كنتُ فخورة بزوجي مهنّد وبشهاداته، فرغم سنّه كان قد حصل على الدكتوراه وطُلبَ منه أن يعلّم في جامعة مشهورة بمستواها العلمي الرفيع، تقع في محيط سكننا. وكنّا من جرّاء ذلك، سنحصل على إمتيازات عديدة، منها الطبابة المجانيّة وإمكانيّة تعليم أولادنا على نفقتهم ناهيك عن معاش مُغري جداً. لم يكن لنا أطفال بعد، فلم يمرّ على زواجنا أكثر من سنة وهذا الوضع الجديد شجّعنا على الإنجاب. فتركتُ عملي كسكريتيرة ﻷحضّر نفسي لحمل قريب. في هذه اﻷثناء، بدأ مهنّد عمله في الجامعة ولاقى حماساً كبيراً من قبل التلامذة بسبب سنّه الصغير.
ومرّت الأيّام بهدوء وهناء وإعتقدتُ أنّ حياتي ستكون كلّها هكذا ولكنني كنتُ مخطئة. فبعد فترة قصيرة، بدأت أمور غريبة تحصل لنا. في البدء كانت أشياء صغيرة، ثم تفاقمَت لتصل إلى حدّ خطير. ففي ذات يوم، عندما كنتُ عند البقّال أبتاعُ الخضار، جاء صاحب المحل وسألني:
- أنتِ زوجة الأستاذ مهنّد أليس كذلك؟
- أجل... ولكن لماذا هذا السؤال فأنتَ تعرفني جيّداً!
- أستاذ مهنّد الذي يعلّم في الجامعة هنا؟
- أجل أجل ولكن...
لم يدَعني أكمّل، ﻷنّه دخلَ محلّه وإختفى وراء الخضار. ضحكتُ لغرابة الموقف وذهبتُ إلى البيت. وعندما عاد زوجي من عمله أخبرتُه ما حصل فقال لي:
- إنّهم أناس بسيطين... إبنتهم تلميذة عندي... لا تكترثي لما قد يقولونه...
- لم يقل شيئاً، سألني فقط إن كنتُ زوجتكَ.
- أعرف ما قاله لكِ ولكنني أستبقُ الأمور فقط.
جملته الأخيرة هذه أثارَت إستغرابي ولكنني سرعان ما نسيتُ الأمر لإنشغالي بسفرة صغيرة إلى قبرص كنتُ أحضّرها مع صديقاتي. فكان الطبيب قد نصحني بالذهاب إلى مكان هادئ والإستمتاع بوقتي إن كنتُ أريد الإنجاب. وبعد بضعة أيّام، ركبتُ قارب كبير وذهبتُ برحلة إلى حيث الشواطئ الجميلة وفي قلبي غصّة ﻷنّ زوجي العزيز لم يستطع مرافقتي. قضيتُ في قبرص أياماً جميلة ولكن مهّند كان دائماً في فكري وعملتُ جهدي أن أتصل به يوميّاً ﻷقول له كم أنا مشتاقة له. ولكن في إحدى الليالي، شعرتُ بوحدة عميقة وأخذتُ هاتفي وطلبتُ زوجي ولكنّه لم يجب. إستغربتُ كثيراً ﻷنّه في هذه الساعة يكون قد عاد إلى المنزل وأصبح في فراشه. فطلبتُ رقم البيت ظانّة أنّ بطاريّة جواله قد تكون فارغة ولكنّه لم يجب أيضاً. حينها إنشغل بالي كثيراً وخفتُ أن يكون حصل له مكروهاً. وبعد التفكير بوسيلة للإطمئنان قررتُ الإتصال بجارتي وطلبتُ منها أن تدقّ بابنا لتتأكد من أن مهنّد بخير:
- أنا آسفة للإزعاج بهكذا وقت... أنا مسافرة وأحاول الوصول إلى زوجي ولكن من دون جدوى... لا أدري حتى إن كان في المنزل...
- هو في المنزل ﻷنني رأيتُه منذ ساعتين يركن سيّارته في المرآب.
- حسناً... هل لكِ من فضلكِ أن تدقّي بابنا... أخشى أن يكون قد حصل له مكروهاً... سأبقى على الخط... أنتظر منكِ الجواب.
وذهبَت جارتي لتفعل ما طلبتُه منها وعادَت وقالت لي:
- قرعت الباب وسمعتُ صوت أقدام ولكن لم يفتح لي أحد. صرختُ له من وراء الباب أنّكِ تحاولين الإطمئنان عليه وأنّكِ على الهاتف معي ولكنّه لم يجب. ومن ثم سمعتُ...
- ماذا سمعتِ؟
- سمعتُ وكأنّه يتكلّم مع أحد بصوت خافِت ومن بعدها ساد الصمت. أنا آسفة...
لم أدرِ ما أفعل بهذه المعلومات التي جاءتني من بعيد ولكنني وعدتُ نفسي أن أسأل زوجي عندما أعود عن سبب عدم ردّه على الباب وفتحه للجارة. وفي اليوم التالي إتصلتُ بمهنّد وكان يبدو طبيعيّاً وكأنّ شيئاً لم يحصل. أمّا أنا فلم أثِر موضوع الليلة الفائتة. وبعد يومين وصلتُ البلد وبرأسي شيء واحد: معرفة الذي حصل بغيابي. وأعطاني مهنّد تفسيرا بسيطاً ومنطقيّاً:
- حبيبتي... ذهبتِ إلى قبرص لترتاحي وها أنتِ تشغلين بالكِ بأمور تافهة... ألا تريدين أن يكون لنا طفلاً جميلاً؟ في تلك الليلة غفوتُ أمام التلفاز ولم أسمع الهاتف يرن ﻷنني كنتُ قد أخفيتُ صوته وعندما دقَّت الجارة الباب ورأيتُها من الناضور نظرتُ إلى نفسي ووجدتُ أنني كنتُ قد خلعتُ ثيابي، فلم أستطع فتح الباب لها ولا التكلّم معها وجعلتُها تظنّ أنني لستُ في البيت. أمّا الأصوات التي سمعَتها هي أصوات التلفاز.
إرتحتُ كثيراً لما قاله لي وذهبتُ في اليوم التالي عند جارتي ﻷشكرها وﻷروي لها ماذا حصل. ولكنّها هزّت برأسها وقالت:
- أنا أعلم ماذا سمعتُ ولن تقنعينني بغير ذلك... إسمعي... نحن نعيش في بلدة صغيرة والجامعة تضمّ أولادنا... هناك إشاعات كثيرة حول زوجكِ... أقول إشاعات لكي لا أظلم أحد... أعلم أنّكِ تحاولين الإنجاب وإذا كنتُ أستطيع إعطاؤك نصيحة، فهي أن تأخذي وقتكِ وألا تتسرّعي... ليس قبل أن تتأكدّي ما الذي يُحكى...
- لا أفهم ما الذي تقصدينه! أيّ إشاعات؟
- أعلم أنّكِ ستكرهينني الآن... ولكن يقال أن زوجكِ يقيم علاقات مع تلامذتِه البنات ويعطيهن علامات جيّدة من جراء هذا.
- هذه كلّها أكاذيب! لا أصدّقكِ! مهنّد رجل جذّاب ونال منصب الكثير يحسدونه عليه، فمن المؤكدّ أنّ هذا سيثير النقمات بين زملائه ومحاولات لتشويه سمعته. أنتِ تعرفيننا جّيداً وأستغربُ أنّكِ تشكّين بوفاء زوجي لي!
- كم أنتِ ساذجة... أعذريني حبيبتي فأنا بمثابة أمّكِ وأكره أن أراك تتأذّين... أعدكِ ألا أثير الموضوع مجدداً ولكن إعلمي أنّ بابي دائماً مفتوح لكِ.
تركتُها دون أن أودّعها لكثرة غضبي وركضتُ أخبر مهنّد بالذي يُقال عنه. إجابته كانت سريعة:
- هذا كلّه من الغيرة والحسد ولا تنسي أن التلامذة الذين يرسبون يحاولون دائماً إيجاد مبرراً لفشلهم. تعلمين كم أحبّكِ... أشكركِ على ثقتكِ بي وعلى إخباري بكل شيء يحصل معكِ ومعنا... هكذا يجب أن تكون العلاقة بين الزوجين... علاقة مبنية على التواصل والثقة. أشكر الله على إعطائي زوجة مثلكِ.
وقبّلني بشغف وشعرتُ بحبّه القويّ وتأكّدتُ أنّ كل هذه الإشاعات لا أساس لها بتاتاً. ووعدتُ نفسي أن أحارب كل من يحاول التفريق بيني وبين حبيبي. وليثبُتَ لي مهنّد حسن نواياه، أخذ إجازة من الجامعة وذهبنا سويّاً إلى فندق في الجبل لنمضي أياماً شبيهة بشهر عسل جديد. كم كنتُ سعيدة... على الأقل أوّل يومين...
يتبع...
حاورتها بولا جهشان