كنّا أربعة أولاد أنا كبيرتهم، وقد بذلتُ جهدي لأساعد أمّي في تربية الأصغر منّي والإنتباه إليهم خلال مرضها ومِن ثمّ بعد وفاتها. ولكنّها هي وأبي كانا قد أفرطَا في دَلَع أخي الوحيد رواد، حتى أنّه نصّبَ نفسه ملكًا علينا جميعًا. وخاف أبي أن تتزوّج بناته ويأخذ الأصهر بعد مماته قطعة الأرض والمنزل والقليل مِن المال الذي تبقّى معه، فانتظَرَ حتى أصبح رواد راشدًا ليكتب له بعقد بيع صوريّ جميع مقتنياته. وتمَّت الصفقة بسريّة تامّة، حتى لا نتخلّى عن أبينا خلال حياته، لأنّه كان يعلم ضمناً أنّ لا منفعة مِن أخي. ومع مرور الوقت، تزوّجَت جميع أخواتي وبقيتُ عزباء، ربما لأنّني لم أعتَد على أن تكون لدَيّ حياة خاصة لكثرة إهتمامي بالآخرين. ومِن فراش موته، إعترَفَ لي والدي بالذي فعلَه، ولولا حبّي العميق له لكنتُ صرختُ وهدّدتُ وأعربتُ عاليًا عن رأيي بما اعتبرتُها خيانة عظمة. فقد كنتُ أعرف جيّدًا أخي، وكنتُ على يقين مِن أنّه سيرميني خارج المنزل مع خروج آخر نفَس مِن جسد أبيه. وانتابَني الهم، فأين كنتُ سأذهب؟ وماذا سيحصل لي؟
ولم أكن مخطئة. فلحظة انتهاء مراسم الدفن، قال لي رواد:
ـ أنا مالك البيت والأرض. أريد أن أتزوّج والمكان لا يتّسع لنا جميعًا.
ـ كان يتّسع لستّة أشخاص وعشنا فيه براحة تامة!
ـ أجل ولكنّ حبيبتي لا تريد أن تعيش مع أحد.
ـ حبيبتكَ أم أنتَ؟ إسمع يا رواد... حين قال لي والدنا إنّه أعطاكَ المكان، ذهبتُ أسأل أحد المحامين عمّا يجب فعله، وقد شَرَح لي أنّه يحق لي البقاء في البيت كوني عشتُ هنا طوال حياتي وكوني لم أتزوّج... لن تنجح برميي خارجًا لأنّ القانون إلى جانبي... دعنا مِن المناكفات وتعالَ نعيش بسلام... ولا تنسَ أنّني بمثابة أمّكَ، فأنا التي اهتمَّت بكَ منذ ولادتكَ.
ـ سأجد طريقة للتخلّص منكِ! فلو أرادكِ والدي أن تبقي هنا لكتبَ لكِ المنزل".
لم أفهم سبب هذا الغضب لا بل الكرَه تجاهي، وردَدتُ الأمر إلى أنانيّته المعهودة، وصلَّيتُ ألّا يُعذّبني كثيرًا وأن نجد طريقة للتفاهم.
وتزوّج رواد مِن ندى، إمرأة تشبهه بأخلاقها البشعة. كنتُ آمل أن تكون زوجة أخي أكثر محبّة منه، ولكن كما يُقال:" إنّ الطيور على أشكالها تقعُ". وبدأ عذابي لأنّ ندى، وبعد أن اشترَطَت على أخي أن تعيش لوحدها في البيت، لم تكن أبدًا مستعدّة لتقبّل وجودي.
أمّا مِن ناحيتي، ففعلتُ المستحيل للبقاء هادئة ومسالمة، بالرّغم مِن إستفزازات تلك المخلوقة البغيضة. لم يحتَج رواد إلى التدخّل لأنّه كان يدري أنّ ما تفعله ندى كان كافيًا لهزم أكبر عدو. وهما اعتبراني كذلك فعلًا: عدّوة لهما ولسعادتهما، مع أنّني بقيتُ أتجنّبهما قدر المستطاع بالبقاء في غرفتي بعد عودتي مِن العمل، والأكل لوحدي عندما يُغادران المائدة.
عَرَضَت عليّ أخواتي الواحدة تلوَ الأخرى أن اسكن معهنّ، ولكنّني بقيتُ أرفض ترك المنزل العائليّ، أوّلًا لأنّ لي ذكريات عديدة وجميلة في ذلك المكان، وثانيًا لأنّني لم أقبل أن أستسلم لِما اعتبرتُه حقّي الشرعيّ. ولكن عندما أنجَبَت ندى طفلها الأوّل، شعرتُ بالإنزعاج مِن كثرة صراخ الطفل الذي طغى حتى على صوت أّمّه. إلى جانب ذلك، شعرتُ بأنّني سأتحوّل يومًا إلى حاضنة له، الشيء الذي لم أكن لأتحمّله بعد أن قمتُ بتربية أخواتي وأخي. كلّ ما كنتُ أريده هو أن أرتاح وأقضي حياة هادئة حتى آخر أيّامي.
وخَطَرَت ببالي فكرة عظيمة سألتُ نفسي لماذا لم أفكّر بها مِن قبل. كان هناك كوخ قرب المنزل وسط قطعة الأرض، وكان مخصّصًا للأدوية الزراعيّة والمعدّات ويتّسع لشخص شرط أن يُعاد تأهيله. ومِن مدخّراتي، جلبتُ عمّالًا فبنوا في الكوخ حمّامًا صغيرًا وشبه مطبخ، ووضعنا الإمدادات المائيّة والكهربائيّة اللازمة. وكان رواد يقف متفرّجًا وسائلًا نفسه كم مِن الوقت سأتحمّل العيش في مكان ضيّق كهذا، ومتأمّلًا أن أرحل عنه بأقرب وقت. ولكنّه لم يكن يعرف أنّ ذلك الكوخ سيُصبح مسكنًا جميلًا بفضل أناملي السحريّة وذوقي الرفيع.
وعندما انتهيتُ مِن الأعمال، أقمتُ حفلًا صغيرًا دعوتُ اليه زميلات لي في العمل، وقضينا أمسية لطيفة تعالَت خلالها ضحكاتنا حتى البيت الكبير حيث كان رواد وندى يموتان حتمًا مِن الغيرة.
وبدأَت حياتي. فقد كانت تلك أوّل مرّة أعيش فيها لوحدي بعدما قضَيتُ حياتي وسط عائلة كبيرة ألبّي متطلّباتها. ذقتُ أخيرًا طعم السّكينة ونعمتُ بالهدوء والراحة.
إلّا أنّ أخي لم يكن ينوي تركي أفرح مطوّلًا. فبالرّغم مِن أنّني رحلتُ عنه وعن زوجته، بقيَ مستاءً مِن وجودي في ما كان يعتبرها "مملكته". وبما أنّه لم يكن قادرًا على طردي قانونيًّا، فكّر بطريقة أخرى للتخلّص منّي: تزويجي. وهكذا أخَذَ يُفتّش لي عن عريس يأخذني بعيدًا، بعدما يُقنعه بأنّني امرأة عاملة تجني الكثير مِن المال.
وفي ذات يوم، سمعتُ طرقًا على بابي، فتحته وإذ بي أجد رجلًا أمامي ينظر إليَّ بتمعّن كمَن يتفحّص بضاعة وعِدَ بها. وبعد أن مرَّت ثوانِ طويلة، سألتُه عمّا يُريده فأجابَ مبتسمًا:
ـ هذا أنا.
ـ وهذه أنا! مَن تكون وماذا تريد؟
ـ أنا عريسكِ".
وانفجرتُ ضاحكة واستاءَ منّي الرجل. وبعد أن انتهَيتُ مِن الضحك، قلتُ له:
ـ مِن المؤكّد أنّ أخي هو الذي أرسلكَ... لا أدري ما الذي وعَدَكَ به لتأتي بهذه الطريقة، ولكنّني أؤكّد لكَ أنّني لم أكن على علم بشيء وأنّني لا أريدكَ ولا أريد الزواج مِن أحد. الوداع."
وأقفلتُ الباب بوجه المسكين وأكملتُ الضحك.
لا أدري ما كان أخي سيُحضّر لي بعد ليتخلّص منّي، إلّا أنّني، وبصدفة تامّة، وجدتُ الطريقة لإسكاته نهائيًّا.
كنتُ في السوق أتبضّع حين سمعتُ صوت بوق سيّارة. وحين استدرتُ، رأيتُ إبن عم والدي يقود السيّاة والى جانبه إبنه. كان الرجلان قد تغرّبا منذ سنين، وشاء القدر أن ألتقي بهما وهما في زيارة خاطفة إلى البلد. تبادلنا التحيّات، وسألَني الأب عن أحوالي وأحوال أخي. عندها أخبرتُه كيف حوّلتُ الكوخ إلى مسكن لطيف. إستغربَ الرّجل كثيرًا لعدم مكوثي في البيت الكبير، فاضطررِتُ لإخباره قصّتي. عندها هزّ برأسّه وقال:
ـ كان إحساس أبيكِ بمحلّه.
ـ ماذا تقصد؟
ـ صحيح أنّ إبن عمّي كان يُحبّ إبنه أكثر مِن كلّ شيء، ولكنّه كان يعلم أنّه غير فالح وأنّ قلبه أسود... لِذا وضَعَ إسمي إلى جانب إسم رواد في صكّ الملكيّة.
ـ هذا يعني أنّ...
ـ أنّ رواد ليس المالك الوحيد للبيت والأرض، نعم.
ـ يا إلهي... لم يذكر أخي ذلك يومًا، بل بقيَ يتصرّف وكأنّ شيئًا لم يكن.
ـ سأزور رواد قبل رحيلي وأتكلّم معه... لن أقبل أن تُهمَّشي هكذا... ستعودين إلى البيت وإلّا...
ـ لا! لا أريد العودة! أنا سعيدة حيث أنا... كلّ ما أريده هو أن تقنعه بِتركي وشأني.
ـ حسنًا... أعدكِ بأنّه لن يُزعجكِ بعد الآن... فأنا أيضًا أملك الكوخ. وإن احتجتِ إلى أيّ شيء إتصلي بي... هذا رقمي الأوروبيّ".
وحمدتُ ربيّ على رعايته الدائمة لي، فهو الذي يعلم كم ضحّيتُ مِن أجل سعادة الآخرين وأنّني لم أكن أستحق ذلك الذلّ والإضطهاد. ووفى قريبي بوعده، لأنّني لم أعد اسمع شيئًا مِن جانب أخي وزوجته، وأصبح الأمر وكأنّهما يعيشان في مدينة أخرى. وحده صوت إبنهم كان يُذكّرني بوجودهم.
وعشتُ أخيرًا بهناء، وأصبَحَ لرواد 3 أولاد يأتون إليّ سرًّا ليأكلوا السكاكر ويستمعوا إلى قصص الأميرات الجميلات ويلعبوا مع هرري قبل أن يعودوا إلى بيتهم المليء بالصّراخ والبغض.
حاورتها بولا جهشان