يوم جاءَت ليلى إلى الشركة للقيام بفترة تدريب مؤقّتة حيث يعمَل خطيبها، وجدتُها لطيفة على عكس الذي ستتزوّجه. فالحقيقة أنّ باسم إنسان غليظًا لأقصى درجة ونرجسيًّا، ويهوى النساء كثيرًا. فهو لَم يُفوِّت فرصة لِمُغازلة كلّ موظّفة في الشركة أكانت صغيرة أو أكبَر سنًّا، عزباء أو مُتزوِّجة لِدرجة أنّه لُقِّبَ بـ "الروميو الفاشِل". لَم نشكّ أنّه مخطوب بسبب تصرّفاته، فتصوّروا مُفاجأتنا في الشركة! وشاءَت الظروف أن أوكَلَ مُديرنا مُهمّة تدريب ليلى لي، فقضَينا وقتنا سويًّا، وتسنّى لي معرفتها أكثر وكذلك تفاصيل علاقتها بِـ "روميو". ومنذ وصولها، هي شاهدَت كيف يتصرّف خطيبها، أيّ وكأنّه عبقريّ عصره، بإعطاء الأوامر لزملائه مِن غير صفة تخوّله لذلك، وكيف أنّ الجميع يتفاداه قدر المُستطاع. خالَت ليلى أنّ الكلّ يهابُ باسم بسبب أهمّيّته في الشركة، وافتخرَت به مع أنّني شرَحتُ لها أنّه موظّف عاديّ للغاية وقدراته المهنيّة محدودة. قلتُ لها ذلك بطريقة ودّيّة وبريئة طبعًا، ففي آخِر المطاف كانت ستصبح زوجته وأمّ أولاده.
مرَّت الأيّام وصِرتُ مُقرّبة مِن ليلى، وهي اطمأنَّت لي كثيرًا ففتحَت لي قلبها، وعلِمتُ منها أنّ باسم أقنعَها بأن تعيش أمّه معهما بعد الزواج، مع أنّ الوالِدة لدَيها بيتًا خاصًا بها وأولادًا عُزّابًا، وأنّها وعريسها وأمّه سيعيشون في شقّة صغيرة بالإيجار مِمّا قد يفسَحُ المجال لأحَد إخوته بالزواج أيضًا والسكَن في البيت العائليّ. وجدتُ الأمر مُريبًا لكنّني لَم أقُل شيئًا، ولَم أفهَم لماذا تلك الصبيّة الحسناء تُضحّي مِن أجل إخوة خطيبها لهذه الدرجة.
وفي أحَد الأيّام، شبَّ شجار حادّ بين أحَد الموظّفين وباسم، لأنّ ذلك الأخير قلَّلَ مِن احترامه وتنمَّرَ عليه للمرّة الألف. تدخَّلَ المُدير وهدّأ الأحوال، فأسرَعَت ليلى بالقول لي: "يبدو خطيبي فظًّا مِن الخارج لكنّه كالطفل الصغير، بريء وطيّب". نظرتُ إليها باندهاش فكان مِن الواضح أنّنا لا نتكلّم عن الرجُل نفسه. ثمّ هي أضافَت:
ـ إنّه جدًّا حنون معي.
ـ بالطبع، فهو لا يُريدُ إخافتكِ، فأنتِ العروس المثاليّة!
ـ ماذا تعنين؟
ـ لا شيء... لدَيكِ عينان وأذنان فاستعمليهم! لا أُصدّق أنّ أحداً بهذه السذاجة!
تركتُها لوحدها لأقصد الزميل الذي تشاجَرَ مع "روميو"، وهي بقيَت صامِتة طوال اليوم وغادَرت الشركة في آخِر الدوام مِن دون أن تودِّعَني.
شعرتُ بالذنب حيال ما قلتُه لليلى، ففي آخِر المطاف علاقتها بباسم لَم تكن مِن شأني. على كلّ الأحوال، هي كانت ستتركنا قريبًا بعد انتهاء فترة تدريبها ولن أراها بعد ذلك.
مرَّت الأيّام وحصلَت مُفاجأة أخرى: لَم تُغادِر ليلى الفرع، بل صارَت موظّفة شأننا، مع أنّها لَم تُفصِح لنا عن شيء بهذا الخصوص. لكنّ المُفاجأة الأكبَر كانت أنّها ستشغل وظيفة هي لَم تتدرَّب عليها ولَم تكن قادِرة فعليًّا على القيام بها، فبدأنا نتساءَل عن خلفيّات تنصيبها. ويوم بدأَت ليلى بالعمَل رسميًّا معنا، لاحظتُ عليها تغيّرًا جذريًّا بتصرّفاتها وشخصيّتها، أعني أنّها لَم تعُد صبيّة خجولة ومُنزوية، بل مليئة بالثقة والعَزم. بارَكتُ لها لكن بتحفّظ وعدتُ إلى مهامي.
مِن جانبه، كان باسم سعيدًا لأقصى درجة إذ أنّه استطاعَ أن يُمرِّر خطّته مِن دون أن ينتبِه له أحد، الأمر الذي زادَه ثقة بتفوّقه الوهميّ علينا، وصارَ ذلك الثنائيّ محوَر أحاديثنا في الشركة وخارجها. لكنّني كنتُ مُطمئنّة لأنّ فشَل ليلى بوظيفتها كان أمرًا محتومًا، ولا بدّ أن يستوعِب مُديرنا أنّها غير قادِرة على القيام بما يُطلَب منها، فصبِرتُ وراقَبتُ وابتسَمتُ وكأنّني موافِقة على ما يدور.
تمّ زواج ليلى وباسم ولَم يحضُر أيّ منّا الفرَح، بعد أن أعطى كلّ منّا لهما عذرًا مُقنِعًا، فغضِبَ منّا "روميو" لأقصى درجة مُعتبِرًا ذلك إهانة له ولعظمَته. وما زادَ مِن غضبه، هو أنّنا لَم نُهدِه شيئًا كما تجري العادة بين الزملاء، فأنّبَنا مُديرنا شارِحًا أنّه يجب أن نتحلّى بروح الزمالة في ما بيننا. ضحكنا في سرّنا لكنّنا لَم نلتزِم بتوصياته. في تلك المرحلة لَم أعُد أبدًا مُهتمّة بمصير ليلى مع زوجها وحماتها، وبالكاد كنتُ أتبادَل معها الكلام أثناء العمَل، وحصَلَ مرّات عديدة أنّني تمنَّيتُ ضمنيًّا لها أن تتعذّب مع أم زوجها، لأنّها غشَّتنا جميعًا بتمثيل دور المُتدرِّبة المسكينة.
لكن كَم استغرَبنا حين ترَكَ باسم العمَل في الفرع ليتوظّف في فرع آخَر لنا وبأجر أعلى، مع أنّه لَم يكن أبدًا يستحقّ ذلك، وشعرتُ بأنّ ذلك الانتقال كان مُدبَّرًا مُسبقًا. شرحتُ لزملائي أنّ باسم جاءَ بزوجته لأنّه مُغادِر، أيّ "ليُعطيها مكانه"، لكنّهم لَم يوافقوني الرأي لأنّهم لَم يشكّوا بأنّه قادِر على هذا الكمّ مِن الحنكة. هم كانوا على حقّ، لأنّ ليلى هي التي خطَّطَت لكلّ شيء. لكن في ذلك الوقت، كنتُ لا أزال أحسبُها شريكة مُطيعة لزوجها الماكِر وحسب. للحقيقة، رحيل باسم أراحَنا لكثرة غلاظته وتشاوفه وتحرّشه، لكنّه كان في آخِر المطاف "الروميو الفاشِل" وكنّا قد اعتدَنا عليه. أمّا في ما يخصّ ليلى، فهي كانت غامِضة وخطيرة كما اكشَفنا لاحقًا.
فذات يوم، أعلَنَ مُديرنا أنّ زميلنا، هو نفسه الذي تشاجَرَ مع باسم في ما مضى، "سيتركنا"، أيّ أنّه طُرِدَ مِن الشركة تحت ذريعة أنّه موظّف مُهمِل لا يقوم بواجباته بل يدّعي العمَل، الأمر الذي سبَّبَ للفرع خسائر كبيرة. تفاجأنا كثيرًا إذ أنّ ذلك الموظّف كان بالفعل كفؤًا ويعمَل بضمير. علِمنا على الفور أنّ لِليلى وباسم دخلًا بالموضوع، لكنّها كانت فقط شكوك مِن دون يقين. بعد ذلك، تغيّرَت الأجواء في الفرع، وصِرنا صامتين ومُترقّبين لأيّ حرَكة أو حدَث. وشعرتُ أنّ دوري سيأتي عاجِلًا أم آجلًّا، ألَم أنعَت ليلى بالساذِجة؟
بعد فترة قصيرة، علِمنا أنّ ليلى حامِل واضطرِرنا للمُباركة لها، فجلَبنا لها هديّة للمولود القادِم بعد أن رأى زملائي أنّه مِن الأفضل ألّا نُغضِبها. لَم أُشارِكهم الرأي أبدًا، لكنّني امتثَلتُ لرغبتهم، وأُجبِرتُ على تلبية دعوة ليلى وباسم لتهنئتهما في منزلهما. كانا قد اجبرانا على الانصياع خاصّة بعد الإهانة التي تلقّاها لدى زواجهما. وكَم كانت مُفاجأتي كبيرة حين اكتشفتُ أنّ المنزل الذي يعيشان فيه هو منزل أمّ باسم وليس شقّة صغيرة بالإيجار كما ادّعَت ليلى! وأنّ أمّه وإخوَته هم الذين انتقلوا مِن البيت للعَيش في مكان آخَر، بالإيجار! آه، يا ليلى، لستِ ساذِجة أبدًا، بل أنا الساذِجة! ورأيتُ البسمة على وجهها وهي تنظر إليّ وكأنّها تقول لي: "فاجأتُكِ، أليس كذلك؟".
وأوّل شيء فعلتُه حين عدتُ إلى البيت في ذلك اليوم، هو البدء بالتفتيش عن عمَل آخَر، فكان مِن المحتوم أنّ أيّامي في الشركة معدودة. على كلّ الأحوال، لَم أعُد أهوى عمَلي كالسابق، فكنتُ أذهب إلى الشركة مُكرهةً وأنتظرُ بفارغ الصبر موعد انتهاء الدوام. زملائي كانوا أيضًا في مثل حالتي، فتغيّرَت نوعيّة العمَل، الأمر الذي أثّرَ على مردود الفرع. لكنّ مُديرنا لَم يبدُ لنا مهمومًا لهذه النتائج السلبيّة، الأمر الذي أثارَ اندهاشنا، فكلّنا توقّعنا منه توبيخات وتهديدات. لِذا قرّرتُ أن أتقصّى سرّيًّا عن تلك اللامُبالاة المُريبة وأفتَحَ أذنَيَّ وعَينَيّ جيّدًا.
لَم يتطلَّب الأمر كثيرًا لأفهَم ما يدور: فكان مُديرنا على علاقة وطيدة لا بل حميمة مع ليلى. كان يجدرُ بي أن أفهَم ذلك منذ زمَن، إلّا أنّني إنسانة طيّبة وبريئة نوعًا ما، ولا تخطُر ببالي هكذا أمور. فأوّل شيء لاحظتُه كانت تلك النظرات التي يتبادَلها الرجُل مع عشيقته. نظرات إعجاب خاطِفة تليها شِبه بسمة. ثمّ كان أيضًا دخول ليلى إلى مكتبه مرّات عديدة في اليوم لوقت وصفتُه بالطويل. وفي يوم مِن الأيّام، ألصقتُ أذُني على باب مكتب المُدير وسمِعتُ أشياء أتمنّى لو أنساها. عندها جمَعتُ الموظّفين وأطلعتُهم على ما صِرتُ أكيدة منه، فأقَمنا شبكة تجسّس تضمّنَت التنصّت والمُراقبة في الفرع وخارجه. دافعُنا لَم يكن فقط المُحافظة على وظيفتنا، بل أيضًا الثأر لزميلنا الذي تمّ طرده. جمَعنا أدلّة كافية، خاصّة بعد أن أخَذَ أحَدُنا صوَرًا لليلى وهي تلتقي بمُديرنا بعد الدوام، وتصعد معه في السيّارة مرّات عديدة في الأسبوع. عمِلنا بسرّيّة تامّة بينما خالَت ليلى أنّنا صِرنا تحت وطأتها تمامًا. وعندما بتنا جاهزين، رفَعنا ملفًّا مُحكمًا للإدارة العامّة مع توقيعنا جميعًا، ومُطالبين بإقالة العشيقَين وإعادة زميلنا إلى منصبه.
كان الانتظار أليمًا إذ أنّنا خفنا أن تفشَل الخطّة وتنقلِب علينا. فلو لَم تُصدّقنا الإدارة العامّة، كان مِن المحتوم أنّنا سنواجِه انتقامًا شرِسًا. على كلّ الأحوال، مُعظمنا وجَدَ في تلك الأثناء عمَلًا بديلًا، لكنّنا كنّا نُفضِّل لو نبقى في وظيفتنا في الشركة. وفي أحَد الأيّام، جاءَ إلى الفرع رجُلان في بذّات أنيقة واجتمَعا بمُديرنا. علِمنا على الفور أنّهما أتَيا بسبب شكوانا، ثمّ خرَجَ أحدَهما وجلَسَ في مكتب آخَر، وبدأ يستدعينا الواحد تلوَ الآخَر لاستجوابنا، وأبقوا ليلى لآخِر الدوام بعد أن طلَبوا منّا أن نعودَ إلى منازلنا. لَم أنَم على الاطلاق في تلك الليلة، وبقيتُ وزملائي نتبادَل الرسائل والافتراضات لساعات مُتأخِرّة. في اليوم التالي، كان قد اختفى المُدير... وليلى، وحلَّ مكانه شخص آخَر عرَّفَ عن نفسه قائلًا: "أنا مُديركم الجديد وأرجو أن نتعاوَن سويًّا لإعادة الفرع كما كان". وبعد حوالي الساعة، صرَخنا مِن الفرَح، حين دخَلَ زميلنا القديم واستعادَ مكتبه وسط التهاني الحارّة.
توقّعنا طبعًا أن يُطلِّق باسم زوجته حين اكتشَفَ ما كانت تفعله مع مُديرنا القديم، لكنّه لَم يفعَل، بل تابعَ معها حياته بشكل طبيعيّ وبقيَ باسم يتصرّف بوقاحة في الفرع الآخَر. فكان مِن الواضح أنّ "روميو" هو على عِلم بما كانت تفعله زوجته مع المُدير القديم، وقبِلَ به طوعًا أو بالرغم عنه، لستُ أدري. فمِن المؤكَّد أنّ ليلى هي الرأس المُدبِّر، ألَم تغشّني بِلعب دور الخطيبة المسكينة ودور المُتدرِّبة المؤقتّة والكنّة المغلوب على أمرها؟ أظنُّ أنّها التي كانت تُديرُ كلّ شيء للوصول إلى المراكز والمال، وأنّ باسم كان دمية بين يدَيها، ولن أستغربَ إن تخلَّصَت منه يومًا متى اعتبرَته عثرة في طريقها.
شيء أخير... ليلى لَم تكن يومًا حامِلًا، بل أرادَت إجبارنا على تخصيص هديّة لها وزيارة وكرها. ذئبة خطيرة للغاية، ولا أتمنّى لأحَد أن يقَع فريستها.
حاورتها بولا جهشان