لولا حكمة أمي...

كانت قد نبّهَتني والدتي مرارًا لمخاطر ركوب الدرّاجة الناريّة، لكن شأن مُعظم الشبّان، لَم آخذ بنصائحها، وانتهى المطاف بي مُلقىً على سرير مشفى. ندِمتُ كثيرًا لِما حصَلَ لي إلا أنّ الضرَر الذي أصابَني لَم يكن، والحمدُ لله، بليغًا... على خلاف الشاب الذي تقاسَمَ معي الغرفة نفسها. فقد شاءَت الصدَف أن يكون هو الآخر ضحيّة حادث درّاجة ناريّة وأن يكون في سنّ قريب من سنّي. لكنّ المسكين كسَرَ عاموده الفقريّ ورجَّحَ الأطبّاء أن يبقى مشلولاً مدى حياته.

شعرتُ بالأسف حيال خليل، جاري المُصاب، لأنّني كنتُ سأتركُ المشفى بعد أيّام قليلة وأعودُ إلى حياتي العاديّة مُعافىً. فبالكاد وجّهَتُ له الكلام حين كنّا نُترَك لوحدنا ويكون الستار الذي بيننا مفتوحًا. كنتُ أكتفي بابتسامة سريعة له، ثمّ مُتابعة قراءة كتاب جلبَته لي أمّي لأتسلّى. أمّا في ما يخصّ خليل، فكان مِن الواضح أنّ ألَمه الجسديّ والنفسيّ منعاه مِن التحدّث، بل كان يضغطُ بين الحين والآخَر على الجرَس لطلَب المزيد مِن المُسكنّات مِن المُمرّضات.

سألتُ نفسي لماذا أُصيبَ هو باصابة بالغة خلافًا لي؟ هل مِن معنى لذلك أم أنّها مسألة حظ لا أكثر؟ أسئلة لَم تخطُر ببالي قَبل ذلك، وأظنُّ أنّ لأنين جاري دخلاً في بحثي المُفاجئ عن أجوبة وجوديّة. حاولتُ إستمداد تلك الأجوبة مِن مُراقبَتي لخليل وزوّاره وتفاعلهم سويًّا، فقد أفهَم قليلاً ما يُفرّقه عنّي. فلا تنسوا أنّنا، في مُجتمعاتنا الشرقيّة، ننسبُ أسبابًا ماورائيّة لِما يحدثُ لنا أو لغَيرنا.

لاحظَت أمّ خليل كيف أنّني أراقبُهم جميعًا، فإقتربَت مِن سريري وسألَتني عن حادثي وعن نفسي وأجبتُها بكلّ طيبة. ثمّ امتلأت عيناها بالدموع لدى تذكّرها بأنّ إبنها سيبقى أسير كرسيّ مُتحرّك طوال حياته. فقالَت لي وفي عَينَيها وميض أمَل:

 

ـ ما رأيكَ لو تزورُنا بعدما يعودُ خليل إلى البيت؟ أنا مُتأكّدة مِن أنّ ذلك سيُساعده على تخطّي حالته الكئيبة.

 

ـ بكلّ فرَح يا خالتي... لكنّني لستُ مُتأكّدًا، على خلافكِ، مِن أنّه سيسعَد بي، فهو لَم يوجّه أيّ كلمة لي.

 

ـ لا عليكَ، دَع الأمر لي. أعطِني رقم هاتفكَ وحسب.

 

لَم تُمانِع والدتي أن أكون قد أعطَيتُ أم خليل تلك التفاصيل، فكيف لي أن أرفض طلَبًا كهذا لسيّدة ستغرقُ في الحزن كلّما نظرَت إلى ولَدها.

تركتُ المشفى وقلبي خفيف، فلَم أعُد أشعر بالذنب حيال جاري لأنّني سأُساهمُ بترفيهه. ونسيتُ بسرعة أمر خليل لكثرة إنشغالي بسَرد ظروف حادثي لمَن حولي، ففي آخر المطاف كنتُ قد نجوتُ مِن الموت!

 

وفي تلك الفترة، جاءَني إتّصالٌ مِن أم خليل تدعوني وأمّي لزيارتها وخليل في البيت. لبَّينا طلبها بطيبة خاطر، وفرِحتُ لرؤية ذلك الشاب خارج سرير المشفى... لكن سرعان ما حزنتُ حين أدركتُ أنّه سيبقى مُسمّرًا في كرسيّه. قضَينا ساعتَين مع المرأة وإبنها ووعَدناهما بالعودة قريبًا. وخلال تلك الزيارة، تبادَلتُ وخليل بضع جُمل عن أمور مُختلفة وحسب. وأمِلتُ أن يكون أكثر كلامًا في المرّة القادمة.

بعد حوالي العشرة أيّام، سألتُ عن خليل عبر رسائل هاتفيّة وعلِمتُ مِن أمّه أنّه بخير. هي سألَتني متى سأذهبُ إليهما فأجبتُها:

 

- قريبًا يا خالتي. فالآن لدَيّ إمتحاناتي في الجامعة.

 

ولدى سماعها ما قلتُه أجابَتني:

 

- خليل لَم يعُد قادرًا على الذهاب إلى جامعته بسبب إعاقته وحالته النفسيّة!

 

فهمتُ قصدها فرحتُ إليهما في اليوم التالي... والثالث... والرابع، إلى حين تدخّلَت والدتي وسألَتني عمّا أفعلُه بنفسي، أيّ أنّني أُهمِلُ درسي مِن أجل خليل. عندها أجبتُها:

 

- خليل لَم يعُد قادرًا على الذهاب إلى الجامعة... أمّا أنا فلدَيّ الإمكانيّة الجسديّة والنفسيّة لذلك... لا تكوني أنانيّة يا ماما.

 

وعلى مرّ زياراتي للكسيح وأمّه، بدأَ يحدثُ بي تغيّر ملحوظ. فلَم أعُدُ أهتمّ لشيء بالتحديد، وفقدتُ طعم لذّة الإلتقاء بأصحابي وأقاربي وحضور حصصي في الكلّيّة. ففي ذلك البيت المُظلِم والكئيب الذي يسكنُه شاب فقَدَ أملَه في الحياة، وأمّ يدمعُ قلبها على مدار اليوم، في ذلك المكان فقدتُ أنا الآخر حبّي للحياة.

لاحظَت أمّي بوضوح التغييرات التي حصلَت لي، وحاولَت ترفيهي وحثيّ على الخروج مع أصدقائي أو معها، لكنّني كنتُ بالفعل أُفضّلُ البقاء في البيت أو الذهاب إلى خليل. أمّا في ما يخصّ جامعتي، فقد بدأ الأساتذة يشتكون مِن غياباتي وتدنّي علاماتي وإهمالي لفروضي. ولَم يؤثّر أيّ مِن ذلك بي على الإطلاق.

وأمامَ الخطَر الذي واجهتُه بالرّسوب في الجامعة وإحتمال إعادة سنتي أو حتى ترك دراستي كلّها، أجلسَتني أمّي يومًا والهمّ يملأ عينَيها وأمرَتني بالتكلّم عمّا يُسبّب لي تلك الحالة الغريبة. فهي لطالما عرفَتني شابًّا نشيطًا وسعيدًا وطموحًا، وأضافَت أنّه مِن الأفضل لي أن أٌفرِغ لها همومي على التكلّم مع الأخصّائي النفسيّ الذي تنوي أخذي إليه. ولأنّني لَم أكن أُريدُ ذلك، هذا ما قلتُه لها:

 

ـ خليل... وأمّه...

 

ـ ما بهما؟

 

ـ لماذا أنقذَني القدَر مِن الأذيّة الكبرى وليس هو؟

 

ـ ربّما لأنّ حادثه كان أخطَر مِن حادثكَ يا حبيبي، فدرّاجتُكَ إنزلقَت بسبب الطريق المبلول بمياه المطر، أمّا في ما يخصّه، فقد صدمَته شاحنة.

 

ـ ربّما كان عليّ أن أصير كسيحًا أنا الآخَر... أو أن أموت.

 

ـ يا إلهي! لِما هذا الكلام؟!؟ فأنتَ شاب والحياة أمامكَ.

 

ـ على خلاف خليل! شرحَت لي أمّه ذلك بوضوح.

 

ـ قُل لي... ماذا يحدثُ بينكَ وبين خليل حين تكون هناك؟

 

ـ لا شيء... لا شيء.

 

ـ تكلّم!

 

ـ حسنًا، لكن إيّاكِ أن توبّخيها.

 

ـ مَن؟ أمّ خليل؟

 

ـ أجل... ففي كلّ زيارة لي لهما، تقولُ لي إنّ القدَر جمعَني وإبنها في غرفة واحدة في المشفى بعد أن أُصِبنا نحن الإثنَين بحادث درّاجة. وأن أكون قد نجوتُ ليست صدفة على الإطلاق، بل عليّ أن أكون عَونًا دائمًا لإبنها.

 

ـ عونًا دائمًا؟

 

ـ يعني ذلك أنّ الله أوكلَني بأنّ أهتمّ نفسيًّا وجسديًّا بإبنها.

 

ـ ما هذه الترّهات؟!؟ تابع.

 

ـ أخبرَتني تلك المرأة عن أناس حصَلَ الشيء نفسه معهم، ولَم يهتمّوا بالآخرين فعاقبَهم الله بأن أخَذَ منهم أغلى ما لدَيهم. لا أُريدُكِ أن تموتِي يا ماما أو أن تصيري كسيحة!

 

ـ كيف لكَ أن تُصدّق هذا الكلام؟ إنّكَ شاب جامعيّ ولست ولدًا صغيرًا.

 

ـ وما أدراكِ أنّها على خطأ؟ ماذا لو كان ما تقوله صحيحًا؟ لماذا إذًا وجدتُ نفسي في الغرفة نفسها؟

 

ـ لأنّ هذا القسم مِن المشفى مُخصّص لضحايا الحوادث، ولأنّ الشبّان في سنّكَ وسنّ خليل يُصابون بحوادث سيّارة أم درّاجة!

 

ـ لكنّ خليل بحاجة إليّ يا ماما... هو إعتادَ على وجودي، فأنا أُعطيه حمّامه وأُحضّرُ له طعامه وأُحدّثُه.

 

ـ ماذا؟ تفعل كلّ ذلك خلال زياراتكَ؟!؟

 

ـ في البدء كنتُ فقط أُجالسُه، لكنّ أمّه أقنعَتني بأن أهتمّ به فعليًّا. هو بمثابة أخ لي، الأخ الذي أفتقِدُه.

 

ـ تلك المرأة تستغلُّكَ يا بُنَي، وما هي تفعلُه هو تأمين رفيق ومُمرّض لإبنها في حال حصل لها مكروه. هذا تلاعب بكلّ ما للكلمة مِن معنى. ليس هناك مِن مانع بأن تزورَ شابًّا كسيحًا مِن وقت لآخر، لكن لا يجوزُ عليكَ تضييع مُستقبلكَ ونفسكَ عقابًا على شيء لَم تفعله. وماذا عن مُستقبل خليل؟

 

ـ ليس لدَيه مُستقبل يا ماما. المسكين...

 

ـ ماذا؟!؟ هناك الملايين مِن الكسيحين الذين لدَيهم شهادات ووظائف ويتزوّجون ويُنجبون، ناهيكَ عن الرياضيّين منهم الذين يربحون الجوائز العالميّة! ما تفعله أمّ خليل بابنها هو خطيئة كبرى، لأنّها بذلك تُبقيه مُحبطًا لا أمَل له بالحياة، بدلاً مِن تخفيف الصدمة عليه وحثّه على المضيّ إلى مرحلة الأمَل والمُثابرة. لا أدري إن كانت هي جاهلة أم أنانيّة، إلا أنّني مُتأكّدة مِن أنّها إستغلاليّة وماكرة لِتتلاعَب بعواطفكَ، وتُضيّعُ عليكَ حياتكَ مِن أجل ما في بالها. إسمَع... إذهب إلى خليل وأفعَل الصواب.

 

ـ ماذا تعني يا ماما؟

 

ـ شجِّعه وازرَع في قلبه الأمَل، وبيّن له أنّ حالته صعبة ولكن ليست مُستحيلة. أخبِره عمَّن إستطاعَ إجتياز إعاقته وصارَ إنسانًا مُنتجًا وسعيدًا. لكن إيّاكَ أن تشعر بالذنب أو الإلتزام تجاهه، بل عامله وكأنّه يمتلِك قدراته الكاملة. مِن جهة أخرى، عُد إلى جامعتكَ وصحِّح مساركَ وإنجَح، فأنتَ الآخر تستحقّ مُستقبلاً مُريحًا. تستطيع مُساعدة خليل والتحضير لمُستقبلكَ في آن الواحد. لكن لا تستمِع إلى كلام أمّه أو تتأثَّر به على الإطلاق، بل إعتبرها فقط أمًّا مجروحة وقلِقة. هل تعتقِد أنّ بإمكانكَ فعل ما أطلبُه منكَ؟

 

ـ أجل.

 

اليوم يعملُ خليل في مصرف كبير، ولدَيه مهام أيضًا كبيرة، وأنا مُهندس قدير أبني مساكن جميلة. الفضل يعودُ أوّلاً لحكمة أمّي، فلولاها لَبقِيَ خليل في زاويته وأنا إلى جانبه غائصَين في كآبة لن تودي إلى أيّ مكان. نصيجة: ساعدوا المعوّق على الشعور بأنّه ليس مُختلفًا عن باقي الناس، بل لدَيه فقط صعوبة بالقيام ببعض المهام. حثّوه على الإنتاج والإنخراط في المجتمع والقيام بالانجازات، فذلك مُمكن بالفعل، صدّقوني!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button