هوية صديقتي السرية

منذ أن كنتُ صغيرة وأنا منطوية على نفسي وأجد صعوبة بالإختلاط مع الآخرين فلم يكن لديّ أصدقاء كثر. كبرتُ شبه وحيدة، ألعبُ لوحدي في غرفتي. كان لديّ أخ ولكنه كان أكبر مني وله أصدقاء ونشاطات خاصة به.
فعندما جاءت "أسما" ودَعَتني إلى الذهاب إلى الغداء، فرحتُ كثيراً. كنتُ أعمل في الشركة منذ سنين ولم يحاول أحد أن يصادقني، ربما بسبب إنعزالي. فزملائي ترجموا تصرّفي هذا وكأنّه تعالٍ عليهم وابتعدوا عنّي. وعندما جاءت "أسما" إلى الشركة إعتقدتُ أنها ستكون مثلهم.
تكلّمنا كثيراً خلال الغداء وعلمتُ أنها من منطقة بعيدة جداً عن العاصمة. تركتْ بلدتها وجاءت تعمل هنا ليصبح لها مستقبل. إستأجرت شقة صغيرة تعيش فيها مع قطّتها. أعجبتُ بشخصيّتها المستقلّة وحسدتها على إقدامها وأخذها كلّ تلك القرارات الجريئة. فكنّا جداً مختلفتين ولطالما كنتُ أخشى أن أبتعد ولو بضعة أمتار عن بيتي وأهلي.
مع الأيام أصبحنا قريبتين جداً. تمرّ بي بسيارتها لتأخذني إلى السينما أو إلى المطعم. فرح أهلي لكوني وجدتُ صديقة. وعندما تعرّفوا إليها أحبّوها كثيراً.

وفي ذات يوم، عندما كنّا على شاطئ البحر مرّت سيدة قربنا ونادتها : "سعاد"!
ولكن لم تجب عليها "أسما" قلتُ لها :
- لماذا تُناديكِ هذه السيدة بإسم آخر؟
- لستُ أدري. لا بدّ أنها اعتقدت أنني شخص آخر. تعالي نرحل، الشمس قوية جداً.
ورحلنا. لاحظتُ أنها بدت مهمومة ولكنني لم أقل لها شيء. ولكن سرعان ما استرجعت ضحكتها ونسيت الأمر كلياً.
ولكن رغم مرحها كان شيئاً يُقلقها فباتت مهمومة وبدأت تراقب الناس حولنا أينما نذهب وتُفضّل المكوث ببيتها : "تعالي أنتِ، لستُ بمزاج للخروج".
حاولتُ أن أجعلها تتكلّم عمّا كان يزعجها ولكن كلّ مرة كنتُ أصطدم بسكوتها.
وعندها قرّرتُ أن أدعها وشأنها، ربما كانت قد بدأت أن تملّ من رفقتي. ولكن كان يجب عليّ أن أبقى بجانبها في محنتها كما كانت. ربما فعلتُ ذلك لقلّة خبرتي في الصداقات وليس عن نيّة سيئة. أمّا هي، فاعتبرتها نوع من خيانة لها أو تخلّي متعمّد.
مرّت أشهر وأنا لا أراها إلاّ خلال العمل، كنّا نتبادل كلمات قليلة. كان من الواضح أنها لا تريد التكلّم معي بينما كانت هي تعتقد الشيء نفسه. حتى جاء يوم واختفت فجأة. إعتقدنا جميعاً أنها مريضة، ولكن طال غيابها وبدأت أخشى أن يكون قد حصل لها مكروهاً. حاولتُ الإتصال بها ولكن من دون جدوى. ذهبتُ إلى منزلها فقال لي الناطور انها غادرت شقّتها على عجلة وانه لا يعرف أين ذهبت.
عندها علمتُ أن "أسما" في مأزق. أن يترك المرء كل شيء فجأة وأن يختفي بين ليلة وأخرى يعني أن شيئاً خطيراً قد حدث. لُمْتُ نفسي كثيراً لأنني أدرتُ لها ظهري ولو عن غير قصد. لو كنتُ بقيتُ صديقتها لكنتُ استطعتُ أن أساعدها أو أن استمع لها على الأقل.

في نفس الليلة قرع أحداً بابنا. كانت الساعة متأخرة وخفنا جميعاً أن يكون قد حصل مكروهاً لأحد أفراد العائلة. فتح أبي الباب. "أسما" كانت واقفة ومعها حقيبة بيدها. ركضتُ وأدخلتُها. كانت حالتها مزرية.
- أنا آسفة، ولكن لم أجد مكاناً أذهبُ إليه. هل أستطيع المكوث عندكم لليلة أو إثنتين؟
قالت لها أمّي :
- طبعاً حبيبتي. ستنامين في غرفة صديقتك. البيت بيتك.
لم أسألها أي سؤال. أحضرتُ لها شراشف نظيفة ومنشفة. نامت نوماً عميقاً.
عند الصباح عندما استفاقت قالت لي :
- أنا آسفة... كان يجدر بي أن أُخبركِ بكل شيء منذ البداية.
- لا تأسفي على شيء. أنتِ هنا الآن وهذا هو المهمّ. هل أنتِ بحاجة إلى أي شيء؟ أطلبي ما تشائين. لن أذهب إلى العمل اليوم. سأتّصل بالمكتب وأقول أني مريضة.
وهكذا فعلت. بقيت معها اليوم بكامله. في المساء قرّرت "أسما" أن تُخبرني بكلّ شيء :
- إسمي "سعاد" وليس "أسما". عندما رأتني تلك المرأة على شاطئ البحر ونادتني بإسمي الحقيقي علمتُ أنها ستخبره بأنها رأتني وسيجدني.
- من هو الذي سيجدك؟
- زوجي، او بالأحرى زوجي السابق. كان إنساناً متوحشاً، يضربني ويُهينني كلّما استطاع. فقرّرتُ أن أطلّقه وحصلتُ على طلاقي بسهولة. ولكنّه وعدني بأن يجدني ويقتلني. فقرّرتُ الهروب وتركتُ منزلي وأهلي وأصدقائي وجئتُ إلى هنا. لا أدري ماذا أفعل الآن. إلى أين أذهب. لا أستطيع أن أمضي حياتي أعيش بالخوف وعدم الإستقرار.
- أنا أعلم ما الذي يجب أن تفعليه. صديق أبي ضابط بالشرطة. سنذهب إليه غداً وسيجد لنا الحلّ المناسب.
وفي اليوم التالي ذهبتُ مع "سعاد" إلى مركز الشرطة وأخبرناه بكل شيء. قال لنا :
- ما فعله هذا الرجل وما يريد فعله منافياً للقانون وبإستطاعتنا إيقافه بسهولة. ولكن عليه أن يفعل شيء لكي نطاله. التهديد وحده لا يكفي.
- ما العمل اذن؟
- سننصب له كميناً ولكن يجب أن تساعدينا.
خطّة الشرطة كانت أن تكون "سعاد" بمثابة "طُعْم" ليقبضوا على زوجها السابق. خافت جداً من أن تتعرّض للأذى ولكن طمأنها الضابط :
- لا تخافي سيّدتي، فنحن نعلم ماذا نفعل، لن نُخاطر بحياتك أبداً. سنكون موجودون نراقب كلّ شيء. أنتِ افعلي فقط ما سأقوله لكِ ودعي الباقي لنا.
كان على "سعاد" أن تذهب عدّة مرّات إلى جوار منزل "عدنان" زوجها السابق وتجعل الناس يرونها. فلا بدّ أن يخبره أحد بأنّها جاءت إلى هناك. فمن أوّل أو ثاني مرّة سينتظرها حتماً ويتبعها إلى منزلها. فكونها ذهبت إلى وكره بوقاحة بعد ما طلّقته سيغضب منها ويعتبر الأمر إهانة له وسيحاول الإنتقام منها ويُنفّذ وعده لها. وطبعاً ستكون الشرطة موجودة منذ البداية بواسطة عناصر متخفّية بلباس مدنيّ.

قرّرتُ أن أرافقها لأنها لم تكن مطمئنة أبداً. فذهبنا سوياً إلى حيّ "عدنان" وتمشّينا هناك لوقت طويل ندخل المحلاّت واحداً تلو الآخر لنتأكّد من ان الناس قد رأونا فعلاً. كان "سعاد ترتجف من الخوف وتلتفت وراءها كل دقيقة. فقلت لها :
- لا تفعلي هذا! تصرّفي طبيعياً، لا نريده أن يشكّ بأي شيء.
ثمّ دخلنا محلاً يتردّد عليه "عدنان" وطلبنا شيئاً لم يكن متوفّراً. وقلنا للبائع اننا سنعود بعد يومين عالمين أنه سيقول لعدنان أننا جئنا وأننا عائدتين قريباً وهذا لتأكيد نجاح الخطة.
ثم عدنا إلى بيتي. فلن تذهب "سعاد" إلى بيتها إلاّ بعد يومين حين يلحق بها زوجها السابق.
وفي المساء، عندما كنا سنخلد للنوم قالت لي صديقتي:
- لا أدري كيف اشكرك... فلولاكِ لا أدري ما كنتُ سأفعله. على الأرجح كنتُ سأقضي حياتي وأنا أتنقّل من مكان إلى آخر دون أن أذوق طعم الراحة. يا لحظّي... وقعتُ على إنسان متوحش ومتخلّف وها أنا أدفع ثمن زواجي منه. يا ليتني كنتُ أعلم... ولكن في البداية كان لطيفاً معي ومحبّ. عندما تزوّجنا تغيّر فجأة ورأيتُ وجهه الحقيقي. يا لحظّي!
- لا تلومي نفسك يا عزيزتي، فالذنب ليس ذنبكِ، على الأقل وجدتِ الشجاعة الكافية لتمنعيه من إيذائك مجدداً. لا يجدر أن يُهان أحد لا جسدياً ولا معنوياً.
- هل تعتقدين أنه سيقع بالفخ؟
- أجل، فالشرطة تعلم ماذا تفعل
- أنا خائفة... ماذا لو قتلني؟
- لن يمسّ شعرة منكِ، كوني على ثقة بأنّ كلّ شيء سيجري على خير.
ونمنا تلك الليلة وعلى وجهنا بسمة الراحة والإطمئنان ولكنني رأيتُ كابوساً في منامي حيث جاء "عدنان" إلى بيتي وقتلها وهي نائمة بجنبي. حاولتُ أن أصرخ ولكن لم أستطع التفوّه بصوت واحد. إستيقظتُ فجأة ونظرتُ فوراً إلى جانبي ورأيتُ "سعاد" غارقة بنوم عميق. فقلتُ لنفسي : يا ربّي، نجّينا من شرّ هذا الرجل.

جاء موعد ذهابنا إلى حيّ "عدنان". الشرطة كانت موجودة هناك منذ الصباح بلباس مدنيّ تراقب أيّ تحرّك. مشينا أنا و"سعاد" في الحيّ وكأنّ شيئاً لم يكن، ثم دخلنا إلى ذاك المحل وابتعنا ما أوصيناه به. ثم خرجنا وتوجّهت "سعاد" إلى بيتها وأنا إلى بيتي كما أوصتنا الشرطة. قبل أن نفترق عانقتني "سعاد" ونظرت إليّ بخوف. قلتُ لها :
- لن يحصل لكِ شيء، إطمئني حبيبتي.
وصلت "سعاد" إلى بيتها وأغلقت الباب وراءها دون أن تقفله وذهبت إلى غرفتها لتبدّل ثيابها، ثم عادت إلى المطبخ وحضرّت عشاءها. جلست أمام التلفاز تأكل أو بالأحرى تدّعي أنها تأكل لأنها كانت مهمومة جداً وخائفة. بعد دقائق قليلة سمعتْ باب الشقة يُفتح بهدوء. بقيت مكانها ترتجف. ثم رأت "عدنان" واقف أمامها :
- هل اعتقدتِ أنكِ ستفلتين مني بسهولة؟ كم أنتِ غبيّة لتأتي إلى حيّ في وضح النهار! لطالما كنتِ ساذجة. ولقد استحقيتِ كل لكمة أعطيتك إياها. ولكن الظاهر أن الضرب لم ينفع معكِ. سأقضي عليكِ الليلة. هذا سيكون عقابكِ لأنكِ تجرأتِ على تركي. ما من أحد يُهينني هكذا!
وهاجمها ليقتلها ولكن شرطي خرج فجأة من غرفة النوم وأرداه أرضاً. وفي نفس اللحظة دخل عناصر شرطة من باب الشقة وكبّلوا "عدنان" وقالوا لي أنه موقوف بتهمة محاولة اغتيال ودخول شقة واعتداء.
نظرت "سعاد" إليه وهي تبتسم وقالت له :
- أرأيتِ مَن الغبي الآن؟ إذا كنتَ أقوى مني جسدياً هذا لا يعني أنك أذكى مني. ستقضي وقتاً طويلاً في السجن يا عزيزي. وأنصحك أن تتعقّل خلال هذه المدة لأنك إذا حاولت إيجادي مجدداً سترجع إلى الزنزانة. وداعاً الآن!

 

حاورتها "بولا جهشان"

المزيد
back to top button