مُصيبة ولا كلّ المصائب! (الجزء الأول)
بقيَت شذى ترفضُ الذهاب إلى العمَل، وبقيتُ أتعَب على مدار الساعة لتأمين ما يلزَم لِعائلتي الجديدة. الفرق الوحيد هو أنّ زوجتي صارَت تتعاطى المُخدّرات أمامي، لكن دائمًا في غياب ابنها، واحتَرتُ في أمري. فكنتُ آملُ أن أستطيع تغيير عادات تلك المرأة التي أحبَبتُها يومًا مِن كلّ قلبي، ألا يُقال إنّ الحبّ يصنَع المُعجزات؟ وبانتظار أن تستوعِب شذى أنّ ما تفعله ليس صائبًا، ركّزتُ على الأمر الوحيد الذي لَم يتغيّر وهو حبّي لولَدِها وحبّه لي. فكنتُ بمثابة مثَل أعلى له، وأخذتُ القرار بعدَم تشويه صورتي أمامه مهما كلّفَ الأمر، حتّى لو عنى ذلك تحمّل تجاوزات أمّه.
مِن جانبه، بقيَ سامِر يسأل عن ابنه مِن خلالي، وأنا أطلَعتُه على حالته الصحّيّة والنفسيّة وعلاماته في المدرسة. كنتُ قد أخبرتُه عن إيجادي لمُخدّرات شذى، وكيف كانت ردّة فعلها حين واجهتُها، فابتسَمَ قائلًا:
ـ لَم أتفاجأ كثيرًا، فهكذا هي، تفعل ما تُريدُ، حتّى لو عنى ذلك أذيّة غيرها. أرجو فقط ألّا يتأثّر صغيري بها، بل يبقى مُتعلِّقًا بكَ ويسمَع منكَ. فأنتَ رجُل صالِح يا أخي، ولطالما كنتَ أفضَل منّي.
ـ لستُ بصالح كما تعتقِد... فلقد تسبَّبتُ لكَ بالـ...
ـ بالسجن، أعلَم ذلك.
ـ كيف علِمتَ؟!؟
ـ مِن طريقة وسرعة القبض عليّ... لا عليكَ يا أخي، فأنا أستحِقّ ما يحصلُ لي. أرجو فقط أن أكون قد شفيتُ تمامًا مِن إدماني حين أخرجُ مِن هنا.
ـ أرجو ذلك أيضًا.
- هناكَ رجُل دين يأتي لزيارة السجناء، وأقضي معه بعض الوقت في كلّ مرّة... أظنُّ أنّني على الطريق الصحيح، إدعِ لي يا أخي.
ـ يا ربّ!
حديثي مع أخي أراحَ بالي كثيرًا وخفَّفَ عنّي شعوري بالذنب، الأمر الذي ساعدَني على إكمال حياتي مع شذى، فكان حبّي لها قد تأثَّرَ فعليًّا ولَم أعُد مولَعًا بها كالسابق. لكنّني أقنَعتُ نفسي بأنّني قد أستعيد قريبًا مشاعري القويّة تجاهها.
وفي تلك الأثناء حاوَلتُ التركيز على "إبني" حتى أُحَضِّره للوقوف في وجه المُغريّات كالممنوعات، فمَن يدري، ربّما هو رأى أمّه في أحَد الأيّام وهي تتعاطها. لكن بسبب انشغالي بعمَلي، لَم يكن لدَيّ الوقت الكافي لذلك، وتمنَّيتُ لو أستطيع إرساله إلى جدَّيه والدَي زوجتي. فالمُشكلة أنّهما لَم يَظهرا في الصورة منذ سنوات طويلة، وتساءَلتُ فجأة لماذا. فالغريب في الأمر أنّني لَم أُفكِّر على الإطلاق بهذَين الجدَّين وكأنّهما لَم يكونا موجودَين أبدًا، ربّما لأنّ شذى لا تتكلّم عنهما أو تروي قصّة عن ذكريات لها معهما. لكنّني أتذكّرُهما قليلًا مِن الفترة التي كنتُ مولَعًا بها آنذاك، وهي اختارَت سامِر عليّ... وأتذكّر أنّ لها أختًا أيضًا! يا إلهي، كيف لي أن أنسى تلك التفاصيل المُهمّة؟!؟
رحتُ أزورُ أخي في السجن لأسأله عن عائلة شذى، وهو قالَ لي:
ـ لَم أسمَع مِن هؤلاء القوم منذ حفل زفافي وابنتهم، وللحقيقة كنتُ مشغولًا بإدماني، فشكرتُ ربّي أنّهما لَم يتدخّلا بي، فنسيتُهما.
ـ لدى شذى أخت، أليس كذلك؟
ـ أجل، وسمعتُ مِن فترة طويلة أنّها تزوّجَت وتغرَّبَت، وهي تعيشُ في الولايات المُتحّدة.
ـ هل لدَيكَ عنوان والدَيّ شذى ورقم هاتفهما؟
ـ ماذا تُريدُ منهما؟
ـ يحقّ لابنكَ أن يتعرَّف عليهما، إن كانا مُحترمَين طبعًا ولا يُشجِّعا إدمان ابنتهما أو يتغاضان عنه كما فعَلَ أهلنا معكَ.
أخذتُ رقم والِد شذى واتّفقتُ معه على موعد لأزورَه. تفاجأتُ بجمال البيت وكبره، وسألتُ نفسي كيف له وزوجته أن يتركا ابنتهما تعيشُ في القِلّة. وبعد أن شرَحتُ للرجُل مَن أكون، تذكّرَني لكن ليس بصورة واضِحة، فأكملتُ حديثي عن سامِر وشذى وابنهما. ورأيتُ الدموع تملأ عَينَيّ الأب ليقولَ لي:
ـ تعِبنا كثيرًا مع ابنتنا، الأمر الذي أدّى إلى تلَف أعصاب أمّها التي تُعاني يوميًّا مِن الموضوع... فلطالما كانت شذى صبيّة تهوى المُغامرة ولا تسَعُها الدنيا. أرَدنا لها مُستقبلًا جميلًا وحياة مُريحة كحياتها معنا هنا، لكنّها فضّلَت مُعاشرة صبايا وشبّان جامِحين. للحقيقة، أنا رجُل مُقتدِر ولدَيّ شركة تجاريّة كبيرة وناجِحة وأرَدتُ أن تُكمِل احدى ابنتايَ مسيرَتي، إلّا أنّ الكبرى سافرَت والصغرى أضاعَت حياتها، يا للأسف.
ـ هل تعلَم أنّ شذى تتعاطى الممنوعات؟
ـ علِمتُ بالأمر حين كان قد فاتَ الأوان، لكنّنا حاوَلنا كثيرًا مع ابنتنا مِن دون نتيجة.
ـ لكنّها تُعاني مِن مشاكل مادّيّة، خاصّة مع إدمان أخي الذي تعلَّمَ منها التعاطي ومِن ثمّ دخَلَ السجن.
ـ نحن لَم نتوقَّف عن مدّها بالمال يومًا، فحتّى الآن هي تتقاضى مبلغًا شهريًّا.
ـ ماذا؟!؟ فلقد صرَفتُ عليها وابنها لسنوات طويلة، لأنّها لَم تكن تملك ثمَن الفواتير أو قسط المدرسة أو حتّى الطعام!
ـ إبنتنا مُحتالة وكاذِبة... وأرى أنّها استفادَت منكَ كما إستفادَت منّا ومِن الجميع. في الواقع، هي تُهدِّدنا بابنها وتعِدُنا بحرماننا منه إن لَم ندفَع... وفي كلّ مرّة نطلبُ رؤيته، هي تطلبُ المزيد والمزيد مِن دون أن تفي بوعدها لنا.
ـ أعذرني سيّدي، لكنّني بحاجة إلى دليل على مُساعدتكَ لها، فلَم أعُد أعلَم مَن يقولُ الحقيقة ومَن يكذِب.
أراني الرجُل كشفًا عن التحويلات لابنته، وتأكّدتُ مِن أنّها تقبضُ شهريًّا مبلغًا كبيرًا. لكن ماذا تفعلُ شذى بكلّ ذلك المال إن كانت لا تصرفُ منه على نفسها أو ابنها؟ وماذا عن تلك العادة باستعمال صغيرها لِنَيل المزيد مِن أهلها ومنّي؟ هل هي تُحبّه في الأصل؟ أشكُّ في ذلك، وإلّا لمَا دمَّرَت أباه وأبقَته يعيش في القلّة.
صرتُ أملكُ الكثير مِن المعلومات ضدّ زوجتي، ولكن كيف أستغلُّ ما بتُّ أعرفُه مِن دون أن أخسَرَ ذلك الصبيّ الذي اعتبَرتُه ابني؟ المسألة كانت شائكة إذ أنّ شذى كانت تملكُ سرًّا مبلغًا كبيرًا يُخوّلها أخذ ابنها والاختفاء معه في أيّ مكان مِن الكرة الأرضيّة!
أطلَعتُ سامِر على الذي اكتشفتُه، وهو وجَدَ صعوبة بتصديق كلامي، إلّا أنّني أرَيتُه الصورة التي أخذتُها لكشوفات التحويلات لها مِن قِبَل أبيها. عندها هو استوعَبَ كيف أنّه وقَعَ بين أيدي ماكِرة أنانيّة ودمَّرَ حياته. لكنّه أكَّدَ لي أنّه اهتدى أخيرًا، بفضل رجُل الدين ولا ينوي العودة إلى الممنوعات على الاطلاق. هو كان واثِقًا مِن ذلك، لأنّ شذى لَم تعُد زوجته ولن يراها أو يسكنُ معها لدى خروجه، ليغرقَ بالممنوعات مُجدّدًا.
بدأتُ أفِكّر بحَلّ جدّيّ لوضعي مع شذى، فكنتُ أعلَم أنّ تلك المرأة لا تُحِبُّني على الاطلاق أو أحَدًا آخَر، بل تُحِبّ نفسها فقط. إضافة إلى ذلك، كنتُ واثِقًا مِن أنّها تتحضَّر للرحيل يومًا حين تصبح جاهزة. وخطَرَت ببالي مكيدة حضّرتُها مع أبيها، مفادها حَمل شذى على التنازل عن ابنها لي أو لأخي وإبعادها عنه، لأنّ تأثيرها عليه سيكون حتمًا مُضِرًّا على المدى الطويل جسديًّا أو نفسيًّا.
فطلَبَ والد شذى مِن أحَد أبناء أصدقائه الذي كان على عِلم بما يجري، أن يوهِمَ شذى بأنّه مُهتمّ بها. كان الأمر سهلًا، فإتّصَلَ الشاب بزوجتي عبر إحدى صفحاتها على مواقع التواصل، وبدأ يمدَح جمالها وحسنها، ثمّ انتقلا إلى الواتساب وبدآ يتبادلان الأحاديث العميقة. هي اهتمَّت كثيرًا لأمره لأنّه وسيم وثريّ، ورأَت عبر الصوَر والفيديو سيّاراته وبيته وطريقة حياته. ويوم هو عرَضَ عليها أن تتركني وتتزوّجه، لَم تتأخّر شذى في القبول. لكن كان لدى ذلك الشاب شرط واحِد وهو ألّا تجلِبَ معها إبنها. هل تظنّون أنّ الموضوع أثَّرَ بها؟ على الاطلاق! بل وعدَته أنّها ستُعطيه أجمَل ذرّيّة حين يتزوّجا. أيّ أمّ هذه؟!؟
كنتُ أعلمُ بما يجري مِن ذلك الشاب، الذي كان يُرسِل لي صوَرًا عن مُحادثاتهما وتسجيلات صوتيّة، فقصدتُ مُحاميًا لأكون جاهِزًا حين تُقرِّر شذى تَركي. ويوم هي طلبَت منّي الطلاق، قالَت مُحاوِلةً الاستفادة منّي لآخِر مرّة:
ـ إن طلّقتَني بسرعة فسأقبَل بتَرك إبني لكَ... مُقابِل مبلغ مِن المال، طبعًا.
ـ تُريديني أن أدفَع لكِ المال لِتتركي لي ولَدًا ليس منّي؟!؟ لا، خُذيه أنتِ يا شاطرة! أنا لا أُريدُه!
ـ لا! لا! حسنًا... لا أريدُ شيئًا بالمُقابل، إنسَ ما قلتُه! خذه مجّانًا!
أسِفتُ لسماع كلامها عن ابنها وكيف أرادَت الاتجار به، لكنّني تمالَكتُ أعصابي وقدَّمتُ لها أوراقًا حضّرَها المُحامي، مفادها أنّها تقبَل بأن أرعى لِوَحدي ابنها إلى حين يُصبح سامِر قادرًا على الاعتناء به حصريًّا. وقَّعَت شذى على المُستندات التي تحرِمها مِن ولَدها، وتمّ الطلاق بسرعة! وفور صدور الحكم، حظَرَها "حبيبها الوسيم والثريّ" واختفى مِن حياتها فجأة. وهي كادَت تجنّ ولَم تستوعِب اللعبة إلّا بعد حين، لكنّها لَم تستطِع فعل أيّ شيء للعودة إليّ أو أخذ ابنها منّي، لأنّها ستفضَح نفسها بأنّها كان لدَيها عشيق أثناء زواجنا. لذا هي قصدَت أهلها فطرَدَها أبوها على الفور، ولَم يبقَ لدَيها حلّ سوى سَحب مالها مِن المصرف... والسفَر إلى أختها.
إهتمَّيتُ بالولَد وكأنّه بالفعل إبني، وأخذتُه عند مُعالِج نفسيّ ليشرَحَ له تمامًا أنّ تصرفات أمّه وأبيه لا دخل لها به، ويُعلِّمه كيف يتعامَل مع مشاعره المجروحة. وصارَ الصبيّ يقضي وقته عند أجداده الأربعة، الأمر الذي ساعدَه على بناء نفسه. بعد سنتَين، خرَجَ سامِر مِن السجن رجُلًا مُختلفًا، لكنّني لَم أكن مُطمئنًّا لأنّ لدَيه تجربة سابقة بالغرَق في الممنوعات مُجدّدًا. لِذا راقبتُه عن كثَب قَبل أن أسمَحَ له برؤية ابنه والتواجد معه مِن فترة لأخرى. لكنّ سامِر صارَ يذهب إلى الصلاة ويصوم... ويذهب إلى عمَله الجديد في شركة أب شذى! وهكذا إستعادَ سامِر ابنه أخيرًا، وعوَّضَ له كلّ ما فاتَه مِن حنان ووجود الأب.
أمّا بالنسبة لي، فبقيتُ بمثابة أب ثانٍ لابن أخي، فهو لَم ينسَ ما فعلتُه مِن أجله... وأكرمَني الله بعروس رائعة أعطَتني ولَدًا جميلًا صارَ وكأنّه أخٌ لابن سامِر.
وحدها شذى خسِرَت كلّ شيء، فبعد فترة مِن وصولها إلى أختها، طردَتها هذه الأخيرة بعد أن حاوَلَت استمالة زوجها لها. أين هي اليوم وما حلَّ بها؟ لا أحَد يعلَمُ!
حاورته بولا جهشان