الآن وقد مات رأفت، أستطيع إخبار العالم كلّه بحقيقة ما جرى بيننا، وغسل سمعتي مِن كل الشائعات التي إختلقها الناس بشأني، فقط لأنّني لم أستطع إعطاء تفسيراً مقنعاً للأحداث.
كل شيء بدأ مِنذ سنين طويلة، عندما كنتُ فتاة جميلة، تربيّتُ في خوف الله وإحترام القيَم والتقاليد وسط عائلة متواضعة ولكن مكتفئة. وعندما تقدّم لي رأفت مبديّاً رغبته بالزواج مِنّي، رأى والدي أنّه الرجل المناسب، لأنّه مثقّف وثري تغاضياً عن فرق العمر الكبير بيننا. قبوله هذا، كان مِن دافع المحبّة ورغبته بتأمين حياة مريحة لي. وبعد أن أُعلنت الخطوبة، بدأنا نخرج سويّاً وتعرّفتُ على حياة الرفاهيّة التي لم أكن أراها سوى في الأفلام. وبالطبع أُبهرتُ بهذا الكمّ مِن المال وشكرتُ ربّي على هديّته لي.
كان رأفت محبّاً وحنوناً، يهتمّ بي وكأنّني أميرة وكان ملهوفاً للزواج مِنّي والعيش معي تحت سقف واحد، فعندها أقمنا حفلة الزفاف وركبنا على متن الطائرة التي أقلّتنا إلى باريس، كنتُ أسعد إنسانة على وجه الأرض. وبعد وصولنا إلى العاصمة الفرنسيّة، نزلنا في فندق عريق وهناك تحضرّتُ لقضاء ليلة زفافي.
ولكنّ زوجي خرج مِن الغرفة قائلاً أنّه سيعود بعد قليل. وإنتظرتُه ساعتين كامليتين وعندما رجعَ مارس الحب معي بشغف. وعندما سألتُه أين كان قال لي:
- حبيبتي... هناك شيء واحد سأطلبه مِنكِ: لا تسأليني أين كنتُ وماذا فعلتُ الآن أو في أيّ يوم آخر... عندما أريد مشاركتكِ خصوصيّاتي سأفعل دون أن تطلبي ذلك... هل فهمتِ ما قلتُه لكِ الآن؟
- أجل... فهمتُ.
ولا أخفي أنّني لم أكن سعيدة بما قاله لي زوجي في ليلة زفافنا ولكنّني نسيتُ كل شيء في اليوم التالي عندما أخذَني إلى السوق وإبتاع لي أجمل ما في باريس. وعدنا إلى الوطن وإلى مِنزله الجميل وبدأنا مشوارنا الزوجي الذي لم يكن أبداً كما تصورّته. فكان رأفت يتغيّب كثيراً عن البيت بسبب أعماله وبسبب أشياء أخرى لم أعرفها سوى لاحقاً وبدأتُ أشعر بالملل والوحدة. صحيح أنّ عائلتي كانت تزورني بإستمرار ولكنّني كنتُ أقضي معظم الليالي لوحدي. وعندما كان يعود زوجي مِن إنشغالاته، كان يأتي إلى الفراش ويعاشرني دون مقدّمة. ومع الوقت أصبحتُ أكره طريقته في الجنس الخالية مِن أيّ شعور أو إعتبار لحاجاتي والتي كانت مخصّصة فقط للذّته الشخصيّة. وبدأتُ أخترع الأعذار لمنعه مِن لمسي ولكن دون جدوى، فعندما كان يريدني لم يكن يردعه شيئاً. ومرّت سنة على هذا النحو وأصابَتني الكآبة حتى أنّني سألتُه في ذاك مرّة إن كان يحبّني فأجاب:
- طبعاً يا حبيبي... يا للسؤال الغريب... هل لديكِ شكوك بهذا الخصوص؟
- أحياناً اشعر أنّني جزء مِن ديكور هذا المنزل الجميل
- هذا ليس صحيحاً... أنتِ تعلمين أنّ لديّ أعمال مهمّة عليّ القيام بها... وهذا المنزل الجميل كما أسمَيتيه هو نتيجة إجتهادي الدائم... هل هناك أشياء تنقصكِ؟ أعطيكِ كل ما تتمنّاه المرأة.
- وأنا أشكركَ على ذلكَ ولكن... لا أشعر بحنانكَ... وتتغيّب عنّي بإستمرار... وأحياناً أسأل نفسي إن كنتَ فعلاً في المكتب أو...
- إعتقدتُ أنّكِ فهمتِ ما قلته لكِ سابقاً... لا أريد أسئلة عن تحرّكاتي... سأغضب مِنكِ الآن!
- لا... لا تغضب... لن أسأل بعد الآن.
وبالرغم مِن وعدي له، كان قد أثار فضولي بإصراره على كتمان تحرّكاته وقرّرتُ أن أعلم بطريقة أو بأخرى أين وكيف يقضي زوجي وقته، معتبرة أنّ هذا مِن حقّي ولو كنتُ أنا التي تتغيّب لكان فعلَ المستحيل ليكشف سرّي. لذا طلبتُ مِن أخي الصغير أن يراقب رأفَت دون أن ينتبه هذا الأخير لشيء. وأخذ أخي يلحق به وينتظره ساعات قرب المكتب حتى أن جاء بعد بضعة أيّام ليعطيني تقريره. وما أخبرَني إيّاه كان مخيفاً لدرجة أنّني نعتُّ شقيقي بالكذّاب. وهذا ما أطلَعني عليه:
- فعلتُ كما طلبتِ مِنّي ولديّ أخباراً غير سارة يا أختي العزيزة... يذهب زوجكِ إلى عمله كل يوم مِن التاسعة صباحاً حتى الخامسة بعد الظهر...
- فقط؟ يعود إلى المِنزل في أنصاف الليالي... ماذا يفعل بكل هذا الوقت؟
- يذهب إلى ملهى ليلي... دخلتُ إلى هناك خلفه...
- وماذا رأيتَ؟
- يجلس دائماً إلى الطاولة نفسها برفقة أشخاص يزوّدونه بالكوكاين ومِن ثمّ تأتي فتيات وتجلسنَ معهم وبعد حوالي الساعة يأخذ إحداهنّ إلى غرفة خلف الصالة ويغيبان لفترة ثمّ يعودان لإحتساء المشروب وتناول العشاء. ومِن بعدها يودّع رفاقه ويعود إليكِ.
لو لم أشكّ بزوجي لرميتُ أخي خارجاً. إكتفيتُ بتكذيبه ولكنّه أقسمَ لي بأنّه يقول الحقيقة وعرضَ عليّ إصطحابي إلى المكان الذي تجري به كل هذه الرذائل ولكنّني رفضتُ عرضه، لأنّني لن أتحمّل رؤية زوجي يتعاطى المخدّرات ويمارس الجنس مع نساء غيري. وبعد أن غادرَ شقيقي، ذهبتُ أمشي خارجاً وأراجع في ذهني كل ما علمتُ به. ولم يبقَ لي سوى إتّخاذ قراراً مِن إثنين: إمّا السكوت والإدعاء بأنّه لا يحصل شيئاً وإمّا مواجهة رأفت والإصطدام معه. وبما أنّنا كنّا لم نرزق بطفل بعد، رأيتُ أنّه مِن الأفضل أن أتركُه وأرحل لأنّني لم أكن مستعدّة للعيش مع إنسان لا يحبّ سوى لذّاته ويتجاهل حاجات غيره فقط لأنّه ثري. ولكنّني حتى تلك اللحظة كنتُ أجهل أنّه يتمتّع أيضاً بنفوذ كبير وأنّه لن يتردّد بإستعماله ضدّ أحد عند الحاجة. فعندما عاد مِن حيث كان، طلبتُ مِنه أن نتكلّم. حاول تأجيل الموضوع ولكنّني أصريّتُ على الحديث. فقلتُ له:
- أعلم ما تفعله بعد العمل.
سكتَ مطوّلاً ثمّ قال:
- حسناً... ولكنّني طلبتُ مِنكِ عدم التدخّل بحياتي الخاصة.
- عندما يتزوّج المرء لا تعود لديه حياة خاصة، بل تصبح مشتركة ولو لم تكن تصرّفاتكَ مشينة لما كنتَ أخفيتَها عنّي.
- قد تكونين على حق ولكن هذه حياتي وأنا أريدها هكذا.
- وأنا لا أريد أن أعيش بهذه الطريقة.
- ماذا تقترحين؟
- أريد الطلاق.
أخذَ رأفت نفَساً عميقاً ثمّ قال:
- إسمعي... وإسمعي جيّداً... أنا رجل معروف في أوساط عديدة ومهمّة ولا أقبل أن يشوّه أحد سمعتي، فهذا قد يؤثّر على أعمالي... سأعطيكِ الطلاق ولكن لديّ شروط... قاسية.
- ماذا تعني؟
- سأجعلكِ توقّعين مستنداً يحفظ سريّة أسباب طلاقنا، أي أنّكِ لن تستطيعي إخبار أحد بما تعرفينه عن حياتي الشخصيّة وإلّا أُجبرتِ على دفع مبلغاً كبيراً مِن المال لا تملكينه ولن تملكينه بحياتكِ... هذا مِن الناحية القانونيّة... أمّا مِن ناحية أخرى أقل قانونيّة مِن الأولى، فسأجعل مِن حياتكِ جحيماً بكل معنى الكلمة في حال تفوّهتِ بكلمة واحدة لأيّ أحد... ولن أكتفي بذلك، بل سأخرّب حياة كل مَن يهمّكِ أمره أي أفراد عائلتكِ وأصدقائكِ... وإن كنتِ غير قادرة على حفظ لسانكِ فمِن الأفضل أن تبقي زوجتي وتقبلي بالحياة كما هي.
وبعد أن سمعتُ كل هذه التهديدات، تأكّدتُ أنّ ذلك الرجل مليء بالأذى وأنّني لا أستطيع العيش معه يوماً إضافيّاً. فإخترتُ الطلاق. وفي اليوم التالي دُعيتُ إلى مكتب محاميه وهناك أعطيتُ أوراقاً لأوقّع عليها. لم أرَ رأفت في ذلك النهار ولا في يوم آخر. وعدتُ لأعيش في منزل أهلي وأطلعتُ أخي الصغير على ضرورة كتمان ما علِمَ به وإلّا تأذّينا جميعاً. وعندما سألوني في البيت عن سبب طلاقي لم أكن قادرة على الإجابة خوفاً مِن أن أجلب عليهم الويلات ومِن أن أدفع مبلغاً هائلاً مِن المال. وموقفي هذا جلبَ عليّ غضب عائلتي وأقاويل الناس المؤذيّة لشخصي وسمعتي. فالناس أطلقَت العنان لمخيّلتها ولم يعد هناك حدود للإفتراضات حول طلاقي مِن رجل ناجح وثري. وباتَت الحياة لا تطاق، ففضّلتُ الرحيل عنهم جميعاً.
وبعد بحث دام أشهر، وجدتُ أخيراً عملاً في منزل كمربيّة بعيداً عن بلدتي. وبعد فترة قرّرَت تلك العائلة السفَر إلى الخارج وأخذَتني معها وتركتُ بلدي دون أن أنظر خلفي. ومرَّت السنوات دون أن يسأل عنّي أحد وكأنّهم إرتاحوا مِن العار الذي جلبتُه إليهم ولكنّني بقيتُ أتابع أخبارهم عبر الإنترنيت. وحده أخي الصغير بقيَ يسأل عنّي ويتوسّل إليّ في كل مرّة أن أدعه يبرّر موقفي ولكنّني لم أقبل معه. وبعد سنين مِن الغربة الصعبة، علمتُ أنّ رأفت توفيَ مِن جرّاء نوبة قلبيّة يعود سببها على الأرجح لتناوله المخدّرات وحان الوقت لأعود وأخبر مَن تبقّى مِن عائلتي بالذي جرى فعليّاً.
كان قد مات أبي خلال غربتي دون أن يتسنّى لي تهدئة باله وغسل العار الذي جلبتُه له دون قصد. أمّا أمّي فلا أدري إن كانت ما زالت تحبّني ولو قليلاً وأملتُ مِن كل قلبي أن تصدّقني وأقضي معها ما تبقّى مِن حياتها. أنا الآن أوضّب حقيبتي وقلبي مليئاً بالفرح والخوف ولن أعرف ما الذي ينتظرني قبل أن تحطّ طائرتي على أرض بلدي الذي حُرمتُ مِنه.
حاورتها بولا جهشان