كان الجميع فخور بي عندما تمّ توظيفي بتلكَ المؤسّسة الشهيرة، فكنتُ أوّل فردٍ في كل عائلتي يخرج من دوّامة الفقر. كان وضعنا جميعاً سيّئاً، لدرجة أنّنا كنّا نعتقد أنّ لعنة كانت قد حلّت علينا منذ أجيال عديدة، فكلّ ما كان أحد يحاول إنجاز شيء، كان الفشل في إنتظاره.
للحقيقة، كنت قد قررت منذ الصغر أنّ مصيري لن يكون شبيهاً بمصير الذين سبقوني وعملتُ بجهد في المدرسة ومن بعدها في الجامعة كي أنال علامات تخوّلني خوض معركة، ظن الكل أنّها ستكون خاسرة. ودخلتُ معترك العمل من باب الصدفة ووعدتُ نفسي أنّ لا شيء ولا أحد سيقف بطريقي. وبعد أن تأكدتُ أنّني باق في منصبي، تجرأتُ على طلب يد حبيبتي ميساء التي قبلَت بي فوراً، ربّما لأنّها هي الأخرى كانت فقيرة. وأخذنا شقّة بفضل قرض من المصرف وفرشناها بذوقِ وتحضرّنا لحياة جميلة سويّاً. وكنتُ قد طلبتُ من ميساء ألّا تعمل رغم حصولها على إجازة في الأدب، لأنّني كنتُ مصمّم أن أكون قادراً على الإعتناء بزوجتي ولاحقاً أولادي، وألّا يقول أحد أنّ إمرأة تعولني.
وفور وصولي إلى الشركة، أبديتُ حماساً واضحاً، ميّزني عن باقي الموظّفين، فأصبحتُ بسرعة المفضّل عند مديري الذي طلب أن يراني. وعندما دخلتُ مكتبه قال:
- ها قد وصل!
نظرتُ حولي ورأيتُ مجموعة من الرجال يحدّقون بي، فإحّمر وجهي ولم أعد قادراً حتى على إلقاء التحيّة على أحد. لاحظ المدير إرباكي وتابع مبتسماً:
- لم أقل لكَ أنّنا لن نكون وحدنا لأفاجئكَ... عزيزي طارق... هؤلاء هم أعضاء مجلس الإدارة وأتوا خصّيصاً للتعرّف إليكَ، لأنّني كلّمتهم عنكَ وأرادوا أن يروا من يكون ذلك الموظّف المثالي...
- هذا لطفٌ منكَ سيّدي ولكنّني بدأتُ العمل منذ مدّة قصيرة جداً...
- وكانت تلك المدّة كافية لكي أقرّر أنّك الرجل المطلوب لمهمّة خاصة.
وشرح لي أنّهم بحاجة لمن يدير فرعاً جديداً للمؤسسة، يُعنى بأمور ماليّة من خلال تداول عمولات وأسهم وأضاف أنّ لا أحداً من المدراء الموجودين لديه الوقت للتفرّغ لهذا الفرع، فإرتأوا أن أقوم أنا بذلك. وشعرتُ بفخرٍ كبير لأنّني كنتُ الوحيد من بين زملائي الذي نال هكذا منصب بعد أشهر قليلة من بدء العمل. وقبلتُ المهمّة دون أيّ تردّد وقبل أن أترك مكتب المدير، قام أفراد مجلس الإدارة من مقاعدهم وهنّأوني بمصافحتي. بعد إنتهاء الدوام ركضتُ إلى البيت لأزفّ الخبر على زوجتي الحبيبة. صرخَت من الفرح وقبّلتني بقوّة وقالت لي:
- كنتُ أعلم أنّكَ رجل ناجح ولكنّكَ أذهلتني.
- لو رأيتني اليوم... كنتُ واقفاً أمام رجال أعمال كبار وكأنّني واحداً منهم... سترين... بعد أقلّ من سنة سأصبح مهمّاً جداً.
وبدأتُ إدراة الفرع الجديد بمساعدة مديري وعيّنتُ موظّفين لتأليف فريق عمل ناجح، لأنّني لم أكن أنوي أن أفشل، بل أن أثبت للجميع أنّ خيارهم لي كان صائباً. وبدأنا نهتمّ بأموال أناس أغنياء ونوظّفها إمّا بمشاريع أو شراء الذهب أو مواد أخرى. كنتُ سعيداً جداً لأنّ رأسمالنا كبرَ بسرعة وكسبنا ثقة موكّلين كثر وجاء يوم قال لي فيه مديري أنّه سيتوقّف عن التدخّل بالفرع الجديد، ليعود إلى أشغاله السابقة وأنّني لم أعد بحاجة إلى وجوده.
شكرتُه على الفرصة التي أعطاني إياها وأكدتُ له أنّني سأتابع العمل وكانه لا يزال معي. ومرّت الأيّام ثم السنة والسنة التي تلتها وأصبحتُ معروفاً بعالم الأعمال والأموال وبدتُ أدعى مع زوجتي إلى الحفلات الأنيقة والمناسبات الإجتماعيّة المهمّة. وأينما ذهبنا، كان الناس يستقبلوننا بحفاوة وكانت صورنا تظهر في جميع الصحف والمجلّات. وكانت ميساء قد دخلَت عالم لم تكن تعرفه وبعد فترة إستطاعت أن تتأقلم وأحبّت حياتها الجديدة، لدرجة أنّه أصبح لديها صديقات من الطبقة المخمليّة وهوايات عديدة، كالتنس وركوب الخيل.
كنتُ أظنّ أنّ حياتي ستستمرّ هكذا إلى الأبد وأنّني سأصبح يوماً فرداً من مجلس إدارة المؤسسة. ولكنّني كنتُ ما زلتُ شاباً مغروراً ولم أرى حقيقة ما كان يجري. ففي ذات يوم، جاء إلى العمل رجل يحمل بطاقة تعرّف عنه بأنّه مفتّش في وزارة الماليّة وأنّه يريد رؤية ملفّاتنا. وبعد أن تحقّقتُ من هويّته، أعطيته ما يريد وجلس مع أحد الموظّفين لمدّة أيّام عديدة حتى أنهى تفتيشة ثمّ شكرني ورحل. من بعدها إتّصلتُ بمديري وأخبرته بما حصل، فطمأنني قائلاً بأنّها أمور عادية تحدث غالباً عندما يرون مؤسّسة تزدهر بسرعة. طلب منّي ألا أخاف من شيء، لأنّ ملفّاتنا كلّها صحيحة ونصحني بمتابعة عملي كالمعتاد. وهكذا فعلتُ. وبعد أيّام كنتُ قد نسيتُ الأمر كليّاً، حتى وصل إلى المكتب فريق من رجال الشرطة وصرخوا بنا:
- توقّفوا عن العمل فوراً!!
ركضتُ لأرى ما الذي كان يجري وإذ بشرطيّ يسألني:
- هل أنتَ المدعوّ طارق س.؟
- نعم... أنا هو
- أنتَ موقوف بتهمة تبييض الأموال!
وإلتفَّ حولي عدّة رجال وأخذوني معهم إلى القسم ورأيتهم يحملون جميع الملفّات. صرختُ للموظف أن يتّصل بالمدير فوراً ليرسل لي محامٍ وخرجنا من المكتب. ووصلنا القسم هناك وأدخلوني إلى غرفة الإستجواب وجاء مفتّش وبدأ يسألني عن أعمالنا وزبائننا وأموالنا. لم أجب على أيّ سؤال بل إكتفيتُ بالمطالبة بالمحامي الذي كان على وشك أن يصل. ولكنّني إنتظرتُ مطوّلاً، لأنّه لم يأتي وكذلك مديري. وعندها طلبتُ أن أتّصل بزوجتي وقلتُ لها أن تطلب مديري شخصيّاً وترسله إلى القسم حيث أنا موقوف.
كادت أن تجنّ المسكينة عند سماع الخبر ولكنني طمأنتها بأن خطأ ما قد حصل وأن كل شيء سيعود كما كان. وحتى بعد أن إتّصلَت زوجتي به، لم يأتي مديري ولا أيّ أحد من المؤسسة وكأنّهم لا يعرفونني. عندها فهمتُ أنّهم تخلّوا عنّي. وحين عاود المفتّش طرح أسئلته عليّ، قررتُ أن أتعاون معه لكي لا يظنّ أحد أنّني متورط بأيّ فساد. ولكنّ الأمر كان أصعب من ذلك بكثير، فكلّ شيء كان يشير إليّ من إختيار الزبائن إلى التعامل بالملفّات وصولاً إلى نقل الأموال من حساب إلى آخر. والمسؤول الوحيد كان أنا ولكنّني لم أدرك ولو للحظة أنّني أساهم في عملية تبييض أموال أثرياء جنوا كل ما يملكون من تجارة المخدّرات وبيع السلاح في النزاعات حول العالم.
وجلستُ مبهوراً ومصدوماً لا أصدّق ما يحصل لي. ومن بعدها فهمتُ لماذا إختاروا شاباً من غير خبرة لإدارة كلّ هذه العملية الكبيرة، فإن نجحتُ كانوا المستفيدين وإن كشفَ أمري كنتُ سأدفع الثمن لوحدي، لأنّه لم يكن يوجد أيّ دليل لتورّطهم. وأخبرتُ المفتّش بكل ما أعلم به وأقسمتُ له أنّني بريء ولكنّه لم يصدّقني وأحالوني إلى المحاكمة بعد أن قضيتُ فترة في السجن. جاءت ميساء لتزورني في أوّل فترة ولكنّها فضّلت أن تبتعد عني، خوفاً من العار، خاصة أنّها لم تصدّق أنّ لا علاقة لي بأيّ شيء. ووجدتُ نفسي وحيداً وسط مساجين مخيفين أصلّي ليلاً نهاراً لكي يساعدني الله. وجاء الخلاص من المفتّش الذي وضعني وراء القضبان، لأنّه وجد دليلاً على براءتي ولكنّه كان يلزمه إثباتاً أقوى لتبرئتي. فخطرَت على باله خطّة تقضي بإعلان برائتي لكي يتّصل بي المدير أو أيّ فرد من مجلس إدارة الشركة وأن يقوم حينها بتسجيل إعتراف أحدهم. ولكنّني لم أحتاج لفعل كل ذلك، لأنّ أحد رؤوس الأموال القذرة وقع بين أيدي الشرطة ووشى بالمسؤولين الحقيقيين الذين بدورهم قاموا بالوشي على بعضهم، فوقعَت العصابة بأكملها. لا أدري إن كانت هناك أيّ طريقة لتفادي ما حصل وإن كنتُ مغروراً لدرجة أنّني لم أرى ما كان يُحاك، أمّ أنّ هؤلاء الناس ماكرين كفاية لخدع أيّ كان. وبعد خروجي من السجن ذهبتُ لميساء فقط لأخبرها أنّني بريء وليس لأطلب منها أن تعود، لأنّني إعتبرتُ أنّها تخلّت عني بسهولة وأنّها لم تثق بي كفاية.
حاورته بولا جهشان