كانت الناس تلقَّب أبي بِ "الشيخ مازن" لِكثر تقواه ومعرفته العميقة في الدين، ولأنّه عمِلَ جهده أن يمشي على تعاليم الله وألاّ يغضبه يوماً. ولكنّ قلبه بقيَ تعيساً حتى أن أنجبَت له أمّي أخيراً ولداً.
فحين فتَحَ أخي سامر عينَيه على الدنيا صَرَخ والدي: "الحمد لله! الحمد لله! أهديكَ ابني يا ربيّ...سيخدمكَ هذا الولد حتى آخر أيّامه." ولأنّ أبي لم يكن يمزح بهكذا أمور أخذَ يدرّب سامر منذ ما بدأ الكلام. وحمّلَه كتب دينيّة وحفّظه الأيات وعلّمه التفسيرات. وحين بلغَ أخي سنّه السابع أصبح يعرف غيباً ما لن يصل إليه رجل ناضج.
ولكنّ سامر لم يكن يلعب مع أصدقائه كسائر الأولاد ولم يكن مسموح أن يكون له أي اهتمام سوى الدين. وكانت أمّي تقول دائماً لأبي:
ـ أتركه يعيش سنّه...لقِّنه ما تريده عندما يكبر قليلاً...
ـ أبداً... أريده أن يوهب نفسه لله.
ـ لم يوهب نفسه لأحد... أنظر كم هو تعيس خاصة عندما تذهب أخواته إلى المدرسة... لِما لا ترسله معهنّ؟
ـ ليتعلّم الرذائل؟
ـ وهل التاريخ والجغرافيا والأدب والرياضيّات رذائل؟
ـ كلمة الله هي ما يحتاج أن يعرف... على كل حال هذا ليس مِن شأنكِ... لستِ سوى إمرأة... أنا الرجل وأعلم ما عليّ فعله بإبني... اهتمّي أنتِ ببناتكِ.
ـ أخاف على إبني مِن تعاليمكَ الصارمة... الكبت يولّد الأنفلات... لقد ربيّنا البنات على مخافة الله واحترامه وها هنّ فتيات محترمات.
ـ قلتُ لكِ أنّني سأهتمّ شخصيّاً بِسامر... دعيني وشأني!
وكان سامر يأتي إلى غرفتنا ليموّه عن نفسه بين الدرس والدرس ويشكو مِن قلّة الترفيه:
ـ لقد سئمتُ الجلوس مع أبي طوال النهار... أريد أن ألعب... أن أحضر رسوماً متحرّكة على التلفاز... أريد أن أتسلّق الأشجار وأن أقع... لماذا أختارني أبي بالذات؟
ـ لأنّكَ ولد... وأنتظَرَكَ مطوّلاً... أنا آسفة لما يحصل لكَ... ولكن عليكَ الوثوق بأبينا فهو يعلم ما يلزمكَ.
وكبرنا جميعاً ولكنّ سامر بقيَ محجوزاً بِعالم أبي الذي لم يسمح له أن يعيش حياته كسائر الأولاد.
وعندما بلغَ أخي سن الخامسة عشر قرّر والدي أرساله إلى معهد شرعيّ خاص ليجعل منه شيخاً مميّزاً، أي ذات شهادة رسميّة ومكانة أجتماعيّة مرموقة. وحضَّر سامر حقيبته وودعنّا باكياً وذهبَ إلى المعهد. ولأنّ أخي لم يختار هذه الدعوى بل فُرِضَت عليه، نَمَت في داخله نقمة تحوّلت إلى عصيان. والكَبت الذي عاش فيه طوال طفولته أنفجر لحظة ما غادَر منزلنا.
ولم يصل سامر إلى المعهد بل نزل مِن سيّارة الأجرة أمام البوّابة وأخَذَ يمشي مع حقيبته في الطرقات حتى أن غابَت الشمس. عندها جلَسَ في مدخل بناء قيد الإنشاء ونامَ ليستفيق بعدما عادَ الناس إلى بيوتهم وخرجَ كل اللذين لديهم سبب لإخفاء أسرارهم في سواد الليل.
وإكتشفَ سامر عالماً جديداً لم يسمع به أو لم يراه بحياته لأنّه حُرِم مِن الكتب والصحف والتلفاز والإنترنت. وكل الكلام الذي سمعه مِن أبي عن القِيَم والأخلاق والواجبات بَقيَ كلمات مِن دون أمثلة واقعيّة.
لِذا أخَذت حياة سامر منعطفاً لم يتوقّعه أحد. وهكذا تعرّفَ أخي على أناس أخذوه إلى عالم الشهوة وبعد أيّام قليلة تحوّلَ مِن شاب مستقيم إلى إنسان يسعى وراء رغبات أعطَت لحياته طعماً آخراً. ولم نعرف شيئاً مِن الذي يحصل ظانّين أنّه في ذلك المعهد يدرس الدين. وكان أبي يقول للجميع:" سترون كيف عليكم تربية أولادكم." ولكنّ المسكين أُصيبَ بِخيبة أمل عظيمة عندما تلقّى اتصالاً مِن الشرطة بعد شهر مِن رحيل أخي مِن البيت:
ـ سيّد مازن ق.؟ والد سامر ق.؟
ـ أجل... ما الأمر؟ هل حصلَ مكروهاً لإبني؟ تكلّم!
ـ لا... ولكن عليكَ المجيء إلى القسم... لقد تمّ القبض عليه بعدما دخل بِشجار مع أحد بِسبب فتاة... كان ثملاً ويحمل سكّيناً.
ـ لا بدّ أنّكَ مخطئ... إبني ملاك... يدرس الدين في معهد مرموق... ليس مِن المعقول أبداً أن يقترب مِن الشرب أو النساء... هذا الشخص ليس ابني.
ـ عليكَ القدوم وفوراً فابنكَ لا يزال قاصراً.
وتوجّه أبي إلى قسم الشرطة واثقاً أنّها مسألة لغط في الشخصيّة ولكنّه فوجئ عندما رأى سامر هناك. وبعد لحظات طويلة مِن الإرباك أستطاع والدي التكلّم وسأل إبنه عن سبب وجوده في ذلك المكان المخصّص للمجرمين. عندها أجابه أخي:
ـ ليس الأمر بهذا السوء... كل ما حصل أن ذلك الرجل تحرّش بِفتاتي.
ـ فتاتكَ؟ ومنذ متى لدَيكَ" فتاة"؟ أنسيتَ ماعلّمتكَ؟
ـ صحيح أنّكَ علّمتَني عن العفّة والأخلاق... ولكنّكَ نسيتَ أن تُخبرني عن اللذّة...
ـ ماذا تقول؟ لِذّة؟ وكنتَ ثملاً أيضاً؟ أنسيتَ ما قلتُه عن الكحول؟
ـ صحيح... ولكنّكَ أخفَيتَ عنّي طعمه...
ـ ولِما لستَ في المعهد؟
ـ لأنّني سئمتُ مِن الدرس والكلام... أريد أن أرى العالم كما هو وليس كما صوّرتَه لي... أريد أن أعاشر الناس وأختلط بهم... أريد أن أمشي في الشوارع وأشم رائحة الحياة... أنا إنسان ولدَيّ شعور... لستُ آلة تبرمجها لِتصبح كما تريد.
ـ ولكنّكَ غرِقتَ بالرذيلة! تعاشر حثالة القوم!
ـ لأنّني لم أتعرّف على سواهم! لم تسمح لي يوماً بأن يكون لي أصدقاء أو أن أذهب إلى المدرسة كسائر الأولاد... حبستَني في المنزل بين الكتب والمراجع... فكان هؤلاء أوّل أشخاص حقيقّين أراهم...
ـ سآخذكَ معي إلى البيت وسترى أنّكَ ستعود كما في السابق.
ـ أعود كما في السابق؟ ألم تسمع ما قلتُه لكَ؟ أفضّل البقاء هنا!
ودفَعَ أبي كفالة أخي وعادَ به إلى البيت حيث استقبلناه بِشوق كبير. ولكن القوانين كانت ستتغيّر فلقد خسِر سامر حقّه بالتعلّم في المعهد ومركزه كإنسان خلوق وشبه مقدّس. وحجزه أبي في غرفته مع عدد مِن الكتب الدينيّة ليتعلّم منها معنى التوبة. وزادَ أستياء سامر مِن عيشته لأنّه أدركَ أنّه لن يستطيع العيش بهذه الطريقة ومع أب بعيد كل البعد عن فهم كيفيّة تربية الأولاد. فبدل أن يقرّبه منه ويحاول إستيعابه زاد والدي مِن رغبة أخي بالبحث عن سعادته في مكان آخر.
وفي ذات يوم هربَ سامر مِن البيت ولم يعد. بكينا كثيراً خوفاً عليه ولكنّ عيون أبي بقيَت جافة وقرّرَ أن ينكر ابنه لِكثرة خيبته به. أمّا مِن جانبه عاد سامر إلى أصدقائه وتابع حياة الإنحلال التي عرّفوه عليها. وبعد الشرب التعاطي مع بنات الليل جرّبَ سامر المخدّرات ما دفعه إلى السرقة للحصول على ثمَن جرعته اليوميّة.
وبعد سنة مِن تركه منزلنا علِمنا أنّه وراء القضبان. وبينما بقيَ أبي رافضاً رؤيته ذهبتُ مع والدتي إلى السجن لِزيارة أخي. وهناك بكينا مجدّداً. ولكنّ سامر بقيَ صامداً على الأقل أمامنا وطمأننا على حاله وطلبَ منا ألاّ نعود. ولكنّني لم أسمع منه وبقيتُ أزوره بإبنتظام حتى أن خَرَج أخيراً. عندها عرضتُ عليه مساعدتي بالإيجاد له عملاً شريفاً ولكنّه رفضَ قائلاً:
ـ لا يا أختي... حياتي باتت في الاتجاه المعاكس... لا تأسفي عليّ فلستُ تعيساً هكذا... لقد حلّ الضرر بي... أذهبي الآن ودعيني وشأني.
وبقيَ سامر يخرج مِن السجن ويعود إليه حتى أن حصَلَت ما أسمَيتُها بالمعجزة. فأثناء إحدى توقيفاته تعرّف إلى مرشد روحيّ يزور السجون ليعطي الأمل إلى الذين ضلّلَتهم الرذيلة. وكان هذا اللقاء بِمثابة أكتشاف روحي لدى أخي الذي أستوعَبَ أخيراً المعنى الحقيقيّ للدين ومحبّة الله. وساعَدَ هذا المرشد أخي على الحصول على عمل شريف.
وحين زارَنا أخي في أحد الأيّام كان بِصحبة إمرأة عرّفها علينا قائلاً: "خطيبتي." وتزوّجا وأنجبا وعادَت الأمور إلى مجاريها بعدما رضيَ أخيراً عليه أبي.
يا ليت كل ذلك لم يحصل لكان سامر قد ربحَ سنين مِن حياته وتجنّبَ خطر الوقوع في حفرة الإغراءات والممنوعات.
حاورتها بولا جهشان