منزل الجدّة أمينة

كانت الجدّة "أمينة" هي اللبنة الأساسيّة لعائلتنا. فمنذ أن كنّا أطفالًا، كانت هي مَن تجمعُنا في أيّام العيد، وتُضئ لنا أيّام الشتاء الطويلة بحكاياتها المليئة بالحكمة. في بيتها الكبير، الذي كان يُخبّئ في كلّ زاوية تاريخًا وحكاية، كنّا نشعر بالأمان والحبّ. كبرتُ في هذا البيت، وترعرعتُ فيه مع إخوَتي وأبناء عمومي، وكلّما كبرتُ، كان هذا المنزل يصبح أكثر أهميّة في حياتي. لكن في ذلك اليوم، عندما وصلَنا خبَر وفاتها، تغيّرَ كل شيء، إلى الأبد.

فبينما هي تركَت مالها لأولادها، كان المنزل الكبير إرث الجدّة لجميع أحفادها، لأنّه يحملُ بين جدرانه كل تفاصيل حياتها. لذا، هي طلبَت منّا قبل وفاتها، أن نكون يَدًا واحدة بعد رحيلها، وأن نتشارَك هذا الإرث بشكل عادِل، وألّا نسمَح للمادّة بأن تُفرّق بيننا. كنّا نعلم أنّ هذا الميراث ليس مجرّد أملاك، بل هو وصيّة أمانة لا يمكن التفريط فيها. ومع ذلك، لَم أكن أُدرك كَم كانت تلك الكلمات ستواجِه اختبارًا صعبًا بعد وفاتها.

في اليوم التالي، تجمّعنا كلّنا في المنزل الكبير. كنتُ هناك، مع إخوَتي وأبناء عمومي، جميعنا في الغرفة نفسها، ننتظر أن يبدأ الاجتماع الذي كان مِن المُفترض أن يكون بسيطًا: كيف سنقسم الميراث بشكل عادل؟

لكن كانت هناك لحظة مِن الصمت الثقيل في الغرفة، كما لو أنّ الهواء نفسه كان يُعبِّر عن التوتّر الذي سَيطرَ على الجميع.

بدأنا نتحدّث عن الارث، وكلّ واحد منّا كان يطرح اقتراحاته. لكن بسرعة، بدأنا نلاحظ أنّ الأمور لا تسير كما كان متوقّعًا. كنتُ أُراقب ما يحدث بصمت، مُدرِكًا أنّ هناك أمورًا نائمة تحت السطح كانت ستطفو قريبًا.

بدأ سامي، إبن عمّي ، بالكلام كونه الأكبَر سنًّا بيننا:

- أنا أعتقد أنّه مِن العدل أن نترك المنزل لأهلنا، ونقسم المال بيننا حسب الحاجة، ما رأيكم؟

 

لكنّ أخي كان له رأي مُختلف:

- لا أعتقد أنّ هذا عدل! البيت يجب أن يُباع لأنّه يُساوي أكثر مِن المبلغ الماليّ الذي تركَته المرحومة لأهلنا. نبيعُه وتُقسَم الأموال بيننا بالتساوي. نحن جميعًا كبار الآن، ولسنا بحاجة لهذا المنزل الضخم. ماذا سنفعل به؟

 

ثمّ جاءَ دور سميرة، ابنة عمّي الآخَر:

- أعتقد أنّه يجب أن نحتفظ بالمنزل. هذا هو المكان الذي نشأنا فيه، ولا يمكننا بَيعه. لا أستطيع أن أرى ذلك البيت يُباع، ولا أستطيع أن أتركه لمَن لا يُقدّره!

 

وهكذا استمرّ النقاش الحاد، بينما كانت الوجوه تتوتّر أكثر وأكثر. لكن فجأة، في وسط ذلك الصخب، قالت سُهى، ابنة عمّي الأصغَر، بنبرة غير متوقّعة:
- لماذا نتجادَل هكذا؟ ألا تتذكّرون كيف كان البيت مُهدّمًا قَبل أن تعيد الجدّة تجديده؟ وكيف أنّني كنتُ أقضي كلّ صيف هنا معها، وهي تُعلّمني كيف أكون انسانة أفضل؟

 

توقَّفَ الجميع عن الكلام للحظة. فكانت كلمات سهى تحمِلُ معنىً عميقًا. لكن ما قالَته بعدها جعَلَ الجوّ يتوتّر أكثر:
- وكانت الجدّة تُفضّلني عنكم جميعًا!

 

إنطلقَت ضحكة غريبة مِن فَم مُحسِن، ابن عمّتي:

- ماذا تقولين؟ الجدّة كانت تحبّ الجميع بالتساوي! هل نسيتِ كيف كانت تناديكِ "الحفيدة الخفيّة" لأنّكِ لَم تعودي تزورينَها منذ ما نصحَتكِ بعدَم الزواج مِن ذلك الفاشِل الذي أخَذَ مالكِ في آخِر المطاف وهرَبَ مع امرأة أخرى؟

 

عندها أجابَته سُهى بسرعة:

- أصمُت! كيف تجرؤ على التكلّم بينما نعرفُ كلّنا عن قضيّة أمّكَ وشريك أبيكَ؟!؟

 

سادَ الصمت وتلبّدَت الأجواء. كانت كلمات سُهى تُثير قصّة قديمة، قصّة لم نكن لنتخيَّل أن تظهَر بهذه الصورة. بدأ الجميع ينظرون إلى بعضهم البعض بنظرات مليئة بالريبة، وكأنّما عادَ الماضي بكلّ ثقله ليظهر أمامنا مِن جديد.

أسرعَت أخت مُحسِن بالقول لتُبرِّر ما قيل:

- هل نسيتم كيف كانت الجدّة دائمًا تفضّل أن تُقيم في بيتنا مِن وقت لآخَر؟ ما حدثَ مع أمّنا لا علاقة له بمحبّة حماتها لها... كانت هفوة تمّ تصحيحها بسرعة!

 

تدخّلَت سميرة وقالَت:

- أهلي شرفاء على خلافكم جميعًا! يجب أن أحظى بالبيت لوحدي!

 

لكنّ سمير قاطعَها:

- شرفاء؟؟؟ ماذا عن أبيكِ الذي كان يقصد الجدّة كلّ شهر لتُعطيه مالًا كان يخسَره في لعب المَيسَر؟؟؟ أصمتي مِن فضلكِ!

 

بدأ الحديث يتحوّل إلى صراع مكشوف. كانت كلّ كلمة تخرج مِن أفواه الحاضرين تفضَح جرحًا قديمًا، وكأنّنا جميعًا قد عشنا تحت ظلّ كذبة كبيرة لا نريد أن نواجهها. كنتُ أراقبُهم وهم يُمزّقون بعضهم كالكلاب المسعورة، وكلّ جزء في جسدي ينقبض أكثر، مُدركًا أنّنا، بالرغم مِن الحبّ الذي كنّا نظنّ أنّنا نتمتّع به، قد وصَلنا إلى لحظة لا يمكن الرجوع منها. بدأَت الأصوات ترتفع، وكلّ واحد منّا يفضَح الآخَر، مع أنّ الجميع كان يحاول أن يُظهر نفسه على أنّه الأحق بالمِراث، ولأنزَه، والأكثر قُربًا مِن الجدّة.

ومع مرور الوقت، وإضافة لِما قيل، بدأت تظهرُ المزيد مِن القصص القديمة، قضايا غير مُحلولة، وجروح كانت قد عادَت لتُفتَح أمامنا. كان هناك حديث عن المال الذي كان يُخبّأ في خزائن غير مرئية، وعن أسرار غير مُعلنة كانت الجدّة تُفشيها لأفراد دون سواهم ناهيك عن التُهَم بالإهمال بحقّ العجوز . في النهاية، كنتُ أنا آخِر مَن تحدَّث، بعدما شعرتُ أنّ الجميع قد انهارَ مِن كثرة العدائيّة التي سادَت في المكان. وقفتُ وسطهم وأخذتُ نفَسًا عميقًا قَبل أن أقول:

- ماذا حدَثَ لعائلتنا؟ أين ذهَبَ الحبّ الذي كنّا نتفاخَر به؟ لقد أصبحَت الأموال والمُمتلكات أكبَر مِن أيّ شيء آخَر، حتّى مِن ذكرى الجدّة التي كّنا نظنّ أنّنا نُحبّها؟ وماذا عن أسرارنا العائليّة التي لطالما علِمنا بها وأبقَيناها مستورة كدليل لُحمة ضدّ كلّ مَن هو خارج عائلتنا؟ مَن منّا لَم يُخطئ يومًا؟ لكن أن ننقضّ على بعضنا هكذا، فلا! ليس هذا ما كانت تُريده لنا الجدّة، بل العكس. وما يحدثُ الآن هو إثم بحقّ ذكراها!

 

لَم يجِب أحَد طبعًا، بل كانوا جميعًا صامتين، يتأمّلون بما قلتُه، وبقلبهم شعور عميق بالحزن والخزيّ. هذا الاجتماع كان نقطة فاصلة، جعلَتنا نُدرك أنّ العائلة التي كنّا نظنّ أنّنا نعرفُها لم تكن إلّا صورة مشوّهة لِما كنّا نُريد أن نراه. وبينما كان كلّ شيء يتفكّك أمامنا، أدركتُ شيئًا: هذا المنزل، هذا الميراث، لم يكن مجرّد أموال وأملاك. كان اختبارًا حقيقيًّا لِما بقيَ بيننا مِن روابط، وعندما بدأَت الحكايات القديمة تظهر، تبيّنَ لنا أنّنا لَم نعد نفس العائلة التي كانت يومًا واحدة.

في آخِر المطاف، أبقَينا المنزل للجميع، على أن نسكن فيه بالتداور ونلتقي فيه خلال الأعياد والفرَص، وأوكِلَت لي العناية به وإداره. في البدء، إجتمَعنا في البيت الكبير بضعة مرّات، لكن مع الوقت صارَ الكلّ مُنشغِلًا ويُفضّل التواجد مع عائلته في مكان آخَر بعيدًا عن الباقين. وحدي بقيتُ مُلتزِمًا بإرثي، كعربون وفاء لسيّدة عظيمة أعطَتنا فرصة ذهبيّة لَم نُقدِّر مدى قيمتها.

 

حاورته بولا جهشان

 
المزيد
back to top button