أحقاً رحلَ أبي ولن يعود؟

عندما كنتُ في الثامنة مِن عمري أخبَرَنا أبي أنّ عليه الذهاب إلى الولايات المتحّدة لإستلام ميراثاً حصَلَ عليه بعد توفّي عمّه هناك. وكان عمّ أبي رجل فاحش الثراء ويملك أراضي شاسعة ومزارع عديدة.

فرِحَت أمّي كثيراً خاصة أنّنا كنّا نعيش في القلّة بسبب الوضع الاقتصادي الرديء. وقبلّني أبي وحَمَلَ أخي الصغير وعانقَ والدتي ووعَدَنا أنّ غيابه لن يطول وأنّه عائد قبل حلول العيد. وأخذتُ أحلم بالهدايا الجميلة التي سيجلبها لي مِن ذلك البلد البعيد وكيف سأتباهى بها أمام رفاقي في المدرسة.

ولكن بعد مرور أسبوعَين على وصوله الولايات المتحّدة، جاءَنا خبر منه مفاده أنّه يحتاج إلى وقتٍ أطوَلٍ لينهي أعمال عمّه المعلّقة.

وأخذَت أمّي تنشّف دموعي وتعدني بأنّ تلك المدّة ستمرّ بِسرعة وأنّني سأرى أبي قريباً جدًّا. ولكن أخبار أبي واتصالاته بدأَت تشحّ يوم بعد يوم حتى أن انقطَعَت كليًّا. وكلّما كانت تحاول والدتي الاتصال به كان هاتفه يرنّ ويرنّ وتبقى مِن دون جواب. وخفنا طبعاً أن يكون قد وقَعَ ضحيّة الطَمَع لِذا خابَرت أمّي سفارتنا هناك وقالوا لها أنّ لا وجود له بأيّ مستشفى أو مدفَن. كان الرجل وكأنّه تبخّرَ في القارة الكبيرة.

ومرَّت الأشهر وكنّا خلالها قد حسبنا طبعاً أنّه لاقى حتفه بعد أن قُتِلَ وأُلقيَت جثّته في حفرة ما، حتى أن علِمَت أمّي أنّه حيّ يُرزق يمضي أيّامًا جميلة مع راقصة كاباريه برازيليّة. وكانت التفاصيل التي وصلَتها دقيقة لِدرجة أنّها تحقّقَت فعلاً مِن صحّة الخبر. عندها اضطرَّت إلى اطلاعي على الوضع ولكن بِتعابير تناسب فتاة مِن عمري:

 

ـ حبيبتي... أبوكِ بِخير.

 

ـ الحمد للهَ متى سيعود؟

 

ـ الحقيقة أنّه لن يعود...

 

ـ ماذا؟ ولكنّكِ قلتِ أنّه بخير!

 

ـ أجل... أبوكِ باقٍ حيث هو.

 

ـ بِسبب أعماله؟

 


ـ أجل وبِسبب أمور أخرى.

 

ـ ماذا تعنين؟

 

ـ سأخبركِ لاحقًا... ولكنّني أرادتُ أن يطمئنّ قلبكِ عليه وأن تعلمي أنّ حياتنا ستتغيّر.

 

ـ كيف؟

 

ـ أوّلاً لأنّه لن يكون موجوداً معنا بعد الآن وثانيًا لأنّنا سنعيش بِظروف صعبة... أعني مِن الناحية الماديّة.

 

ـ ولكنّنا أصبحنا أثرياء... لقد ورثنا مالاً وفيراً.

 

ـ أبوكِ هو الذي ورثَه... ولا أظنّ أنّه سيقاسمه معنا.

 

ولم أفهم قصدها لأنّني لم أستطع تصوّر أنّ أبي قد يحرمنا مِن أي مدخول بعدما أصبحَ يملك ثروة كبيرة. ولكنّه كان انساناً أنانيًّا لا يفكّر سوى بِنفسه خاصة بعدما ذاق طعم المال ورفقة راقصة كباريه وأجواءها الصاخبة.

وبعد أن أطلعَتني أمّي على الوضع استطاعَت اطلاق العنان لِحزنها ويأسها وأخَذَت تبكي بِمرارة وتردّد طوال النهار: "ماذا سيحصل لنا... ماذا سيحصل لنا."

وبعد أن مرَّت فترة الحزن القويّ وبعد أن نَفَذَ القليل الذي كانت قد دخّرَته، بدأت أمّي بالبحث عن عمل كي لا نموت جوعاً. كل ما استطاعَت ايجاده كان عملاً بسيطاً في معمل لِحياكة الأقمشة. كان الدوام طويلاً والظروف صعبة وصاحب العمل قاسياً. ولكنّ المسكينة كانت تفعل جهدها كي لا تشاركنا شجونها ونكبر قبل أواننا. وأصبحنا بالكاد نراها. فعندما نستفيق للذهاب إلى المدرسة، تكون أمي قد ذهبت إلى عملها. لذا كنتُ أحضّر أنا الزوّادة لي ولأخي. وعند انتهاء الدروس كنتُ أحضّر أيضًا شيئًا بسيطًا لنأكله. وعندما كانت ترجع مِن المعمل في المساء كنّا نراها منهكة لِدَرَجة أنّها كانت بالكاد تجلس معنا بل كانت تغفو على الأريكة أو تقصد غرفتها لِترتاح.

ورغم عمل أمّي لم نستطع العيش بكرامة، فالقليل التي كانت تجنيه لم يكن كافيًا لاطعام عائلة. وأتذكّر أنّ غالبًا لم نكن نحصل على ثلاثة وجبات. وعندما كنّا نشتكي مِن الجوع كانت تقول لنا والدتنا:

 

ـ اصبرا... لا نعلم ما يخبّؤه القدر لنا... قد يعود أبوكما أو يرسل لنا المال.

 

كانت المسكينة تعتقد فعلاً أنّ ذلك الرجل الفاسد سيتوب ويدرك ما فعَلَه بنا. فرغم سنّي الصغير كنتُ قد فهمتُ حقيقة أبي البشعة.

ومرَّت السنين بِصعوبة بين حزن وبكاء أمّي وتعَبَها ومَرَض أخي الذي عانى الكثير بِسبب الرَبو. وبدأ نظر أمّي يضعف لِكثرة الدموع والتركيز على ماكينات الحياكة وغبار الأقمشة. وفقدَت والدتي بصرها شيئًا فشيئًا. عندما أخذتُها عند الطبيب قال لنا: "لقد تأخّرتما في المجيء اليّ... لم أعد قادراً على مساعدتها."

 


وبكيتُ دموعًا حارّة لأنّني لم أستطع انقاذ عيون والدتي وأقسمتُ أن أعوّضَ عليها وعلى أخي عن كل تلك السنين البشعة التي مرَّت علينا. وعملتُ جهدي في المدرسة وتفوّقتُ على زملائي حتى أن حصلتُ على منحة في كليّة طب مرموقة لأنّني أرَدتُ أن أصبح طبيبة لأهتمّ بِصحّة عائلتي.

وفي تلك الأثناء كان والدي ينعم بكل المال ويفرّقه على شلّة صديقته الراقصة. كيف لم يفكّر بنا وبحالتنا؟ كيف تصوّر أنّنا سنعيش مِن دون فلس واحد؟ لستُ أدري. سألتُ نفسي مرارًا كيف أنّ المال قادر على الاستحواذ على عقول ونفوس الناس الى هذه الدرجة ولكنّني لم أجد جواباً مُقنعًا.

ودخلتُ كليّة الطبّ بينما كان أخي ينهي دراسته المدرسيّة ويعمل بعد الظهر عند بقّال الحيّ. لم أكن قادرة على العمل بِسبب كثافة البرنامج ولكنّني كنتُ واثقة أنّني سأكون أكثر افادة لِعائلتي عندما أتخرّج.

وعِشنا على القليل الذي كان يجنيه أخي بعد أن مكثَت والدتنا في البيت. ولكنّنا كنّا قد أعتَدناعلى القلّة وبدأنا نعرف كيف ندير أمورنا: وجبة طعام واحدة والأكثار مِن الحبوب القليلة الثمَن. واستطعتُ بعد سنة أن أعمل في مكتبة الجامعة مقابل أجر صغير، وكان أفضل مِن لا شيء خاصة أنّني كنتُ لا أزال في حَرَم الجامعة وبين الكتب الدراسيّة.

ولأنّ الحياة لا تتوقّف، حصلتُ على شهادتي في الطبّ العام.

كنتُ أوَدّ أن أتخصّص ولكنّني لم أسمح لِنفسي التمادي في الدراسة. كان عليّ البدء بجني المال وبأسرع وقت. وحصلتُ على وظيفة في احدى المستشفيات في قسم الطوارئ وتعلّمتُ الكثير في وقت قصير. كانت حوافزي قويّة لِدرجة أنّني تفوّقتُ أينما ذهبتُ ومهما فعلتُ وحصدتُ ثمار تعبي بِسرعة. وعندما ارتحنا ماديّاً قليلاً، حصلَ الغير متوَقَّع.

ففي ذات يوم قالت لي موظّفة الاستقبال في المستشفى أنّ رجلاً ينتظرني في قاعة الزوّار. وعندما دخلتُ القاعة ورأيتُه استطعتُ التعرّف عليه بِثانية. وقفتُ أمامه كالصَنَم غير قادرة حتى على التفكير. قال لي:

 

ـ هذا أنا... أبوكِ.

 

ـ ليس لدَيّ أب... مات عندما كنتُ في الثامنة.

 

ـ لقد عدتُ.

 

ـ فقدت أمّي نظَرَها بِسببكَ... عانى أخي مِن الربو... كدنا أن نموت جوعاً... جوعاً يا رجل! حين كنتَ تلعب أنت بالمال، ولداكَ لم يأكلا سوى وجبة واحدة في النهار! أتفهم ما يعني ذلك؟

 

ـ أنا آسف.

 

ـ لا! لستَ آسفاً! وإلاّ أسِفتَ منذ زمن طويل... لماذا عدتَ؟

 

ـ لم أعُد لِوحدي بل مع... إبني.

 

ـ يا للمفاجأة السارّة! لدَيَّ أخ! برافو!

 

ـ عدنا لِنعيش هنا... معكم... ماتَت والدته.

 

ـ أين مالَكَ؟ أكلَتَه وشربَته؟

 

ـ أجل... لم يعد هناك شيئَا... لقد كنتُ مهمِلاً.

 

ـ مهمِلاً كلمة صغيرة... اسمع... خذ إبنكَ وعُد مِن حيث أتَيتَ... يكفينا قهرًا وذلاً... عندما كنتَ غنيّاً لم تتعرّف علينا وتعود اليوم فقيراً...

 

ـ ومريضاً.

 

ـ لا يهمّني!

 

ـ انتِ طبيبة.

 

ـ أجل ولكنّني مِن لحم ودم... لدَيّ احاسيس... ولكن ليس تجاهكَ... هناك العديد مِن الأطبّاء غيري... اذهب إليهم... وايّاكَ أن تقترب مِن أخي أو أمّي... أفهِمتً؟

 

ـ ولكنّني أبوكِ!

 

ـ لا! لستَ أبي... قلتُ لكَ أنّ أبي مات مِن زمن بعيد... ارحل الآن ولا تعود! أبداً! هيّا!

 

ـ أخاكِ في الخارج... ألا تريدين التعرّف اليه؟

 

ـ ما بكَ لاتفهم؟ ارحل أو ناديتُ حرّاس الأمن!

 

ورحلَ الرجل كما أتى. لم أخبر أمّي أو أخي بالأمر لأجنّبهما الغوص مجدّداً في أحزان هما بِغنى عنها، ولكنّني بقيتُ على حذَرَي.

لم يحاول أبي الاتصال بأيّ منّا مجدّداً ولم أعد أعلم عنه شيئاً. وهكذا أفضل!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button