أبي المشعوذ

مِن أين أبدأ قصّتي؟ مِن البداية طبعًا، أي عندما أبصَرتُ النور في عائلة مزّقَتها رغبات أبي الجنسيّة التي لم تكن أمّي قادرة على إشباعها. حاولَت المسكينة طوال حياتها أن تخلق في قلبه نوعًا مِن الحسّ الزوجيّ والأبويّ، آملة أن يعي أنّ لدَيه عائلة وبنتًا، وأنّ ما يفعله لم يكن يليق به وبنا، ولكنّه بقيَ يركض وراء الجنس اللطيف ليلاً نهارًا وذلك مِن دون أن يأخذ عناء الاختباء حتى.

وجراء هذه الحياة المليئة بالذلّ، مرضَت والدتي وفارقَت الحياة حين كنّا لا نزال صغارًا.

جاءَت أمّه لتساعده على تربيتنا وتمنعه مِن جلب نسائه إلى البيت، خوفًا مِن الفضيحة وحفاظًا على ما تبقّى مِن سمعة العائلة. أمّا هو فوعدها بأنّه لن يتزوّج أبدًا. ولماذا يفعل حين يستطيع فعل ما يشاء ساعة يشاء؟

ولكن بلدتنا كانت صغيرة، وكان الكلّ على علم بإدمان والدي على النساء. وسرعان ما صار مِن الصّعب عليه العيش كما يحلو له، لِذا قرَّرَ الانتقال إلى بلدة أخرى حيث لا يعرفنا أحد. رافقَتنا جدّتي لتبقي عينًا ساهرة عليه، وخلنا نحن الأولاد أنّنا سنعرف أخيرًا السلام مع تلك البداية الجديدة.

هناك قرَّرَ أبي تغيير أسلوبه، بعدما أدرَكَ أنّ ما كان يفعله جلَبَ له ولأمّه لوم السكّان. وخطَرَت بباله فكرة جهنّميّة: بدأ يدّعي أنّه مشعوذ يُمكنه فكّ المكتوب. وبما أنّ النساء هنّ الأكثر اعتقادًا بهذه الأمور، كان أكيدًا مِن أنّه سيجلب لنفسه الجمهور المنتظر. فما يشغل بال المرأة في تلك الأماكن كانت أمور تتعلّق بالانجاب والخيانة الزوجيّة والمنافسة النسائيّة.

أذكر بوضوح يوم جهّز والدي غرفة في بيتنا الجديد مخصّصة لـِ"عمله": جلَبَ أريكة عريضة وطاولة وضَعَ عليها شرشفًا وشموعًا وبخورًا، وخفَتَ الأنوار وألصَقَ على النافذة ورقًا يحجب الضوء والنظَر. ولن أنسى أبدًا البسمة العريضة التي ارتسمَت على وجهه عندما وقَفَ يتفرّج على نتيجة اختراعه.

 


لم نكن نعلم آنذاك ما كان ينوي فعله حقيقةً، بل خلنا أنّه يبحث عن كسب المال فقط خاصّة أنّه كان قد تَرَك عمله.

وجاءَت "الزّبونة" الأولى، إمرأة في متوسّط العمر تشكو له مِن إمرأة أخرى تحوم حول زوجها، فطمأنها أبي بأنّه يملك الحل. إختلى بها في الغرفة الخاصّة لمدّة ساعة، وعندما خرجا سويًّا سمعتُه يقول لها:

 

ـ إنّها جلسة تمهيديّة، لذلك عليكِ العودة في الغد وكلّ يوم إلى حين نصل إلى نتيجة... إن لم تعودي فأؤكّد لكِ أنّكِ ستخسرين زوجكِ قريبًا.

 

نظَرَت المرأة إليه مُحرَجة:

 

ـ ولكن... هل مِن طريقة أخرى؟ أعني أنّ ما تطلبه منّي خارج عن المألوف!

 

ـ وهل مألوف ما تطلبينه أنتِ منّي ؟!؟

 

وحدَّقَ فيها بعَينَيه الواسعَتين، فخجِلَت المرأة مِن نفسها لأنّها شكّكَت بقدرات ودوافع رجل مثله.

لم تكن جدتّي مسرورة بمهنة إبنها الجديدة، ولكنّها لم تكن قادرة على منعه مِن مزاولتها بسبب حاجتنا إلى المال، فاكتفَت بتوبيخه ومراقبته ولكنّها هي الأخرى لم تتصوّر أنّ ابنها مهووس إلى درجة غير معقولة بالنّساء.

عادَت" الزّبونة" مرّات عديدة، ولحقَت بها أخروات. وسرعان ما أصبَحَ لأبي شهرة بين النساء. مرَّت السنوات وكبرنا وبدأنا نفهم بالحياة وبالذي كان يفعله والدنا، ولكن لم نكن لنجرؤ على إيقافه. فالجدير بالذكر أنّه كان يتمتّع بشخصيّة قويّة ومؤثّرة جدًّا، وقد تربَّينا على احترامه وعدم الوقوف بوجهه. هكذا كان، طاغيًا أصرَّ على العَيش كما يحلو له ولم يسمَح لأحد بالوقوف بدربه.

شعَرتُ بعار لا يوصف حين أدركتُ حقيقة الرجل الذي أنجَبني، لِذا فعلتُ المستحيل لأبتعد قدر المستطاع عنه وعن البيت الذي كان المسرح لممارسات لا تمتّ للأخلاق بأيّة صلة. أخَذتُ الدّراسة ذريعة لي، وسارعت لألتحِق بجامعة مجّانيّة في العاصمة. حاولتُ أخذ أخوَتي معي ولكن ما مِن أحد منهم أراد مرافقتي. وهكذا واجهتُ المدينة لوحدي. لم أخَف مِن هذا التغيير الجذريّ، لشدّة اشمئزازي مِن العيش مع أبي. وسرعان ما وجَدتُ عملاً بسيطًا وبدأتُ أنسى ماضيّ تدريجيًّا.

 


في تلك الأثناء كانت الأمور تتفاقم في البلدة، بعد أن أصبحَت النساء مفتونات بأبي ووعوده وأحيانًا بأكثر مِن ذلك، وكان لا بّد أن تقع الكارثة إذ ما مِن شيء يستمرّ إلى الأبد.

وجاءَت المصيبة على يد إحدى النساء التي كانت تشكو مِن عقرها وتريد إعطاء زوجها ولدًا قبل أن يُطلّقها أو يتزوّج عليها. وبعد أن حاولَت طرقًا عديدة، لجأت إلى "الذي يصنع المعجزات" غير مدركة، على الأقل في البداية، ما ينتظرها. ولكثرة تردّدها إلى غرفة أبي الخاصّة، إنتهى الأمر بها حبلى، ليس مِن مفعول السّحر بل بكلّ بساطة مِن والدي. ولكن ما لم تكن تعلمه تلك السيّدة أنّها لم تكن هي العاقر بل زوجها الذي كان يعرف تمام المعرفة أنّ المشكلة هي منه وكتَمَ السرّ حفاظًا على رجولته. فعندما أخبَرته بفخر أنّها تنتظر مولودًا، وقعَت الفاجعة. وبعد أن أبرحَها ضربًا، إعترفَت له المسكينة بما كان يجري أثناء جلسات الشعوذة، وهو أخَذَ سلاحه وركَضَ إلى بيتنا للقضاء على "المغتصب المحتال". ولولا تدخّل الجيران لقُتِلَ والدي.

جاءَت الشرطة وأوقفَت الرجلَين. وبعد التحقيق إعترفَ والدي بأنّه كان يستخدم الشعوذة عذرًا للتقرّب مِن النساء وإقناعهنّ بأنّ عليهنّ ممارسة الجنس معه كي يتدخّل "الجنّ" القادر على مساعدتهنّ. وبهذه الطريقة كان أبي قد استغلّ ما يُقارب الخمسين امرأة.

جَرَت محاكمته في العاصمة، وعلِمتُ بالأمر ليس مِن إخوَتي بل مِن الصّحف، وتمنَّيتُ لو لم أولَد قط.

لم أكن أعلم إن كنتُ سأحضر جلسة محاكمته أم لا، وبعد تفكير عميق قرَّرتُ ألا أفعل، ليس فقط بسبب العار ولكن لأنّني لم أكن قادرة على رؤية أبي، فمجرّد فكرة النظر إليه كانت تشعرني بالغثيان. لم أنسَ ما فعَلَه بأمّي ولاحقًا بجدّتي، ومعاملته القاسية لنا وخاصّة فرحته وهو يُجهّز غرفة استقبال الزبونات. لم أفكّر كثيرًا بتلك النساء لأنّهنّ كنّ راشدات، وما حصَلَ لهنّ كان نتيجة غباء لا دخل لي فيه، فمهما كان الانسان جاهلاً أو يائسًا، تبقى له حريّة الإختيار وإمكانيّة التمييز بين الصحّ والخطأ.

تابعتُ مسار المحاكمة عن بعد، وعندما صدَرَ الحكم بالسّجن وكتبَت عنه الصحف انتابَني خوف شديد، فماذا كان سيحصل لجدّتي العجوز وأخوَتي في البلدة لو انتشر الخبر وبات كلّ فرد فيها على علم بحقارة والدي؟

لِذا أخذتُ سلفة مِن المحلّ الذي كنتُ أعمل فيه ودرتُ على المكتبات وأكشاك الصحف واشترَيتُ كلّ ورقة طُبعَ عليها اسم أبي إن كانت في مجلّة أو صحيفة. تعبتُ كثيرًا ودفعتُ مبلغًا كبيرًا لإبعاد العار عنّا. صحيح أنّني لم أستطع شراء كلّ النسخات، ولكنّني حصلتُ على معظمها. فآنذاك كانت الإصدارات أقلّ كثيرًا ممّا هي عليه اليوم. وحمَلتُ النسخ إلى مكان بعيد عن المدينة وحرقتُها، متأمّلة أن تختفي معها آثام الذي أنجبَني.

ماتَ والدي في السجن بعد سنين طويلة. مرّة واحدة زرتُه ولم أعاود الكرّة بسبب موقفه في ذلك اليوم:

 

ـ عليكِ إيجاد طريقة لإخراجي مِن هنا... قولي لهم أيّ شيء... قولي إنّني مجنون.

 

ـ وهل أنتَ مجنون فعلاً يا أبي؟

 

ـ أنا؟ هاهاها! إستمتَعتُ بكلّ لحظة قضَيتُها مع تلك النساء الغبيّات! وعندما سأخرج سأعاود ما كنتُ أفعله بفارق واحد، سأحرص ألا تحمل منّي أيّ منهنّ.

 

ـ كيف تقول لي ذلك؟ أنا ابنتكَ!

 

ـ يا حبيبتي، لو تعلمين كم لدَيَّ أولاد آخرون مِن غير أمّكِ!

 

خرجتُ ركضًا لأبتعد قدر المستطاع عن ذلك الوحش. ولاحقًا سألتُ نفسي عمّا دفَعَ والدي إلى القيام بكلّ ذلك، هل كان مريضًا نفسيًّا أم رجلاً شرّيرًا؟ لن أعرف الجواب أبدًا.

لم أتزوّج بعد أن كرهتُ الرجال والزواج برمتّه، ولستُ آسفة على ذلك.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button