عندما جئنا بابننا إلى البيت، نظَرتُ إلى ناديا زوجتي وهي تبتسم وتدمَع في الوقت نفسه، وعلِمتُ أنّني فعلتُ الصواب بالموافقة على أن نتبنّى ذلك اليَتيم الصغير الذي كان يبلغُ الخمس سنوات مِن عمره. شكرتُ ربّي أنّه غيَّرَ رأيي، لأنّني لَم أكن أحبِّذ أبدًا تلك الفكرة، ربّما لأنّ رجوليّتي لَم تتقبّل فكرة تربية ابن رجُل غيري.
تأقلَمَ ماجِد ابننا الجديد بصعوبة مع حياته معنا، وكان السبب معروفًا إذ أنّ كان له أخ توأم لا يزال في المَيتَم. فالحقيقة أنّنا لَم نشأ تبنّي الإثنَين معًا. فبعد مُشاورات طويلة، قبِلَت المؤسّسة أن تفصلهما ليس مِن أجلنا، بل لأنّ القليل مِن الناس هم مُستعدّون لتبنّي ولدَين في الآن نفسه وخاصّة إن بلغَا الخامسة، فالأغلبيّة تُفضّل الأطفال الصغار جدًّا أو حتّى المولودين الجدُد.
رأينا الحزن الدائم والملَل في عَينَيّ ماجِد أو الغضب والثورة في تصرّفاته معنا لمدّة سنة بكاملها، فقرَّرنا أن نأتي بأخيه أيضًا. لكن قَبل ذلك تأكّدتُ مِن أنّ زوجتي مُستعدِّة لهذا الحِمل، وتُدركُ أنّها ستتعَب كثيرًا. وأنا مِن جهتي راجعتُ كلّ الحسابات المُتعلِّقة بالمصاريف التي سنتكبّدها جرّاء كبر عائلتنا بصورة مُفاجئة. لَم نكن فقراء ولا أغنياء، بل مِن الطبقة العاديّة جدًّا.
أتَينا أخيرًا بمَجد، توأم ماجِد، وأعطَيناه سريرًا جميلًا في غرفة أخيه. وكان المشهد مؤثِّرًا إذ أنّ ابننا ركَضَ لمُلاقاة أخيه وعانقَه مُطوّلًا باكيًا، وهما بقيا هكذا مُتعانقَين لدقائق طويلة. ونحن بكينا أيضًا وعلِمنا أنّنا فعَلنا الصواب. إضُطرَّت زوجتي إلى ترك عمَلها وإيجاد آخَر بدوام جزئيّ، لتلعَب دور الأم لولدَين صغيرَين، وتعِبَت كثيرًا مِن هذا النَّمَط الجديد، خاصّة أنّ ماجِد ومَجد كانا صبيَّين مُفعمَين بالحيويّة ويهويان اللعَب بطريقة صاخِبة. ساعدتُها قدر المُستطاع، لكن ما عسايَ أفعَل حين أعمَل دوامًا كامِلًا ولا أعودُ إلى البيت إلّا في المساء؟ للحقيقة لَم أعلَم حقًّا كَم كانت تُعاني ناديا، فلدى وصولي المنزل كنتُ أتناول العشاء، ثمّ أُلاعِب ابنَيَّ وأخلدُ وزوجتي إلى النوم. أمّا في فرَص نهاية الأسبوع، فكنّا نقوم بنشاطات قليلة بسبب التكاليف، لكن في نظري كان كلّ شيء على ما يرام. إلّا أنّ زوجتي لَم تكن مِن رأيي.
فذات مرّة قالَت لي:
ـ هناك شيء مُريب في ولدَينا.
ـ ماذا تعنين؟
ـ أطباعهما غريبة... وذلك الرابط الموجود بينهما مُخيف بعض الشيء.
ـ إنّهما توأمان، وهذا أمر طبيعيّ، ثِقي بي. إضافة إلى ذلك، لا تنسي ما مرّا به سويًّا في المَيتم، وخلال الفترة التي وجدا فيها نفسهما مُنفصلَين قَبل أن نجمَع بينهما مُجددًا.
ـ أنا تعِبة... لَم أتصوّر أنّ تربية ولدَين بصورة مُفاجئة مُتعِبة لهذه الدرجة.
ـ أفهمُكِ تمامًا وسأفعَل جهدي لمُساعدتكِ، حبيبتي.
بقيتُ على وعدي، وصِرتُ أُساعدها في المنزل وبالولدَين كلّما أُتيحَت لي الفرصة. إضافة إلى ذلك، طلبتُ مِن أمّي أن تزورَ زوجتي مرّات عدّة في الأسبوع مع أنّها سيّدة مُسِنّة، فحماتي كانت مُتوفّاة وأخت زوجتي تعيشُ وعائلتها بعيدًا عنّا.
لكنّ زوجتي شعَرت أنّني أعتبرُها أمًّا فاشِلة، مع أنّها أعربَت عن حيرتها وتعبَها، فطلبَت منّي أن تكفّ أمّي عن المجيء إلينا. للصراحة احتَرتُ في أمري كثيرًا لكنّني صبرتُ.
في تلك الفترة، كبرَ ولدانا وصارا أكثر دهاءً وذكاءً وكبرَ الرابط بينهما، الأمر الذي عزَّزَ مِن خوف ناديا منهما. للحقيقة لَم أرَ أيّ أذى أو تهديد في تصرّفاتهما كما بقيَت تدّعي زوجتي، بل فقط تصرّف ولدَين طبيعيَّين في مثل سنّهما، لكنّني فعلتُ جهدي للتواجد معهما أكثر. وهكذا صرتُ قريبًا مِن ماجِد ومَجد أكثر وأكثر، واستمتَعتُ جدًّا بهذه العلاقة الوطيدة. هما أيضًا شعَرا بحبّي لهما فتعلَّقا بي، ما أغضَبَ أمّهما للغاية. فهي قالَت لي ذات يوم:
ـ لا تقَع في الفخ... إنّهما ماكران!
ـ إنّهما ولدان! ما بكِ؟
ـ أنتَ لا تعرفهما مثلي... أسمعُهما يتهامسان ليلًا في سريرهما.
ـ كيف وأنتِ نائمة بجانبي؟ أنا لا أسمعهما!
ـ لأنّكَ تنام على الفور، لكنّني أبقى صاحية لساعات وأسمعُهما مِن خلف الحائط.
ـ وماذا يقولان؟
ـ يُريداني ميتة!
ـ هل فقدتِ عقلكِ؟!؟
ـ أقولُ لكَ إنّهما يُخطّطان ضدّي! لماذا لا تُصدّقني؟!؟ هل كذبتُ عليكَ يومًا؟
ـ حسنًا... سأبقى صاحيًا الليلة لأرى ما الذي يحدث.
وعندما حلَّ الليل وخلَدنا جميعًا للنوم، بقيتُ صاحيًا لأكثر مِن ساعتَين، إلّا أنّني لَم اسمَع شيئًا آتيًا مِن جانب الولدَين، حتّى عندما قمتُ مِن السرير وألصقتُ أذُني على بابهما. هل يُعقَل أنّ زوجتي بدأت تفقدُ أعصابها، أم أنّها على حقّ وحصَلَ أنّ ماجِد ومَجد لَم يتهامسا في تلك الليلة بالذات؟
وبعد حوالي الستّة أشهر على ذلك الحديث، وجدتُ مساءً زوجتي تبكي بحرارة مُمسكة أحَد فساتينها المُمزّق. وهي نظرَت إليّ وقالَت: "أنظُر إلى ما فعلا بفستاني المُفضّل! أتُصدّقني الآن؟!؟". غضبتُ كثيرًا فنادَيتُ ماجِد ومَجد وصرختُ عليهما مُعاتِبًا ومُعاقِبًا. لكنّهما أنكرا طبعًا بشدّة أيّة مسؤوليّة في تقطيع الفستان، فأيّ ولَد يعترفُ بفِعلته؟ واسَيتُ ناديا ووعدتُها بأنّ تلك الحادِثة لن تتكرّر، ثمّ رحتُ إلى غرفة ولدَيّ وعاتَبتُهما، لكنّهما قالا لي:
ـ إنّها تكذِب يا بابا... لا تُصدّقها. هي لا تُحبّنا.
ـ بل تُحبُّكما كثيرًا لكنّها تعِبة. وذلك لا يُبرِّر أن تُخرِّبا ملابسها، فهكذا أمر مُشين ولا يتماشى مع الذي لقّنّاه لكما!
لَم تهدأ الأجواء في البيت، بل تفاقمَت يومًا بعد يوم، الأمر الذي أثَّرَ علينا جميعًا. كنتُ لا أعلَم مَن يقول الحقيقة ومَن يكذب، وصِرتُ أخاف مِن العودة إلى البيت مساءً. لكنّ أمرًا قلَبَ الميازين بشكل جذريّ إلى الأبد: الاعتداء على زوجتي.
فذات يوم، تلقّيتُ اتّصالًا مِن زوجتي شغَلَ بالي كثيرًا: سمِعتُها عبر الهاتف تصرخ بأعلى صوتها: "تعالَ الآن!!! يُريدان قتلي!!! لدَيهما سكّين!!!". قدّتُ سيّارتي كالمجنون، وعندما وصلتُ البيت وجدتُ زوجتي على أرض المطبخ والدماء تخرجُ مِن ذراعها، وليس بعيدًا عنها سكّين مطبخ كبير. قمتُ بالإسعافات الأوليّة لها وطلبتُ الاسعاف، ثمّ حاولتُ أن أعرفَ منها ما حصَلَ بالتفاصيل، وهي قالَت:
ـ ماجِد جاءَ بسكين مِن المطبخ، وفاجأني مِن الخلف وأنا جالِسة على أريكة الصالون، ولحِقَ به مَجد الذي أمسكَني بينما غرَسَ أخوه السكّين بي صارخًا: "موتي أيّتها الساحرة، موتي!". هو كان يقصد طَعني في قلبي لكنّني استدَرتُ في آخِر لحظة".
للحقيقة شعرتُ بالخوف لدى سماعي ذلك، ورحتُ أفتِّشُ عن ولدَيّ فوجدتُهما مُختبآن في خزانة الملابس والخوف يملأ عَينَيهما. لكن حسب قولهما، سمِعا زوجتي تصرخُ وهي تُكلّمني عبر الهاتف، ثمّ رأياها تغرسُ السكّين بنفسها في ذراعها وتستلقي أرضًا بانتظاري. عندها راحا يختبئان خوفًا منّي. وجدتُ صعوبة بتصديق أقوالهما، فأيّ إنسان يُصيب نفسه إصابة بالِغة فقط لاتّهام ولدَين في العاشرة مِن عمرهما؟ يا إلهي، كانت زوجتي مُحِقّة في مخاوفها منهما، وأنا لَم أعِر أهمّيّة لشكوكها! أيّ زوج أنا؟
جاء الاسعاف وأخَذَ زوجتي، فأوصَلتُ التوأمَين إلى أمّي شارِحًا لها ما حصَلَ وطالِبًا منها أخذ الحذَر، ثمّ لحِقتُ يِناديا إلى قسم الطوارئ. وبعد أن عالجوا زوجتي وأخذوها إلى غرفة في المشفى، عدتُ إلى بيت أمّي غاضِبًا لأقصى درجة. وفي طريقي، بدأتُ أُراجِعُ نفسي بالنسبة لمسألة التبنّي. فلا أحَد يعرفُ إن كان الولدان قد ورِثا طباع أحَد والدَيهما الشرِسة أو الإجراميّة، وقد نكون قد أتَينا إلى بيتنا بولدَين خطيرَين جدًّا.
وجدتُ أمّي وهي تحضنُ ماجِد ومَجد وتواسيهما، فأخذتُها جانبًا وطلبتُ منها الاحتراس جيّدًا مِن هذَين الماكِرَين. إلّا أنّها نظرَت إليّ بتعجّب قائلة: "لا تقُل لي إنّكَ صدّقتَ تلك المرأة الهستيريّة؟!؟ أيّ أب أنتَ؟!؟". خجِلتُ مِن نفسي عندما رأيتُ الخوف والحيرة في عَينَي ولدَيَّ، لكنّني تذكّرتُ ذراع زوجتي المُصاب فلَم أعُد واثِقًا مِن شيء. كلّمتُ زوجتي عبر الهاتف لأطمئنّ عليها، ثمّ قصدتُ البيت وأخذتُ بعض الأمتعة لها لقضاء الليلة معها في المشفى، لأنّها خائفة مِن البقاء لوحدها.
نامَت زوجتي أخيرًا وأنا أغمَضتُ عَينَيّ قليلًا، فالنوم على كرسيّ مشفى لَم يكن مُريحًا أبدًا. إلّا أنّها استفاقَت بعد حوالي الساعة صارخةً بي: "لا أُريدُ أن أرى أيًّا منهما لدى عودتي إلى البيت! كلّ ما فعلتُه هو حبّهما وهكذا يُبادِلاني المعروف؟!؟". واسَيتُها ثمّ تذكّرتُ فجأةً أمرًا مُهِمًّا لَم يخطُر ببالي مِن قَبل:
ـ قولي لي... كيف تسنّى لكِ الاتّصال بي وإخباري أنّ ولدَينا يحملان سكّينًا، لِتقولي لاحِقًا إنّهما جاءا فجأة مِن خلفكِ وأنتِ جالسة في الصالون وأمسَكا بكِ؟
ـ لستُ أدري... إختلطَت ربّما الأفكار في رأسي مِن كثرة خوفي.
ـ لكنّني لَم أجِد دماء على الأريكة، بل فقط حيث وجدتُكِ على الأرض المطبخ.
ـ لَم أكن على الأريكة، بل... مهلًا، هل تُحقِّق معي؟!؟
ـ أُريدُ فقط معرفة ما حصَلَ فعلًا. أين كنتِ حين تمّ الاعتداء عليكِ؟ وكيف كان لدَيكِ الوقت للاتّصال بي إن هما فاجآكِ؟ قولي لي الحقيقة يا حبيبتي، فأنا لستُ غبيًّا.
ـ حسنًا! أنا فعلتُ ذلك بنفسي! فلا أُريدُهما!!! أعِدهما إلى المَيتَم، فلقد بدَّلتُ رأيي!
ـ ولدانا هما كائنان بشريّان وليسا مِن الحيوانات الأليفة أو قطعة أثاث نتصرّف بهما كيفما نشاء! أنا لَم أرَ في تصرّفاتهما خلال الخمس سنوات الفائتة أي شيء مُقلِق أو مُزعِج.
ـ لا أُريدُهما، إنّهما ليسا منّي! إسمَع، إمّا أنا أو هما في بيتنا!
ـ تعنين أن أختار بين امرأة مجنونة تطعنُ نفسها، وبالتأكيد مزَّقَت فستانها المُفضَّل، ثمّ تتّهِم صبيَّين عاقِلَين لَم يقترِفا أيّ خطأ، بل ذنبهما الوحيد أنّهما يتيمان؟ مِن السهل الاختيار، صدّقيني!
بالطبع حاوَلتُ تهدئة الوضع لكن مِن دون جدوى، فأبقَيتُ زوجتي في البيت، ورحتُ بعد الطلاق أسكنُ وولدَاي عند أمّي. على كلّ الأحوال، لَم يكن مِن الآمِن أن أتركَ ماجِد ومَجد مع ناديا في حال هي تراجعَت عن قرارها، فمَن يعلَم ما بإمكانها فعله للتخلّص منهما؟
ربَّيتُ الولدَين بحبّ وحنان، وهما أعادا لي هذا الحبّ وكبرا ليُصبحا مُراهقَين جدّيَّين ومسؤولَين. توفَّيت أمّي الحبيبة، الأمر الذي أحزنَهما كثيرًا لأنّها كانت أمًّا حقيقيّة لهما، الأمّ الوحيدة التي عرَفاها.
أمّا بالنسبة لزوجتي السابقة، فعاشَت لوحدها مع مخاوفها، وعلِمتُ مِن الجيران أنّها تتصرّف بالفعل وكأنّها مجنونة فابتعَدَ الكلّ عنّها. حاوَلتُ إقناعها عبر اتّصال بها بأن ترى أخصائيًّا نفسيًّا، إلّا أنّها أقفلَت الخط في وجهي بعد أن طالبَتني بعدَم إزعاجها. فليكن الله في عونها!
حاورته بولا جهشان