ما السرّ وراء موت أبي؟

صعِدتُ السلالم كالمجنونة لدى وصولي بيت أهلي، وبعد أن إتّصلَت بي أمّي وهي تصرخ وتبكي لأنّ أبي أنهى حياته بإطلاق النارعلى نفسه. في البدء لَم أفهَم ما كانت تقوله إلى حين استوعَبتُ ما حصَل، فركبتُ السيّارة تاركةً عمَلي ومُتوجِّهة إلى المكان الذي وُلِدتُ وربيتُ فيه. منعَني شرطيّ مِن دخول بيت أهلي، فكانت الشرطة قد وصلَت مع الطبيب الشرعيّ إذ وجَبَ عليهم التحقيق في الحادثة والتأكّد مِن أنّ المسألة هي انتحار وليس جريمة قتل. ركضَت أمّي إليّ فاحتضَنتُها، وبكينا سويًّا وأنا أسألها عن الذي حدَث ليُقدِم والدي على هذه الفعِلة المُفاجئة. فلا شيء فيه دلَّ على رغبة ما في الموت، إذ أنّه كان إنسانًا فرِحًا ومرِحًا ولدَيه شعبيّة كبيرة بين الناس. أجابَتني والدتي أنّها لَم تشكّ بشيء، إذ أنّها كانت في المطبخ تُحضِّر الفطور حين سمِعَت صوت الطلقة، فأسرعَت بدخول غرفة النوم للعثور على زوجها ورصاصة في رأسه. هي حاولَت إنقاذه لكن مِن دون جدوى، فاتّصلَت بالطبيب وبي وجلَسَت لوحدها وهي مُلطّخة بدماء الفقيد بانتظار قدوم أحَدنا. أكَّدَ الطبيب الشرعيّ أنّ موت أبي سببه الانتحار، بعد أن فحَصه وبعد أن وجَدَ تحت الوسادة رسالة وداع موجّهة لنا. المسكينة أمّي لَم ترَ الرسالة مِن كثرة هلَعها، فأعطَتنا إيّاها الشرطة. وهذا ما جاءَ فيها: "يا أحبّائي... سامحوني... سامحيني يا زوجتي فأنا لا أستحقّكِ أبدًا... سامحيني يا إبنتي الوحيدة التي لطالما اعتبَرتِني أفضل أب في العالَم... سامحوني يا إخوتي وأقاربي، فلقد خذلتُكم كلّكم بموتي. الوداع."

 

لَم أفهَم أبدًا ما قصَده أبي، وكذلك والدتي، لكنّ الوقت لَم يكن للتفسيرات بل للبكاء، وتنظيم مراسم الدفن وتبليغ العائلة والناس. إتّصلَتُ بخطيبي طالبةً منه المجيء بعد أن أخبرتُه بما جرى، وهو ترَكَ كلّ شيء ووافاني بسرعة. كَم كنتُ سعيدة برؤيته، فوجوده أشعرَني بالأمان في وقت كنتُ بالفعل ضائعة لأقصى درجة.

مراسم الدفن كانت مؤلِمة، ليس فقط بسبب حزننا، بل أيضًا لأنّنا لاحظنا وسمِعنا التلميحات حول دوافِع أبي لقتل نفسه. فالناس لا ترحَم بعضها، حتّى في أصعَب الأوقات. عندها، أخذتُ القرار بمعرفة ما دفَعَ والدي لإنهاء حياته، وإسكات الألسن إلى الأبد. فهناك مَن ألقى اللوم على أمّي، وهم بمعظمهم مِن جهة والدي طبعًا. أمّا الذين هم مِن جهّة أمّي فقالوا إنّ لدَيه حياة سرّيّة بشِعة أرادَ الهروب منها. للحقيقة، لَم أرَ أبدًا أمّي وأبي يتشاجران بل كانا، وحتّى آخِر لحظة، ما أسمَيتُه "الثنائيّ المثاليّ". ولَم أشكّ يومًا بوفاء والدي لأمّي أو أيّ شيء يدلّ على أنّ لدَيه أسرارًا.

لِذا إستعَنتُ بخطيبي طالبةً منه التقصيّ بطريقة خفيّة جدًّا عن حياة والدي وبالطرق التي يراها مُناسِبة، شرط أن يأتي لي بجواب قاطِع، مهما كان. فلَم أعُد طفلة وبإمكاني تقبّل كلّ شيء حتّى لو كان مُتعلّقِا بأقرب الناس إليّ.

مِن جهّتي، فعلتُ الشيء نفسه، إذ أنّني زرتُ الأقارب وزملاء أبي في عمَله السابق، إذ أنّه كان مُتقاعِدًا، لكنّه أبقى تواصلًا وطيدًا معهم. ثمّ بدأتُ أتحرّى لدى الجيران، فغالبًا ما يعرفُ هؤلاء الكثير عمّا يجري في المبنى والحَيّ.

سمعتُ الروايات العديدة لكنّني كنتُ أعلَم أنّها إستنتاجات أكثر مِمّا هي وقائع فعليّة، فخيال الناس واسِع للغاية. وبعد فترة، حين جمعتُ وخطيبي كلّ ما وجدناه، إتّضَحَ أنّنا لا نزال لا نعرفُ شيئًا.

لَم تعرِف أمّي شيئًا عن بحثي لمعرفة الحقيقة، فحزنها كان كافيًا، إذ أنّها هي الأخرى احتارَت كثيرًا ولَم أرِد أن أزيدَ مِن ضياعها، لكنّني وعدتُ نفسي بإطلاعها على الحقيقة مهما كانت، هذا إن توصّلتُ إليها، فكان مِن حقّها أن تعلَم لتتمكّن مِن مُتابعة حياتها. لو يعلمُ حقًّا مَن ينتحِرون كَم أنّهم يُسبّبون مِن حيرة وضياع وحزن لمُحيطهم، أنا مُتأكّدة مِن أنّهم لَن يقدموا على فعلتهم.

مرَّت الأشهر ونحن في الحالة نفسها، إذ أنّنا لَم نعُد قادرين على التفكير بشيء آخَر، وأعترفُ أنّني وأمّي لَم نُعطِ لأبي الحزن الذي يستحقّه موته، كما تجري العادة حين يفقد المرء شخصًا عزيزًا على قلبه. وهذا بالذات عذّبَني كثيرًا، فأردتُ أن أبكيَ والدي وحسب، وليس طريقة موته التي ولّدَت أيضًا شيئًا مِن الغضب، لأنّ والدي اختارَ الطريقة الأسهل للهروب مِن الذي كان يتفاداه، أيًّا كان.

علِمتُ الحقيقة وراء انتحار أبي صدفةً، كما يحصل غالبًا عندما نبحثُ بكثافة عن شيء. حصَلَ ذلك يوم وقعتُ عن السلالم وأخذَني خطيبي إلى المشفى، فكان مِن الواضح أنّني كسَرتُ رجلي وربّما مِعصمي. لَم أقُل لأمّي ما حصَل لي لأُجنّبها الهمّ وشغلة البال. إنتظرنا في قسم الطوارئ حتّى يرانا طبيب ما، ويُقرّر إن كنتُ بحاجة إلى عمليّة جراحيّة أم لا، حين قالَت لي إحدى الممرّضات:

ـ إسم عائلتكِ مألوف لدَي... فهو إسم غير شائع. هل أنتِ قريبة للسيّد كمال؟

 

ـ هل تتكلّمين عن أبي؟ فهكذا إسمه.

 

ـ يا للرجُل اللطيف! جاء مرّات عديدة إلى المشفى... ليس إلى قسم الطوارئ، إذ كنتُ آنذاك في قسم الأشعّة.

 

ـ ربّما ليس أبي، فهو كان بصحّة جيّدة.

 

ـ بلى، بلى... فأنا أرى الشبَه بينكما... كيف حاله الآن؟

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ رجُل شجاع... كان يأتي لوحده... هل أنّه يتألَم كثيرًا؟

 

عندها قالَ لها خطيبي بعد أن فهِمَ ما لَم أفهَمه:

ـ أجل، يتألّم لكنّنا موجودون حوله.

 

نظرتُ إلى خطيبي بتعجّب، فكيف له أن يتكلّم عن أبي بصيغة الحاضر؟ لكنّ المُمرّضة تابعَت:

ـ نوع السرطان الذي هو مُصاب به مؤلِم للغاية، ويتطلّب عناية مُستمِرّة مِن قِبَل العائلة، إذ يُصبح المرء عاجِزًا شبه كلّيًّا.

 

كبَتُّ صرخة حين استوعَبتُ ما يُحكى، وبالكاد استطعتُ سؤالها:

ـ منذ متى كان والدي يعلَم بحالته؟

 

ـ منذ الأوّل... رجُل قويّ... لَم يُصَب بالخوف كباقي المرضى، بل بقيَ يُردّد "أعلَم ما عليّ فعله"... قولي لي يا آنسة، كيف حاله الآن؟ فهو باتَ قريبًا مِن النهاية.

 

ـ إنّه... إنّه...

 

تدخَّلَ خطيبي على الفور قائلًا:

ـ لقد ماتَ، مُحاطًا بعائلته والحمدلله.

 

إبتسمَت المُمرّضة:

ـ كان دائمًا يقولُ إنّ عائلته تأتي أوّلًا بالنسبة له، وأنا سعيدة لأنّه رحَلَ مُحاطًا بكم بالذات... رحمه الله.

 

بدأتُ أبكي كالطفلة بعد أن استوعَبتُ أنّ والدي قتَلَ نفسه ليُجنِّبنا الاهتمام به، وربّما ليتجنّبَ الاذلال بالشعور بالعجز، في حين كان رجُلًا قويًّا طوال حياته. لماذا لَم يُطلعِنا على حالته الصحّيّة؟ كيف استطاعَ اجتياز كلّ تلك المراحِل لوحده وإظهار نفسه سعيدًا ومُرتاح البال أمامنا؟

أدخلوني إلى غرفة العمليّات، ولو لَم أكن بحاجة إلى تلك العمليّة، لرجِعتُ إلى البيت وبكيتُ على سجيّتي. ولدى عودتي، جلَستُ مع أمّي وأخبرتُها كلّ ما عرفتُه. هي الأخرى أطلقَت صرخة لدى سماعها عن مرَض زوجها، ثمّ بكَت بحرارة مُردِّدة: "هكذا كان... لا يُحِبّ أن يُلقي بثقله على أحَد... لكن لو تكلّم... لكنتُ فدَيتُه بروحي! يا حبيبي... مرضتَ ومُتَّ بالسِرّ... ولوحدكَ! لماذا الصمت؟!؟".

إرتحنا كثيرًا بعد أن علِمنا دوافع والدي، لكنّنا لُمناه كثيرًا، فصحيح أنّ المرء يجِد صعوبة بأن يُعذِّب أحبّائه بالاعتناء به، إلّا أنّها سنّة الحياة. ألَم يهتمّ بي أبي حين كنتُ صغيرة؟ وأنا لم يتسنَّ لي ردّ الجميل له ومواكبته وأمّي إلى لحظة رحيله عنّا. لبرهة، غضبتُ منه ولُمته لفترة، لكنّني عدتُ واحترَمتُ قراره. إلّا أنّ خطيبي الذي أصبَحَ زوجي، حملَني على أن أقسمُ له بأنّني لن أفعل مثل أبي إن حدَثَ أن مرضتُ، وأنا بدوري جعلتُه يُقسم لي الشيء نفسه، فالانتحار ليس الحلّ، بل الانصياع إلى رغبة الخالِق الذي يُقرِّر متى سيستقبل في رحمته روح خلقه، وليس نحن.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button