كنتُ قد بلغتُ الأربعين من عمري حين تزوّجتُ أخيراً. وسبب بقائي حتى هذا العمر دون زواج، لم يكن عائداً إلى قلّة جمالي أو ذكائي أو أي سبب نفسيّ، بل لأنني قضيتُ سنيناً طويلة أهتمّ بأمّي المريضة. وبما أنني كنتُ إبنتها الوحيدة وأنّ أخي كان يعيش مع عائلته في بلد بعيد، فلم يكن هناك سواي للإعتناء بها. ومرّت السنين على هذا النحو، حتى توفّت المسكينة ووجدتُ نفسي لوحدي. لم أتخيّل أن القدر سيبعث لي بعريس بهذه السرعة، فعندما إلتقيتُ بأمجد لم أتوقّع أن يطلب منّي أن أمضي باقية حياتي معه. كان هو الآخر وحيداً، بعدما فقد زوجته بحادث سيّارة. أولاده كانوا جميعاً متزوّجين ويعيشون هنا وهناك وشعر أنّه بحاجة لرفيقة وحبيبة. قبِلتُ عرضه لأنّه أعجبني ولأنني كنتُ قد بلغتُ سنّاً صعباً وأدركتُ أنّها قد تكون فرصتي الوحيدة. وفرِحَ الجميع وتمنّوا لنا السعادة والهناء. وبعد شهر عسل قضيناه في البندقيّة، رجعنا إلى بيته لنبدأ مشوار حياتنا سويّاً.
قبل زواجنا كان قد أخذني أمجد إلى منزله لأرى أين سأعيش معه وقال لي:
- هذا المكان سيصبح منزلكِ... يمكنكِ تغيير أي شيء فيه... فأنتِ سيّدة المكان.
فعندما وصلنا قررتُ شراء أشياء جديدة للبيت والتخلّص من أخرى كان قد مرّ الزمان عليها. ولم أتصوّر أبداً أنّ هذا الأمر سيزعج زوجي ويجعله يصرخ بوجهي:
- ماذا فعلتِ؟؟؟ من أذنَ لكِ بتغيير المكان؟!؟
- أنتَ! أنسيتَ ما قلته لي؟ وحتى لو لم تفعل فأنا أعيش هنا أيضاً ويحقّ لي أن أضع بصمتي في بيتي! هل فقدتَ صوابكَ؟
هدِئَ قليلاً وقال:
- أنا آسف... ولكن منذ وفاة نجاة لم يحرّك أحد شيء من مكانه... أعذريني...
وقبّلني وعيناه مليئة بالدموع. وبالطبع عذرتُه، فكنتُ أعلم كم تألّمَ عندما ماتَت زوجته. ولكنني بقيتُ مصرّة على إثبات وجودي في المنزل.
وإعتقدتُ أنّ المسألة حُلَّت وأننا سنستطيع الإستمتاع بحبّنا بهدوء، حتى ذلك النهار حيث رآني أتحضّر للذهاب إلى حفلة ميلاد صديقة. كنتُ أرتدي فستاناً أحمراً وعندما وقفتُ أمامه لأخذ رأيه نظر إليّ بتمعّن وقال لي:
- جميل جداً... لو كان شعركِ مرفوعاً... دعيني أريكِ كيف...
ووقفَ ورائي ورفعَ شعري ونظرنا سويّاً في المرآة ورأيتُ بسمة عريضة قد إرتسمت على وجهه:
- كم أنتِ جميلة هكذا...
فقررتُ أن أبقي شعري هكذا وذهبتُ إلى صديقتي. ولكن في اليوم التالي وصلتني من زوجي رسالة على هاتفي تقول:
- لاقيني على هذا العنوان. سأنتظركِ هناك. قبلات.
إستغربتُ هذا الغموض وإعتقدتُ أنّه قد حضّرَ لي مفاجأة تعبّر عن حبّه لي. وبالفعل كانت مفاجأة ولكن من صنف آخر. العنوان كان لمحل حلاقة للسيّدات وكان أمجد واقفاً أمامه. قبّلني على خدّي وأخذ يدي ودخلنا المحل سويّاً. وبعد أن عرّفني على الحلاق جعلني أجلس على كرسي وقال لي:
- حبيبتي... أعرف مايك منذ زمن طويل وهو فنان كبير... سيهتم بجمالكِ... ثقي به وبي...
وقبِلتُ أن أضع رأسي بين يديّ ذلك المبدع وبدأ مع فريقه العمل على تلوين شعري وتسريحه. ومع أنني لم أكن معتادة على رؤية نفسي في الشعر الأشقر، فالنتيجة كانت جيّدة لدرجة أنني شكرتُ أمجد على هذه المفاجأة الناجحة.
كنتُ سعيدة لرؤية زوجي ممنوناً من مظهري ولا حظتُ أنّه زاد حماساً خلال أوقاتنا الحميمة وكأنّه يلمسني لأوّل مرّة. ولكن لم أكتشف السبب إلا من بعد حديث حصل بيني وبين جارتي. ففي ذات يوم، بينما كنتُ عائدة من السوبرماركت، إلتقيتُ بها في مدخل المبنى. وقفَت تنظر إليّ بتعجّب وقالت لي بعد لحظات:
- عذراً... لبرهة خلتُ أنّكِ... أعني شعركِ... وجهكِ...
- ألا يعجبكِ لون شعري الجديد؟ أعلم أنّه فاتح بعض الشيء ولكن الجميع يقول لي أنني أبدو جميلة به خاصة أمجد.
- ليس لديّ أدنى شكّ بأنّه ممنون... وأنا شبه متأكدّة أنّها كانت فكرته... أليس كذلك؟
- كيف علمتِ؟
- لأنّكِ تشبهين نجاة... أعني المرحومة نجاة... وكأنّكِ هي... عندما رأيتكِ ظننتُ للحظة أنّها لم تمت...
- إنّكِ تبالغين... إن كانت هي شقراء لا يعني أنني أشبهها.
- تعالي معي إلى منزلي... لديّ صورة لها أُخِذَت عندما كنّا مجتمعين في عيد ميلادي.
- فكرة جيّدة فأنا لم أرَ يوماً صوراً لها.
وذهبنا إلى منزل جارتي وعندما أرَتني الصورة خلتُ أنني أرى نفسي. وفي لحظة فهمتُ أشياء كثيرة... كان أمجد قد إختارني بسبب شبَهي لها ولم يكن ينقصني سوى لون الشعر لكي تقوم نجاة من بين الأموات من خلالي. إستأذنتُ من الجارة وعدتُ إلى الشقّة والحزن يملئ قلبي. وبعد أن فكّرتُ مليّاً ذهبتُ إلى الحلاق وطلبتُ منه أن يعيد لي لون شعري وأن يقّصه. أردتُ من ذلك أن أبتعد قدر المستطاع عن شبهي لِنجاة.
وإنتظرتُ عودة أمجد وحين دخلَ من الباب ورآني إرتسمَت على وجهه علامات الإستياء ممزوجة بخيبة أمل. سكَتَ مطوّلاً ثم دخلَ غرفة النوم وأقفلَ الباب وراءه. لم أتوقّع ردّة فعله هذه، فتخيّلتُ أنّه سيصرخ بوجهي ويجادلني، لذا كنتُ قد حضُرتُ أجوبة وحجج وإتّهامات. وبما أنني كنتُ أعلم أنّ المسألة لم تُحل بعد وأنّه سيكون لها ذيول، دخلتُ الغرفة وراءه لنسويّ الوضع. فقلتُ له بهدوء:
- إلى متى كنتَ تظنّ أنّ لعبتكَ ستستمر؟ كان لا بدّ أن يأتي يومٌ وأعرف الحقيقة... أنا أفهم تعلّقكَ بالمرحومة ولكن الواقع هو أنّها ماتت ولن ترجع... وإذا ظننت أنّه بإمكانكَ ردّها من عالم الأموات فهذا مستحيل... لديّ سؤالاً واحداً.... هل تزوّجتني لأنني أشبهها؟
- نعم...
- لهذا السبب فقط؟
- نعم...
- يعني هذا أنّك لا تكنّ لي أنا أيّ شعور... الآن فهمتُ لماذا طلبتَني للزواج بهذه السرعة... ما فعلتَه هو بمثابة خطيّة كبيرة، فأنتَ لم تحاول فقط معاندة إرادة الله، بل ضحكتَ على إنسانةٍ أحبّتكَ فعلاً وربطَت مصيرها بكَ. أي شخص يفعل هذا؟ كم أنتَ أنانيّ!
- لو تسمعين منّي وتفعلين ما أطلبه منكِ، أعدكِ بحياة هنيئة مليئة بالحب والغرام. سأعطيكِ كل ما تطلبه نفسكِ!
- كل ما أريده هو حبّكَ لي أنا...ولكنني أفضّل أن أبقى من دونكَ، على أن أقضي حياتي أمثل أدوراً! وداعاً!
وهكذا انفصلنا وذهبَ كلٌ منّا في طريقه. لزمني وقت طويل لأتخطى مرحلة الطلاق ونسيان زواجي الفاشل وذلك الشخص المريض. واليوم أنا أعيش قصّة حب مع رجلٍ صادق ومحبّ عرفَ كيف ينسيني أنني كدتُ أصبح بديلةً لشبح إمرأة أخرى.
حاورتها بولا جهشان