مَن أختار؟

دخلَت أمّي المشفى للخضوع لعمليّة بالِغة الخطورة، فقضَيتُ وقتي معها لأنّني كنتُ الابنة العزباء بين أخواتي. المسكينة تألمَّت كثيرًا وفعلتُ أنا جهدي للتخفيف عنها. في اليوم الأوّل، بقيَ السرير الذي إلى جانبها خاليًا، لكنّ مريضة أخرى جاءَت لتتقاسَمَ الغرفة مع أمّي. فرِحتُ للأمر، فكنتُ أشعرُ بالملَل وأنا جالسِة لوحدي طوال النهار، بينما والدتي تغرقُ في النوم لفترات طويلة.

المريضة الجديدة كانت بسنّ والدتي، فتعارفتا على بعضهما، وأنا تعرّفتُ على ابنتها التي كانت أيضًا مِن سنّي لكن مُتزوّجة ولها طفل صغير. ومنذ اليوم الأوّل يخال المرء حين يرانا، أنّنا مِن عائلة واحِدة أو جيران منذ زمن.

في اليوم الثالث جاء ابن المريضة ليزورُها ويطمئنّ عليها، فهو كان يسكنُ في الخارج، وأتى بأسرع وقت حين علِمَ بوضع أمّه. لكنّه بقيَ ينظرُ إليّ طوال الوقت وكأنّه هو عالِم بوجودي وقصَدَ رؤيتي. فاستنتجتُ أنّ أمّه أو أخته كلّمتاه عنّي وبطريقة إيجابيّة، إذ أنّه بدا مُعجبًا بي.

في اليوم الرابع، كلّمَتني الأخت عن أخيها الذي اسمه وليد، وعن امكانيّة التوافق بيننا لأنّها وأمّها أحبّتاني كثيرًا. إحمَّرَ وجهي لأنّ أخاها كان وسيمًا وطويل القامة، وعلى ما يبدو ناجِحًا في عمله، إذ أنّه كان أنيقًا ويعيشُ في الخارج. إستشَرتُ أمّي وهي قالَت إنّ النصيب يأتي حين لا نتوقّعه، وقد يكون وليد بالفعل الرجُل الذي سيُصبحُ زوجي يومًا. فرِحتُ كثيرًا فقبِلتُ أن أتعرّف أكثر على وليد.

في اليوم التالي عادَت أمّي إلى البيت، وبدأتُ أتبادَل الرسائل والاتصالات مع وليد، ثمّ هو جاءَ لزيارتنا حامِلًا معه الحلوى والورود. سافَرَ العريس إلى حيث يعيش وبقيتُ على اتّصال به، وصِرنا نُخطِّط لِلمرحلة المُقبلة. كنتُ مُتحمِّسة كثيرًا لِدرجة أنّني نسيتُ أمر دخولي الجامعة، فلماذا أُكملُ دراستي حين سأصبح زوجة وأمًّا وربّة منزل؟ ألَم تُخلَق المرأة لذلك وليس أكثر؟ أعي اليوم تفاهة تفكيري آنذاك، لكنّ الذنب ليس ذنبي، بل ذنب مُجتمعي الضيّق والمُتأخِّر.

رحتُ وأمّي إلى المشفى مِن جديد، لأنّ جرحها إلتهَبَ واستوجَبَ معالجتها بالمضادات الحيويّة لثلاثة أيّام. وفي تلك الفترة، دخَلَ غرفتها جاد، وهو طبيب شاب مُتمرِّن وقد أُعجِبَ بي شخصيًّا وبالطريقة التي أعامِل فيها والدتي، فطلَبَ منها الاذن بالتعرّف إليّ أكثر. وبالطبع قبِلَت أمّي بينما تفكيري كلّه كان بوليد الذي سرَقَ قلبي. صحيح أنّ الطبيب كان وسيمًا ومُتعلِّمًا وله مُستقبل واعِد، إلّا أنّ القلب لا يعرفُ سوى مَن يمتلكه. لِذا رفضتُ بتهذيب، الأمر الذي زاده إصرارًا، فهو حسِبَ أنّني لستُ فتاة سهلة وعليه أن يبذُلَ جهدًا أكبر.

أخبَرتُ وليد عمّا يحصل فغضِبَ كثيرًا لأنّه خافَ أن يخسرَني، فهو لَم يكن مُتعلِّمًا كفاية ليُنافِس الطبيب، بل عمَله يقتصر على بعض التجارة في الخارج، ما يكفي ليعيش ببساطة لوحده أو مع زوجته. طمأنتُه قائلة إنّني له وحده، وإنّني لا أُفكِّرُ سوى باللحظة التي سأصبح فيها زوجته. فوليد ابن بيئتي، على خلاف الطبيب، أيّ إنسان يُشبهُني تمامًا.

ضغطَت أمّي عليّ كثيرًا حتّى قبِلتُ بأن ألتقي مع جاد في كافتيريا المشفى حول فنجان قهوة، ووجدتُه طريفًا وظريفًا وفي عَينَيه نظرة ناعِمة مليئة بالمحبّة. هو قال لي إنّه يبحثُ عن رفيقة درب ليبني معها مُستقبلًا جميلًا لها ولأولاده منها، ووعدَني بأنّني سأتمكّن مِن دخول الجامعة وأحصل على شهادتي لأكون مُتعلِّمة. إحتَرتُ في أمري، فمِن جانب كان هناك وليد وحبّي له وشغَفي لأكون معه وله، ومِن جانب آخَر الطبيب الشاب الذي كان سيُعطيني حياة جميلة وآمِنة.

أعرِف ما تقولون الآن، فالبعض منكم ينصحُني بالبقاء مع وليد لأنّكم رومانسيّون، والبعض الآخَر يُريدُني اختيار الطبيب لأنّكم عمليّون. آه... يا لَيت وليد كان طبيبًا! لكنّ الأمور لا تجري هكذا في الواقِع وعلينا إتّخاذ القرارات والتفكير بتداعياتها.

إخترتُ وليد لأنّ قلبي كان ملكه، فرفضتُ جاد بتهذيب، وانتظرتُ أن يأتي حبيبي للزواج منّي وبأسرع وقت. تمَّ عقد القران وهو سافَرَ مِن جديد ليُحضِّر لي أوراقي. بدأتُ أشتري بعض الحاجيات لحياتي في الخارج، إذ أنّني لَم أرِد أن أذهب إلى بيت زوجيّ فارِغة اليدَين.

جاءَ اليوم المُنتظَر، وودّعتُ عائلتي الحبيبة وطرتُ إلى ذلك البلَد. كان وليد بانتظاري في المطار مع باقة ورد كبيرة، فتعانَقنا وبكيتُ مِن الفرَح. قادَ زوجي سيّارته بنا إلى عشّنا الزوجيّ، وتفاجأتُ كثيرًا لأنّه لَم يكن نفسه الذي رأيتُه خلال أحاديثنا عبر الفيديو. وعندما سألتُه عن الأمر، هو أجابَني بأنّه كان يسكنُ عند صديق له بانتظار أن يجِد لنا مكانًا نعيشُ فيه. للحقيقة، لَم يُعجِبني المكان لصغره ولحالته القديمة وموقعه البعيد عن المدينة. رأى وليد الخذلان على وجهي، فأسرَعَ بالقول إنّه مسكن مؤقّت وإنّنا سنجِد ما يُعجِبني لاحقًا. وفي تلك اللحظة بالذات أدركتُ أنّني أو أمّي لَم نسأل عنه كما يجب، بل اتّكلنا على ما قيل لنا مِن قِبَله وعائلته. هل لهذه الدرجة كنّا غبيّتَين؟!؟

تغّلّبَت عواطفي على عقلي مرّة أخرى، فعمِلتُ جهدي على تحسين سكَننا قدر المُستطاع، فذهبتُ ووليد إلى السوق، واشترَينا أثاثًا حديثًا وزينة لطيفة، وبدأَت حياتنا الزوجيّة. كنتُ أقضي وقتي بالتنظيف وتحضير الطعام كما علّمَتني أمّي، وأنتظرُ عودة زوجي مِن عمله. وحتّى ذلك الحين لَم أكن أعرفُ كثيرًا عن ذلك العمَل، واكتشَفتُ أنّ وليد بالفعل سائق خاصّ لمُدير شركة استيراد وتصدير. ماذا؟!؟ هل هذا ما عناه عندما قالَ لي إنّه يعمَل في مجال التجارة؟!؟ تشاجَرتُ معه حول الموضوع، وهو أكّدَ لي أنّه لَم يغشّني فعلًا، إلّا أنّه لَم يُعطِني تفاصيل دقيقة، واعتذَر بشدّة قائلًا إنّ الراتب الذي يتقاضاه يُوازي راتب موظّف شركة، فما الفرق؟ الفرق كان بالنسبة لي الكذِب الذي صارَ بائنًا بكلّ الذي قالَه لي عن نفسه وحالته، فبدأتُ أشككُّ بكلّ شيء يخرجُ مِن فمه.

تعرّفتُ إلى أصدقاء زوجي الذين كانوا بمثل حالته، مِن أجانب وأبناء بلدَنا، الأمر الذي أكّدَ لي أنّنا لن نخرج أبدًا مِن الذي نحن فيه، أيّ حياة بسيطة بالكاد تُغطّي حاجاتنا. وماذا لو حمِلتُ وأنجَبتُ؟ ماذا كان سيحدثُ لنا؟

أطلَعتُ والدتي على ما يحدث، وهي استاءت للغاية وعاتبَت عائلة وليد لأنّهم أخفوا عنّا أمورًا كثيرة، كالتي اكتشفتُها وكنتُ سأكتشفُها. فتبيّنَ لي أيضًا مِن حديث أحَد أصدقاء وليد، أنّ زوجي قضى فترة في السجن بعد أن تشاجَرَ مع شخص آخَر في حانة كان يسهَر فيها. كان زوجي العزيز على ما يبدو يُحبّ الكحول وطباعه عنيفة... برافو! إلّا أنّ وليد شرَحَ لي أنّ تلك الحادِثة وقعَت منذ سنوات، وأنّه لَم يعُد يذهب إلى الحانات وهو ليس عنيفًا بل كان وقتها ثملًا. قبِلتُ بتفسيره، لأنّني لَم يكن لدَيّ خيار آخَر، إلّا أنّني بدأتُ أخافُ منه. صلََّيتُ ألّا أحمَل منه وأن أكون على خطأ في ما يخصّ مخاوفي منه. لكن في إحدى الليالي، هو عادَ إلى البيت وتفحُّ منه رائحة الكحول، فغضبتُ منه وبدأتُ أعاتِبه، وما كانت ردّة فعله؟ هو صفعَني بقوّة وناداني بالساقطة! يا إلهي! بكيتُ الليل بكامله وقرّرتُ تَركه. لِذا إنتظرتُ حتّى هدأَت الأحوال بيننا، وعمِلتُ جهدي لأكون لطيفة لأقصى درجة، ثمّ قلتُ له إنّ والدتي مريضة مِن جديد. وكنتُ قد اتّفقتُ معها على أن تدّعي المرَض أمام عائلته في البلَد، وأن تبعثَ لي رسائل عن الموضوع وعن ضرورة مجيئي إليها. صدّقَنا وليد، خاصّة بعدما أكّدَ له أهله أنّ والدتي في حالة يُرثى لها. ولَم أعرِف كيف حزَمتُ حقيبة صغيرة وعدتُ إلى بلدَي! وفور وصولي، إتّصلتُ بمحامي وجدتُه بفضل أقارِب لنا، وبدأتُ دعوى الطلاق.

كان طلاقي صعبًا لكنّني حصلتُ عليه أخيرًا، ثمّ ركضتُ أتسجّل في الجامعة لأصنَع لنفسي مُستقبلًا ولا أعود مُتعلِّقة برجُل لإعالتي. إخترتُ فرع الآداب، وصرتُ أذهب إلى الكلّيّة بفرَح، خاصّة بعد أنّ صارَ لي زملاء وزميلات أتقاسَم معهم أمورًا مُتعلِّقة بطموحاتي. وفكَّرتُ لو بقيتُ مع وليد، لعشتُ حتى آخِر أيّامي في المطبخ وتربية الأولاد في جوّ مِن الخوف والقلّة.

حصلتُ على إجازتي وبدأتُ أعمَل مُدرِّسة أطفال في إحدى المدارس وكنتُ سعيدة وسط هؤلاء الصّغار.

مرَّت السنوات بهدوء، ولَم أُفكِّر خلالها بالزواج أو حتّى بالرجال، إذ كنتُ أبني نفسي.

وفي أحَد الأيّام، عند بداية السنة الدراسيّة الجديدة، رأيتُ ذلك الطبيب، جاد، قادمًا مع ابنه الصغير! ركضتُ إليه لألقيَ التحيّة وهو فرِحَ برؤيتي. تبادَلنا بعض الأحاديث حول ابنه الذي كان في صفّ الروضة، ووعدتُه بأن أهتمّ به مع أنّني لا أدرّس تلك المرحلة. سألتُه عن زوجته، فسكَتَ لدقيقة ثمّ اعترَفَ لي أنّه وزوجته تطلّقا، فقلتُ له إنّني أيضًا طلّقتُ الذي تزوّجته.

بقيَ الطبيب يأتي صباحًا مع ابنه، وصِرتُ انتظرُه ونتكلّم مع بعضنا ولو خمس دقائق. وفي نهاية السنة، وبعد أن وقعتُ في حبّه، طلَبَ منّي "طبيبي" أن أصبَحَ زوجته. أجل، وكأنّ القدَر يقول لي: "هذا مَن كان يجب أن تتزوّجيه في الأصل".

حياتي جميلة، وصارَ ابنه بمثابة ابني فقد أحبَبتُه تمامًا كما أُحِبّ ابنتي التي أنجَبتُها بعد سنة مِن زواجنا.

أمّا بالنسبة لوليد، فعرفتُ أنّه دخَلَ السجن مُجدّدًا، بعدما إشتكَت عليه الذي تزوّجها مِن بعدي لأنّه عنّفَها بطريقة شنيعة. أشكرُكَ يا رب لأنّكَ أعطَيتَني الذكاء الكافي لأهربَ منه قَبل فوات الأوان!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button