادي، أو أن أتوسّل إليها لتعود إليّ كما سبَقَ وفعلتُ، وكم كانت مُخطئة! كنتُ خلال السّنوات الأليمة التي مرَّت قد أخذتُ قرارًا بأن أحبّ مَن يُحبُّني فقط أيًّا كان، وأن أُعطي كلّ انسان حقّه، ولَم يكن أيٌّ منهم يستحقّ عنائي.

جاءَت سهام بالأولاد وجلستُ معهم حوالي السّاعة. لَم أقرأ في عيونهم أيّة مودّة تجاهي، بل كانوا وكانّهم لا يعرفوني. أسفتُ لذلك لكنّني قبِلتُه. صرتُ أراهم بين الحين والآخر، لكن مِن دون حماس. حاولَت سهام التقرّب منّي، وعَرَضَت عليّ صداقتها ربمّا لتكفّر عن ذنبها الذي لا يُغتفَر، إلا أنّني لَم أسمَح لها بدخول حياتي مجدّدًا.

أنا اليوم متزوّج ولدَيّ إبنة جميلة. أرى أولادي مِن سهام في الأعياد والمناسبات... وهذا كافٍ. لَم تتزوّج سهام مجدّدًا، ربمّا لأنّها ندِمَت على أذيّة مَن أحبّها... أو بكلّ بساطة لأنّها لَم تجد أروَع وأفضَل مِن عادل!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button