لدى بعض الأشخاص موهبة إيذاء الآخرين. هكذا هي دلال، أمي. فعندما قابل والدي جورج، دلال في منزل أحد أصدقائه، وقع في غرامها، إلى حدّ أنّه أراد أن يتزوج بها حالاً. حاولت والدته ردعه، فقد كانت تلك الفتاة أكبر منه بـ5 سنوات، وكان صيتها السيّئ كـ"خرّابة بيوت" يسبقها. ولكن من دون جدوى! كان مجنوناً بحبّها، فاستسلمت جدتي.
من المؤكد أنّ يوم زواجهما كان اليوم الوحيد الذي تذوّقا فيه طعم السعادة. سرعان ما جعلت أمّي من حياة والدي جحيماً: كانت رغباتها تزداد، ولم يتمكّن والدي، براتبه المتواضع، من تلبية ذوقها المترف. حتى لو قام بالمستحيل من أجلها! وافق على أن يعمل في المساء ليتمكن من دفع ثمن فساتينها ومجوهراتها. كانت جميلة، وجذابة، وتتقن التعامل مع الرجال. قبل أن يخرجا معاً، كانت تجلس أمام المرآة لتضع الماكياج. كان بإمكانها أن تمضي ساعات طويلة تضع "الكريمات" وتمشّط شعرها الطويل الأسود، قبل أن تلفّ جسمها الذي لا تشوبه علّة، بثيابٍ أنيقة. لم تكن لديّ الفرصة لمشاهدة هذا الطقس، فلم أكن قد ولدت بعد، لكنهم لا يزالون يتحدّثون عنه... دلال كانت رائعة الجمال، وتدرك ذلك جيّداً.
رزقت من جورج بفتاتين، لكنها لم تهتمّ بهما قط. كانت مشغولة بنفسها. جدتي وعمّاتي كنّ يبدّلن الحفاضات، ويحضّرن الحليب، وينظّفن المنزل، ويحضّرن الطعام. أمّا دلال، فكلّ ما كانت تقوم به هو النوم، والتزيّن للخروج.
حتى اليوم الذي خرجت فيه ولم تعد...
قلق الجميع وبحثوا في المستشفيات قبل أن يعوا الواقع: لقد رحلت. ليست وحدها. هربت مع عامل كان يتردّد على ورشة قرب المنزل. كانا يلتقيان خلال الفترة الأخيرة. بحثوا عنهما في كلّ مكان، من دون جدوى. مرّت سنتان. كان والدي قد أصبح شبه ميت: بالكاد كان يأكل، ويمضي نهاره حزيناً، وعيناه دامعتان. في الليل، كانوا يسمعونه ينادي اسمها. كانت دلال كلّ شيء بالنسبة إليه. حتى إنّه لم يحقد عليها لأنّها هجرته ورحلت مع آخر...
وفي أحد الأيّام، صادفها أصدقاء في بلدٍ مجاور. لم يعرفوها مباشرةً وهي جالسة على الأرض، تعمل في السجادات. عندما وجّهوا لها الكلام، طلبت منهم الرحيل.
بطلب من والدي، ذهبت عمّاتي لرؤيتها، آملات أن تعود معهن إلى المنزل.
دلال الجميلة كانت شبه متشرّدة، بوجهها المتّسخ وشعرها المنكّش. جالسة على الرصيف، سجادة ممدودة أمامها، وطفلة إلى جانبها... رفعت عينيها نحوهنّ عند وصولهنّ:
- ماذا تردن؟ أنا مشغولة.
- جئنا نعيدك إلى المنزل، أجابتها عمّتي الكبيرة.
- هنا منزلي.
- ولكن انظري إليّ، كنت تعيشين كالملكة، ولم تحتاجي إلى شيء! جورج يريدك أن تعودي، وهو مستعدّ لمسامحتك.
- مسامحتي؟ عليه أن يكون شاكراً لكوني بقيت معه طوال هذه المدّة. أفضّل حياتي كما هي الآن على حياتي معه.
وعاودت عملها. عندما بدأت طفلتها تبكي، قالت لهن:
- يمكنكن أن تأخذنها. إنها تزعجني.
لم تصدّق عمّاتي ما يسمعن!
- ليست طفلة جورج. هي من "الآخر". لا أعرف أين هو ولا آبه. إذا أردتن الإحسان، خذنها.
تلك الطفلة هي أنا. لم أكن ابنة أخيهن! ولعلّهن أخذنني بدافع الشفقة، كي لا أعاني من البؤس، ولإبعادي عن والدتي القاسية، وإعطاء جورج جزءاً من دلال... كي لا يعدن فارغات الأيدي.
عند وصولي، كما قيل لي، حملني جورج وضمّني إلى صدره، وأمضى ليالي طويلة ينظر إليّ وأنا نائمة، وهو يبكي.
كبرت وأنا أناديه "أبي". لطالما ظننت أنني ابنته. استقبلتني شقيقتاي كدمية واعتنتا جيّداً بي. ثم تزوّج والدي مرّةً أخرى امرأة محبّة أنسته دلال وربّتنا كبناتها...
عندما قرّرت الزواج، فكّرت بأمي. مخطوبة، كنت أرغب في عقد سلام مع المرأة التي هجرتني لأنني كنت أسبّب الضجّة. بعد مضيّ 25 عاماً، بحثت عنها. هذه المرّة، لم تكن في الشارع. تزوّجت رجلاً ميسوراً وهي تعيش في كندا. اتّصلت بها. كان حديثنا رسميّاً. دعوتها إلى حفل زفافي. لم تأت. ارتاح الجميع.
بعد مضيّ عامين، تلقّيت رسالة تقول لي فيها إنّها ستقوم بزيارةٍ للبلاد وإنها ترغب في رؤيتي. لم أنقل الخبر سوى لزوجي. لم تكن لدي أيّ ذكريات عنها، سوى بعض الصوَر. تخيّلت عدّة سيناريوهات كنا نتعانق فيها، سعيدتين بالتلاقي أخيراً. جهّزت غرفة الضيوف. زرت مصفّف الشعر وارتديت أجمل أثوابي. أردتها أن تكون فخورة بي...
وصلت في "التاكسي"... لم تبقَ سوى ساعة. قبّلتني على خدّي، كأيّ شخص. حاولت التقاط أيّ تأثّر، وقراءة أيّ علامة في عينيها. لا شيء. بعد بضع جمل مهذّبة، تطرّقت إلى سبب زيارتها الحقيقي: هجرت زوجها وكانت بحاجة لمساعدتي، ومساعدة والدي، لمَ لا. لم أصدّق ذلك! لم يكن لديها أيّ أسف، أيّ ذرّة أخلاق، وقد أتت تطلب المال من ابنةٍ هجرتها ودمّرت لها حياتها بالمال!
- اخرجي من هنا واختفي للأبد. لا أريد أن أراك بعد اليوم. لا تحاولي الاتصال بي، ولا بوالدي. أنت شرّيرة.
غادرت، ولم أرَها ثانيةً. اليوم، أصبحت أمّاً بدوري. عندما أضمّ أولادي، أحلف أنني سأبقى دوماً إلى جانبهم...
أصبحت هذه القصة من الماضي. ولكن كلّ يوم، أشكر ربّي لأنه خلّصني من هذه المرأة الشريرة التي كانت أمّي.
حاورتها بولا جهشان