ملائكة بشريّة

لماذا هناك أناس طيّبون وآخَرون شرّيرون؟ ربّما لأنّ الطيّبين هم ملائكة بشريّة، مُهمّتهم إراحة غيرهم مِن الألَم والحزن والحاجة والظلم. فلقد تلاقى طريقي بطريق هؤلاء الملائكة الذين غيّروا حياتي مِن حيث الشكل والمضمون، ولن أشكرُ الله كفاية على تلك الهديّة.

وُلِدتُ في عائلة فقيرة جدًّا، ولَم أفهَم مدى فقرنا إلا حين صرتُ في سنّ يُتيحُ لي التحليل والمقارنة. وحتّى ذلك الوقت، بدا لي طبيعيًّا ألا آكُل سوى مرّة في اليوم أو كلّ يومَين، وألا أملكُ سوى حذاء واحد أو لعبة وجدَها أحَد إخوتي في مُستوعِب قمامة. وبالرغم مِن حالتنا، كنّا نعيشُ بفرَح لا يعرفُه سوى مَن أحبّ الله ومَن كان مِن عائلة أفرادها مُتلاحمون.

وشاءَ القدَر أن تأتي مُساعدة مِن إحدى المؤسّسات الخيريّة بشكل منحة دراسيّة كانت مِن نصيبي، لأنّ المواصفات تنطبقُ عليّ، أيّ صبيّ في السادسة مِن عمره آتٍ مِن عائلة عديدة الأولاد ويعيشُ في تلك المنطقة أو الحَي بالذات. فرِحتُ كثيرًا لأنّني كنتُ سأصبحُ مثل هؤلاء الذين أراهم صباحًا يركبون باص المدرسة المُجاوِرة، لابسين الزَيّ الخاصّ والحاملين على ظهرهم شنطًا مليئة بالكتب والدفاتر. ثمّ أدركتُ أنّ باقي أخوَتي لن يحظوا بهذه الفرصة، بل سيعمَلون قريبًا عند الخبّاز أو النجّار أو الميكانيكيّ، وبالكاد سيعرفون كيف يكتبون اسمهم. هل أرفضُ الذهاب إلى المدرسة لأبقى معهم ونُقابِل المصير نفسه... أو أتعلّم لأُساعدهم لاحقًا؟ إشترى لي والدي حذاءً جديدًا والكلّ دعا لي بالتوفيق.

دخَلتُ تلك المدرسة كالغريب مع أنّ رفاقي كانوا أيضًا جُددًا، لكن سرعان ما لاحظتُ الفرق بيني وبينهم حتى لو كان في البدء مُستتِرًا. فمع أنّنا كنّا جميعًا نرتدي الزَي نفسه، كانت هناك أشياء تفصلُ بيننا مِن تلقاء نفسها. وهكذا إبتعَدَ عنّي رفاقي الذين هم مِن عائلات متوسّطة وعالية الدَخل وبقيتُ شِبه وحيد. أقولُ شِبه وحيد لأنّ صبيًّا كان يُحبّ أن يجلسَ معي أثناء الاستراحة، واسمه طارق. هو كان أيضًا صديق الآخَرين، وكان باستطاعته اللعب معهم طوال الاستراحة، إلا أنّه كان يأتي إليّ كلّ مرّة ويجلسُ بالقرب منّي ويفتَح زوّادته ليقول:

 

ـ آه! السندويشات نفسها كلّ يوم! ولماذا هذا العدَد منها؟ أرِني ما لدَيكَ؟ هل نتبادَل؟ أرجوكَ فأنا لا أحبّ تلك اللحومات الباردة بل أفضّل الزعتر والبطاطا. خُذها كلّها وأعطِني ما لدَيكَ. لكن لا تُخبِر والدي أبدًا بالأمر!

 

وهكذا كان طارق يأكلُ ما في زوّادتي وأنا ما في زوّادته... إضافة إلى كلّ السكاكر التي يأتي بها!

ثمّ جاءَ عيد ميلاد طارق، وكَم فرِحتُ حين دعاني للحفل الذي سيُقام في بيته! للحقيقة لَم يحتفِل أيّ منّا بعيد ميلاده، لذا إنتظَرتُ بفارغ الصبر مجيء ذلك اليوم. لكن ألَم يكن عليّ شراء هديّة له؟ وماذا عن ملابسي؟ حزِنتُ كثيرًا بعد أن استوعَبتُ أنّني غير قادر على حضور الحفل، فذلك كان سيُكلّف والدي الكثير مِن المال، خاصّة بعدما اشترى لي حذاء جديدًا قَبل أشهر قليلة. إعتذرتُ عن الحضور، لكنّني لَم أقُل لطارق عن السبب الحقيقيّ، فهو لا يعرفُ أنّني فقير أو على الأقلّ لأيّ مدى. لكنّ المسألة حُلََّت مِن تلقاء نفسها، عندما أعلنَ طارق أنّه غيّرَ رأيه في مكان إقامة الحفل، وأنّه سيجلِب قالب الحلوى والبالونات والزينة كلّها إلى المدرسة موضحِاً أنّ والده مريض بعض الشيء ولا يستطيع استقبال المدعوّين. كَم أفرحَني الخبَر، كنتُ سأحضرُ الحفل مِن دون أيّ إحراج! شكرًا يا ربّي! ثمّ قالَت لنا المُدرِّسة إنّه غير مسموح لنا أن نجلِب هديّة لطارق، لأنّ العيد سيُقام في المدرسة وذلك مُنافٍ لسياسة المؤسّسة. لَم أُصدِّق أذُنَيّ! كان الأمر وكأنّ الله يسمعُ ما يدورُ في بالي ويُسهِّل الأمور عليّ!

بعد ذلك العيد وبعد أن بقيَ طارق إلى جانبي طوال الوقت مُفضّلاً رفقتي على رفقة الآخَرين، صارَ التلاميذ يُعيروني اهتمامًا ملحوظًا وبدأوا يتقبّلوني أكثر. إنتهَت السنة الدراسيّة بأجواء مُريحة، وانتظرتُ مرور العطلة الصيفيّة لمُتابعة دروسي ورؤية رفاقي. إتّضَحَ لي أنّني تلميذ مُجتهِد وذكيّ، الأمر الذي سهَّلَ كثيرًا وصولي إلى الشهادات لاحقًا. أمرٌ آخَر لا يقلّ أهمّية كان إصراري على النجاح لمُساعدة أهلي وتحسين أحوالهم، مع أنّهم لَم يضغطوا عليّ إطلاقًا بل كانت مُبادرة فرديّة أخذتُها بيني وبين نفسي.

مرَّت السنوات وصرتُ وطارق كالأخَوين، أقضي معه كلّ سنة بضع أيّام في بيت الجبَل العائليّ. هناك كنّا نركض ونلعب ونتسلّق الشجر والصخور، ونأكل ما هو لذيذ للغاية طوال النهار.

أب طارق كان رجُلاً طيّبًا وذا قلب كبير، بالرغم مِن حزنه الدائم البائن في عَينَيه بعد أن فارقَت زوجته الحياة. وهو فعَلَ جهده للتعويض لابنه عن هذه الخسارة، فلَم يبخَل عليه بشيء مِن الناحية المادّيّة وخاصّة العاطفيّة. ورؤية طارق سعيدًا معي كان أمرًا مُهمًّا للغاية، فاعتبرَني بمثابة ابنه.

لكن بعد ستّ سنوات على دخولي المدرسة، سافَرَ طارق وأبوه إلى أوروبا بصورة دائمة. فالرجُل نالَ فرصة عمَل لا تُفوَّت، ولَم يشأ ترك ابنه مع أيّ مَن جدّتَيه. لم أستطِع شرح ما شعرتُ به لدى معرفتي الخبَر، وكيف كانت لحظة الوداع بيني وبين طارق. مأساة بحدّ ذاتها! بكَينا واستنكَرنا وتوسَّلنا أباه كَي يُغيّر رأيه لكن طبعًا مِن دون نتيجة. وهكذا سافَرَ أخي طارق وامتلكَتني الكآبة. لكنّ قصّة صداقتنا لَم تنتهِ عند رحيل طارق، بل كانت لا تزال في بدايتها.

حُزني وضياعي بعد رحيل صديقي كانا لا يُقاسان، بالرغم مِن وجود أخوَتي وأبوَيَ مِن حَولي. فبدَت لي المدرسة فارِغة وموحِشة كثيرًا. إلا أنّني بقيتُ تلميذًا مُجتهدًا لتحقيق حلمي بتغيير أحوال ذويّ. في تلك الأثناء، لَم ينقطِع الاتّصال بيني وبين طارق، وتتبَّعنا أخبار بعضنا عن بُعد. وبعد حوالي السنة، بعثَ لي أب طارق تذكرة سفَر إلى حيث هو وابنه، ورحتُ إليهما بموافقة أهلي لقضاء العطلة المدرسيّة. خفتُ كثيرًا في الطائرة، لكنّ شوقي للاجتماع مُجدّدًا بصديقي كان أقوى مِن كلّ مخاوفي، ونسيتُ كلّ شيء حين رأيتُ طارق بانتظاري في المطار. قضَينا فرصة رائعة، وعدتُ إلى داري مُحمّلاً بالهدايا للجميع. كنتُ أعلَم أنّ ما يحدثُ لي هو مُميّز بالنسبة لِما يعيشُه أخوَتي، لكنّني لَم أتشاوَف أبدًا عليهم وهم لَم يغاروا منّي، والفضل يعودُ لتربية والدَينا لنا الجميلة والعادِلة. فشعارُنا كان الحبّ والتفاهم، وإلا كيف لنا أن نجتاز مصاعب الفقر؟

بقيتُ أذهبُ عند طارق في كلّ صيف حتّى دخلتُ الجامعة أخيرًا وكلّيّة الطب بوجه خاص. ما كان بانتظاري كان صعبًا للغاية مِن حيث كميّة الدرس والمُنافسة، لكنّني كنتُ ليس فقط طالبًا مُجتهدًا بل أيضًا دؤوبًا. بقيَت المؤسّسة الخيريّة نفسها تدفَع قسط تلك الجامعة الخاصّة وكلّ المُستلزمات. ويا لَيتني أستطيعُ شكرهم، لكنّهم كانوا دائمًا يتواصلون معنا عبر مُختار المنطقة، الذي دلّهم في ما مضى على الأشدّ حاجة للمِنَح المدرسيّة والجامعيّة.

شجّعَني كثيرًا طارق في الأوقات التي أوشَكتُ فيها أن أستسلِم وأترك الطبّ، لأنّني كنتُ أشكّ في نفسي. فكيف لِولَد فقير وابن فقراء أن يُصبَحَ يومًا طبيبًا؟ ألَم أكن أتصوّر مُستقبلاً لن يتحقَّق أبدًا؟ صحيح أنّ أحداث حياتي أخذَت مُنعطفًا غير مُتوقّع على الاطلاق، لكن هل كنتُ قادرًا بالفعل على تغيير مصيري ومصير عائلتي؟ لَم يسمَح لي طارق أن أستسلِم، بل شجّعَني مِن حيث هو على المُثابرة مهما كان السبب. هو كان قد اختارَ مهنة المحاماة ليُدافِع عن المظلومين كما قال. يا لِقلبه الجميل! للحقيقة، لَم أكن أعلَم أنّ هناك أناساً مثل طارق وأبيه.

ثمّ عادَ طارق وأبوه إلى البلَد بصورة مُفاجئة. كان قد نالَ صديقي إجازته وأنا لا أزال أدرس. لَم أعرِف أنّهما في البلَد إلا بعد أيّام مِن وصولهما. لَم أفَهم لماذا يُخفي صديقي عنّي خبَرًا مُفرِحًا كهذا إلى حين علِمتُ منه أنّ أباه مريض للغاية. ركضتُ إلى المشفى وعانَقتُ صديقي الباكي وواسَيتُه، مؤكّدًا له أنّ أباه سيخرجُ مُتعافيًا.

إلا أنّ صديقي نظَرَ إليّ بحزن عميق قائلاً:

 

- عُدنا ليموت أبي على تراب بلَده الحبيب فليس هناك مِن أمَل لشفائه. أبي يُعاني مِن حالة صحّيّة نادِرة تتحرّك كلّ فترة لكنّ نهايتها معروفة. أبي رجُل شجاع إلى أقصى درجة، وهو كان يُبقي عوارض مرضه مخفيّة عنّي وعن الجميع، آملاً أن يستطيع البقاء حيًّا حتّى أكبَر قليلاً. لكنّ النهاية أتَت. إسمَع، هو يُريدُ أن يراكَ، على إنفراد. سأكون هنا بانتظاركَ.

 

دخلتُ الغرفة والدموع تملأ عَينَيّ، فذلك الرجُل العظيم كان سيرحَل مِن حياة ابنه وحياتي، وهي خسارة كبيرة لا بل لا تُقاس. إقترَبتُ مِن سريره وهو طلَبَ منّي الجلوس على الكرسيّ إلى جانبه. كان المسكين شاحِبًا ونحيلاً وبالكاد تعرّفتُ إليه. أمسَكَ الرجُل بِيَدي وقال لي بصوت بالكاد مسموع:

 

ـ لا تترك طارق أرجوكَ... أنتَ كلّ ما لدَيه، أنتَ بمثابة أخيه... لَم نستطِع وزوجتي المرحومة الانجاب مِن بعده... آه زوجتي... أنا راحلٌ إليها... كم أنا مُشتاقٌ إليها!

 

ـ لا تخَف يا عمّي، بالفعل طارق بمثابة أخي فلقد ارتبطَ مصيرانا إلى الأبد، أعِدُكَ بذلك.

 

ـ أرَحتَ قلبي... فلقد أحسنتُ الاختيار، أحسنتُ الاختيار، أنتَ تمامًا كما توقّعتُكَ أن تكون. إبعَث لي ابني مِن فضلكَ، فالنهاية باتَت وشيكة... ولا تنسَ وعدكَ لي!

 

فارَقَ أب طارق الحياة في اليوم نفسه وحزني عليه كان كبيرًا. لَم أترك طارق على الاطلاق، بل رحتُ أسكنُ معه في بيته كَي لا يكون لوحده. بقيتُ طبعًا أزورُ أهلي وأقصدُ الجامعة يوميًّا. تعِبتُ كثيرًا لكن فقط جسديًّا، فقلبي كان بالفعل سعيدًا بكلّ الذي كنتُ أفعله.

وعندما زالَ الحزن قليلاً عنّي، تذكّرتُ كلمات أب طارق الأخيرة: "لقد أحسنتُ الاختيار". وعلى الفور فهمِتُ ما قصدَه الرجُل، فهمِتُ ما هو فعَلَ! ولأتأكّد مِن الموضوع، قصدتُ مُختارنا السابق، هو نفسه الذي دبَّرَ لي المنحة عبر المؤسّسة الخيريّة. كان قد أصبَحَ كبيرًا في السنّ لكنّه بقيَ نشيطًا ويمتلكُ كامل عقله. سألتُه:

 

ـ منحَتي لَم تأتِ مِن جمعيّة خيريّة، أليس كذلك؟ لا تنكُر أرجوكَ... على كلّ الأحوال ماتَ المُحسِن إليّ ولا داعٍ للسرّيّة بعد الآن.

 

ـ صحيح ذلك... رحمه الله... هو قصدَني يومًا لإيجاد أخ لابنه، ولَد في مثل سنّ طارق ومِن عائلة مُحترمة وتقيّة وفقيرة ليفعل الخَير في آن واحِد. دفَعَ أب طارق بلا ملَل كلّ أقساط المدرسة والجامعة، وترَكَ معي المبلغ اللازم لتُنهيَ اختصاصكَ. رحمه الله!

 

وأدركتُ كيف أنّ أب طارق دفَعَ ابنه لتقاسُم زوّادته معي، وكيف أنّه احتفَلَ بعيد ميلاد طارق في المدرسة مِن أجلي. فذلك الرجُل خلَقَ لأبنه أخًا يُرافقه مدى حياته بدافِع الحبّ، فعَلَ ذلك ليس فقط مِن أجل ابنه بل مِن أجل ابن أناس غرباء هم بحاجة لماله واهتمامه. نعم، لقد جمَعَ بين صبيَّين لَم يكونا ليجتمعا أبدًا مِن حيث الطبقة الاجتماعيّة والمُحيط. وهو أثبَت أنّ الإنسان هو الإنسان بعيدًا عن كلّ الاعتبارات الأخرى، فصداقتي لطارق كانت مِن دون غاية لعدَم معرفتي بأنّ الأب هو الذي يُحسِنُ إليّ.

لَم يعرِف أبدًا طارق ما فعلَه أبوه، ولَم أقُل له شيئًا بل اكتفَيتُ بالبقاء إلى جانبه. تخرّجتُ وتمرّنتُ وأصبحتُ طبيبًا بفضل أبيه، وهو صارَ مُحاميًا. نجَحَ كلانا في مهنته واستطعتُ أخيرًا تحسين حالة أهلي.

تزوّجَ طارق قَبلي، ثمّ وجدتُ صبيّة أحببتُها وأحبَّتني فتزوّجتُ بدوري وأنجَبنا. ومنذ صغرهم، أقصُّ على أولادي قصّة الرجُل الطيّب الذي ساعَدَ ولَدًا فقيرًا وأعطاه فرصة جديدة في الحياة. وعندما يكبرون قليلاً، سأكشفُ لهم عن اسم ذلك الولَد الفقير لأملأ قلبهم بالحبّ والأمَل والامتنان.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button