غِرنا جميعًا مِن جمال أخينا الصغير لأنّه تلقّى دلَعًا لَم نحظَ به مِن قِبَل أمّنا، إمرأة صعبة المزاج وقاسية القلب. لِما هو وليس نحن؟ لماذا كان كلّ شيء مسموحًا له في حين جوبِهنا بالرفض لأيّ طلَب، حتى لو كان مُحِقًّا؟ ومع الوقت اعتَدنا بالرغم عنّا على هذه الديناميكيّة فكبِرنا وبدأنا نبني لنفسنا حياة خاصّة بنا. أمّا بالنسبة لأبينا، فهو لَم يكن مُهتمًّا بشيء سوى عمَله، وبالكاد كنّا نراه في البيت. أيّ أنّ دَعمنا كان التماسك ببعصنا، وهذا ما فعَلناه. وبما أنّني كنتُ الكُبرى بين اخوَتي، لعِبتُ في معظم الأحيان دور الأمّ الحنونة والأب العادل، وهكذا أصبحَ لأولاد عائلتنا، ما عدا جمال، توازن نفسيًّا شِبه طبيعيّ. كبرَ جمال ليصيرَ ولَدًا محبوبًا وفرِحًا، فكلّ شيء تمنّاه حصَلَ عليه فوضعَته أمّنا في مدرسة خاصّة بينما كنّا قد ذهبنا إلى مدارس حكوميّة، لأنّها وحسب قولها، قد شعرَتَ أنّه سيصبح ذات يوم رجُلًا مُهمّا وتُريدُ اعطاءه كلّ الفرَص المُتاحة له. وتبيّنَ أنّ أخانا الأصغر كان بالفعل ذكيًّا وفالِحًا في المدرسة خاصّة في المواد العلميّة، الأمر الذي عزَّزَ مِن ثقة أمّنا بالذي تفعله مِن أجله.
مرَّت السنوات وبدأنا نتزوّج الواحدة تلوَ الأخرى والواحِد تلوَ الآخَر حتّى أن بقيَ فقط أصغرُنا مع والدَينا. وسرعان ما نسينا ما مرَرنا به في بيت أهلنا لكثرة انشغالنا بعائلاتنا. بقيتُ على تواصل مع أهل البيت ولهذا السبب بدأتُ أنتبِه إلى نوعيّة حياة جمال. فأخي الصغير، الذي كان قد صارَ مُراهقًا وسيمًا وذكيًّا للغاية، كان بالفعل وحيدًا إذ أنّه كان مِن دون أصدقاء... على الاطلاق! وحين سألتُه عن السبب هو أجابَ: "أمّي تقولُ إنّ الوقت ليس للّهو بل للدراسة إن كنتُ أريدُ أن أصبَحَ مُهندسًا كبيرًا. على كلّ الأحوال، ما حاجتي لهؤلاء عندما تكون أمّي تملأ عالَمي؟". وجدتُ حديث جمال مُقلِقًا، فأيّ شابّ طبيعيّ يُفضّل رفقة أمّه على أصدقاء يتشاطرون أفكاره وميوله وهواياته؟ أطلَعتُ اخوَتي على الأمر لكنّهم لَم يكترِثوا لمصيره لأنّهم لَم يكونوا يُحبّونه. وحدي كنتُ أكنُّ له مودّة خاصّة بالرغم مِن فارِق العمر بيننا، فما ذنبه إن كان الولَد-الملَك لدى أمّه؟ وهل مِن أحَد يرفضُ ذلك اللقَب والامتيازات التي تأتي معه؟ لذلك قرّرتُ مُتابعة حياة أخي الأصغر، ولو عن بُعد، فمَن أكثر منّي يعرفُ أمّنا؟ لكنّني لَم افهَم لماذا هي فضّلَته علينا، هل لأنّه الأصغر وأتى بعد وقت فتعِبَت مِن ظلم أولادها؟ لا، فهي بقيَت تُسيء مُعاملتنا بعد ولادة جمال بسنوات، أيّ إلى حينا غادَرنا البيت.
تخرَّجَ أخي الأصغر مِن الجامعة وصارَ مُهندِسًا كما تقرَّرَ، وبدأ العمَل في شركة هندسيّة بفضل معارِف أبي. لماذا هذا الأخير لَم يستعمِل معارِفه العديدة لإيجاد عمَل لنا؟ بعد ذلك، إنشغَلتُ كشأن باقي اخوَتي بحياتي الخاصّة وعائلتي الصغيرة. على كلّ الأحوال لَم يحدث شيء جدير بالذكر، إلّا أنّ جمال بقيَ مِن دون أصدقاء... أو حبيبة، وذلك بالرغم مِن ذكائه ووسامته. علِمتُ أنّ زملاءه في الشركة لا يُحبّونَه على الاطلاق ولَم يُحاولوا حتّى أن يُدخلوه في حلقتهم، بل حافظو على مسافة مُعيّنة معه، وكان تفسير أمّنا أنّهم يغارون منه. كلّهم يغارون منه؟ أمر غريب حقًّا! أمّا بالنسبة لحياته الخاصّة، فألف بنت كانت لِتتمنّاه إلّا أنّني لَم أسمَع أنّه حاوَلَ التقرّب مِن أيّ منهنّ أو يُبدي اهتمامًا بالجنس اللطيف. لا رجال ولا نساء مِن حوله؟ ماذا كان يفعل بوقت فراغه إذًا؟ قرّرتُ ايجاد الجواب مُباشرةً، فزرتُ أهلي لوحدي بعد فترة جفاف مقصودة، فكلّما رأيتُ والدتي كانت تُثيرُ غضبي بكلامها القاسي، خاصّة عندما تأتي على ذكر زوجي وابنتَيّ.
إستقبلَتني أمّي ببرودة وأدخلَتني بصمت لتُعلِمَني بأنّها غاضبة منّي لأنّني قاطعتُها، وجلَستُ مع أبي الذي هو الآخَر لَم يفرَح لرؤيتي. للحقيقة كنتُ أحبُّه أكثر مِمّا أُحِبّ والدتي لكنّه، خاصّة في المرحلة الأخيرة، بدأ يُشبِه زوجته إلى حدّ كبير. سألتُ عن جمال وقيلَ لي إنّه في غرفته، فدخلتُها وتفاجأتُ كثيرًا بالذي رأيتُه! فتلك الغرفة التي كانت في ما مضى مليئة بالألعاب والكتب المُصوّرة والألوان الزهيّة صارَت شبيهة بغرفة عجوز لفقدانها الحياة والألوان. بل كان الديكور حزينًا وجدّيًّا ويقتصِر على الأمتعة الضروريّة فقط. جلستُ على السرير بينما هو كان جالسًا خلف مكتب خشبيّ قديم وسألتُه عن أحواله، فقال:
ـ أنا بخير، شكرًا. أعمَل على تصميم جديد، أنظري.
ـ جميل للغاية، أنتَ حقًّا موهوب! أُفكِّر بالذهاب لتناول الغداء في مطعم لطيف، ما رأيكَ بمُرافقتي؟
ـ أودّ الذهاب لكن عليّ أن آكُل مع والدَينا.
ـ إنّها مرّة وحيدة، تعالى!
ـ لا، لن أتركهما لوحدهما، فهذا لا يجوز. لَم أفعَل ذلك مِن قَبل ولن أبدأ الآن.
ـ أتعني أنّكَ لَم تفوِّت وجبة معهما؟!؟
ـ أبدًا، عليّ أن أبقى معهما وإلّا شعَرا بالوحدة. ألّا يكفيهما أنّكم جميعًا رحَلتم؟
ـ إنّها سنّة الحياة، يا أخي. وسيأتي يوم وتكوِّن عائلة خاصّة بكَ.
ـ لا! لن يحدثَ ذلك أبدًا! فمَن سيهتمّ بوالدَينا؟
ـ يُمكنُكَ جَلب عروسكَ إلى هنا.
ـ أمّي لا تُريدُ غرباء في بيتنا، وهي على حقّ. هي قالَت أنّ أحدكم سيُحاول الوقوف بيني وبينها وكانت على ما يبدو على حقّ! وما شأنكِ أنتِ؟!؟
ـ أُريدُكَ أن تكون سعيدًا يا أخي، وليس أكثر.
ـ أنا سعيد هكذا، صدّقيني. فماذا أطلُب أكثر مِن ذلك؟ لدَيّ عمَل جيّد براتب كبير وبيت واسِع ووالدَين رائعَين!
إبتسَمتُ في سرّي عندما سمعتُه يصِفُ والدَينا بالرائعَين لكنّني تابَعتُ:
ـ لِما لا تزورني في بيتي؟ أنتَ لَم ترَ زوجي وابنتَيّ منذ فترة طويلة جدًّا.
ـ لا أُحبّ الأولاد، للصراحة. تلك المخلوقات الصغيرة تُثيرُ غضبي واشمئزازي، فهم دائمو الحركة ويصدرون ضجّة لا أُطيقُها. دعيني أُكمِل عمَلي، مِن فضلكِ.
خرجتُ مِن بيت أهلي قلِقة للغاية، لكن ما عسايَ أفعَل، فجمال كان سعيدًا بحياته وهذا كان الأهمّ. بعد ذلك، لَم أُحاوِل التعاطي معه بهذه المواضيع، بل بقيتُ على تواصل نادِر معه. مرَّت السنوات وتوفّيَ والدُنا والتقى الأولاد كلّهم في المأتم ثمّ افترَقنا مرّة أخرى بعد أن عاتبَتنا أمّنا واسمعَتنا كلامًا مُجرِّحًا كعادتها. هي لَم تنسَ أنّ تُثني على حبّ صغيرها لها واهتمامه بها وبأبيه حتى لحظاته الأخيرة. وبعد الدفن، إنقطعَت أخبار جمال وأمّه. حاولتُ الاتّصال بالبيت العائليّ، إلّا أنّ والدتي كانت تقولُ لي في كلّ مرّة الكلمات نفسها قَبل أن تُقفِل الخط: "دعينا وشأننا". تشاوَرتُ مع اخوَتي بهذا الشأن ولَم يَبدُ أحَدهم قلِقًا مثلي، بل ارتاحوا تمامًا مِن "الثنائيّ البغيض". وحدي لَم أستسلِم، بل صمَّمتُ على أن أسأل عن والدتي وأخي الصغير.
ثمّ علِمتُ مِن جارة أمّنا أنّ هذه الأخيرة دخلَت المشفى وغادرَته لتعودَ إلى بيتها، فقرّرتُ زيارتها. فتَحَ جمال لي الباب وأدخلَني همسًا إلى البيت فأمّه كانت ترتاح بغرفتها. علِمتُ منه أنّها عانَت مِن أزمة قلبيّة، فعرضتُ عليه مُساعدتي. إلّا أنّه رفَضَ:
ـ آتي بعمَلي إلى البيت كَي لا أتركها... تصوّري لو هي ماتَت! ماذا كنتُ لأفعَل؟
ـ لدَيكَ أخوة، يا جمال.
ـ لا أُريدُ سواها! هي كلّ دُنيايَ! لن تفهَمي.
ـ بالفعل لستُ أفهَم، خاصّة تعلّقَكَ بها. فكلّ الناس لدَيهم أمّ يحترمونها ويحبّونها، لكنّهم لا يوقفون حياتهم مِن أجلها. وهي بالمُقابل لا تقبَل بأن تأخذ أولادها رهينة لها، بل تُريدُهم أن يسعَدوا بحياتهم الزوجيّة والعائليّة.
ـ لماذا لا تُحبّينها، وكذلك اخوَتي؟
ـ لأنّها لَم تكن أمًّا جيّدة، لَم تُعطِنا أيّ حنان، لَم تدفَعنا للاجتهاد لتحقيق ذاتنا، بل فعلَت جهدها لتحطيمنا. أنتَ تظنّ أنّها تُحبُّكَ، لكن أنظر إلى نفسكَ... رجُل وحيد ومُنعزِل بالكاد تبتسِم. استفق قَبل فوات الأوان يا جمال، أرجوكَ.
ـ ما هذا الكلام عن أمّنا وهي كادَت أن تموت منذ أيّام قليلة؟!؟ ألّا تخجلين مِن نفسكِ؟
هزَزتُ برأسي ودخلتُ غرفة أمّي لأجِدها نائمة أو تدّعي النوم، لستُ أدري.
زوّجتُ ابنتَيّ وحمِلَت احداهنّ وبقيَ جمال مُلتصِقًا بأمّه ويُلبّي كلّ طلباتها التي صارَت كثيرة مع السنّ والمرَض. وفي آخِر المطاف، هي فارقَت الحياة. حزِنتُ عليها، أو على نفسي، لأنّني حتّى آخِر لحظة أمِلتُ أن ترانا كأولادها وتُعطينا، ولو ليوم أو ساعة، بعض الحنان الذي افتقَدنا له. لكنّها رحلَت بعد أن دمرَّت عائلة بأكملها.
لَم أترُك جمال، بل صِرتُ أزورُه شبه يوميًّا لأرى إن كان على ما يُرام لأنّني علِمتُ كَم عنَت له أمّه. إلّا أنّه لَم يكن بحاجة لي أو لأحَد، بل بقيَ في عالَمه الخاصّ يقومُ بالطهو والتنظيف كما درّبَته والدته، وبقيَ يرسمُ الخرائط مِن على مكتبه القديم. عاشَ أخي الصغير مع شبَح أمّه، يُكلّم صورتها وكأنّها لا تزال حيّة ويطلبُ رأيها، فلقد رأيتُه يفعل ذلك أمام عَينَيّ، وكأنّ الأمر كان طبيعيًّا. أسِفتُ عليه كثيرًا، فكان مِن الواضح أنّه لَم يكن على ما يُرام على الاطلاق. حاولتُ جَلبه إلى بيتي ليعيش معي وزوجي لكنّه نظَرَ إليّ باندهاش قائلًا: "تُريدين أن أترك أمّنا؟ ومَن سيبقى معها؟!؟". سكتُّ والدمع يملأ عَينَيّ، فكان مِن المفروض أن يحظى جمال بحياة طبيعيّة، أن يسعَد ويفرَح ويرقص ويُحِبّ ويُنجِب. وبدلًا مِن ذلك هو كان أسير امرأة لَم تفلِت به حتّى بعد مماتها.
ومنذ حوالي السنتَين، وقَعَ جمال في البيت وكسَرَ عظامه ولَم يعرِف به أحد. ولو لا اتّصالاتي المُتكرِّرة وقلَقي على عدَم الحصول على إجابة منه، لَمات لوحده. أخذتُه إلى المشفى وهو يصرخُ "أعديني إلى البيت! لن أترُك أمّي لوحدها!"، وانتهى به المطاف بالمصحّة العقليّة، فكان مِن الواضح أنّه فاقِد العقل.
أزورُ جمال مرّة في الأسبوع في المصحّة وأجلِبُ له كلّ ما يُحبُّه، وهو يُكلّمني طوال الوقت عمّا فعلَته أو قالَته أمّنا، فهي لا تزال معه، تُرافقُه أينما ذهَب ومهما فعَل، كالعلَقة التي لا تفلِتُ صاحبها حتّى أن تشرَب آخِر قطرة مِن دمه. مسكين أنتَ يا جمال... مسكين.
حاورتها بولا جهشان