عندما قررتُ المضي في تلك الرحلة خارج البلاد، كنتُ أنوي الإبتعاد قدر المستطاع، عن كل الذي يُذكّرني بمازن، الذي أحببتُه لدرجة الجنون، بينما هو لم يتردّد على خيانتي وتركي. وقرأتُ عن تلك الشركة السياحيّة التي تنظّم السفرات للمجموعات، وإلتحقتُ بالذين سبقوني إلى إسبانيا، لقضاء أسبوع من الراحة. وهناك أعجبتُ بالتاريخ العريق والهندسة الرائعة والأكل اللذيذ. ولحسن حظّي، لم أبقى وحيدة، بل حاوطني الجميع خاصةً فتاة من سنّي إسمها ناهدة والتي هي الأخرى كانت لوحدها. وقررنا أن نترافق حتى آخر الرحلة. كنّا نأكل سويّاً ونمضي أوقاتاً برفقة بعضنا حتى أن أصبحنا صديقات وشعرنا أنّنا نعرف بعضنا منذ وقت طويل. سألتُها عن حياتها، فقالت أنّها من عائلة متوسطة الدخل وأنّها حاصلة على إجازة في الحقوق وتعمل في مكتب في العاصمة بعيداً عن ذويها الذين يسكنون الجبل. وقمتُ بدوري بإخبارها عن قصّتي مع مازن وكيف أثّرت تلك المغامرة على حالتي النفسيّة وشجّعَتني على قراري بالسفر. وأضافَت:
- ربّما خيانة ذلك الرجل لكِ هي لخيركِ... أو لخيري... فلو لم يحصل هذا لما تعرّفتُ إليكِ... أشعر أنّنا سنصبح جدّ مقرّبتين... أعدكِ بأن أكون صديقتكِ إلى الأبد... لن أترككِ لوحدكِ وتستطعين الإعتماد عليّ في أيّ وقت وأيّ ظرف كان.
لم أسمع هكذا كلام من أحد من قبل، حتّى من أقرب الناس إليّ، فإمتلأ قلبي بالدفئ وأصبح لي صديقة حقيقيّة كاللوات قرأتُ عنها في الكتب. وبعدما عدنا من إسبانيا، بقينا طبعاً على إتّصال ودعوتها إلى بيتنا كي أعرّفها على عائلتي بعدما حكيتُ عنها لهم مطوّلاً. وكان الجميع مشوّقاً لمعرفة من تكون تلك الفتاة التي أحببتُها كثيراً وأحبّوها بإستثناء أبي الذي قال لي بعد رحيلها:
- ماذا تعرفين عنها؟
- كلّ شيء!
- حبيبتي ما زلتِ يافعة... لا يكفي أن تعاشري شخصاَ لبضعة أيّام لكي تقولي أنّكِ تعرفين عنه كل شيء... الناس لديها ماضي وأسراراً وطموحات وطباع... لو كنتُ مكانكِ لأخذتُ حذري منها.
- ولكنّكَ لستَ مكاني!
لم يكن يجدر بي أن أكلّم أبي هكذا ولكنّني كنتُ غاضبة منه، لأنّه أفسد عليّ فرحتي بعد أن نالت صديقتي الجديدة موافقة الجميع ودخلدتُ إلى النوم وأنا محتارة بأمري: هل أسمع من والدي، أم أتبع إحساسي؟ وقبل أن أغمض عينيّ تذكّرتُ أن أبي كان قد أحبّ جداً مازن وإتّضح لاحقاً أنّه رجل غشّاش لا أخلاق له. لذا قرّرتُ أن أتصرّف كما يحلو لي. وعاودتُ الذهاب إلى العمل كالمعتاد وصرتُ ألتقي بناهدة بعد الظهر أو في المساء ونذهب إلى المقاهي أو المطاعم ونقضي وقتاً ممتعاً سويّاً. كنّا نتبادل كل شيء من أصغر خبر إلى أكبر سرّ بعد أن أقسمنا لبعضنا ألّا نخبر أحد بما نتكلّم عنه، لأنّه ملكنا نحن الإثنتين. ومرّت الأيّام هكذا وكنتُ أعود دائماً إلى البيت بصحبة ناهدة التي أصبحَت فرداً من عالئتنا وكنتُ آمل أن يغيّر أبي رأيه فيها ولكنّه لم يفعل. ففي ذاك مساء بعدما إنتهينا من تناول العشاء، سألها والدي:
- ناهدة... هل عرّفتي أهلكِ إلى إبنتي؟
- كلا سيّدي... فإنّهم يعيشون بعيداً... في الجبل.
- بلدنا ليس كبيراً والذهاب إلى الجبل لن يستغرق وقتاً طويلاً... أقول هذا من باب الفضول فقط...
نظرتُ إلى أبي بغضب لأنّني شعرتُ بالإحراج من هكذا تدخّل وعملتُ على تغيير الحديث. وبعد دقائق قليلة، قرّرَت صديقتي العودة إلى منزلها فركضتُ وراءها معتذرة عن الذي حصل. قالت لي:
- أهلي ليسوا فقط بعيدين عني في المكان ولكن بأشياء أخرى كثيرة أيضاً... أنتِ محظوظة لأنّ عائلتكِ متماسكة وأفرادها يحبّون بعضهم البعض. ولكنّ الحال ليست هكذا عندنا... سآخذكِ إليهم وستعرفين ما أقصد.
وبعد حوالي الأسبوع، ذهبتُ مع ناهدة لزيارة أهلها. عند رؤيتنا تغيّر وجههم ولم أشعر بأنّه مرحّب بي، فالجميع جلس ساكتاً وبالكاد سألوا عن أحوال إبنتهم. قدّموا لنا القهوة فقط وكأنّهم يريدون أن نرحل بسرعة وهذا ما فعلناه. وفي طريق العودة بقينا صامتتين كل واحدة تفكّر بما حدث وشكرتُ ربّي أنّ ذويي أناس محبّين ولطيفين. وعندما وصلتُ البيت، أخبرتُ أبي بما رأيتُه، فهزّ رأسه وقال:
- من المؤكّد أنّها فعلَت شيئاً أو أشياء لتُغضب أهلها هكذا.
- أو أنّهم أناس غير محبّين... هذا يحصل كثيراً... لِمَ أنتَ مصرّ على وضع اللوم على ناهدة؟ هي ضحيّة الجهل والكره...
- لأنّني أعرف طبيعة أهل الجبل... هم يحبّون الضيف ويكرّمونه ولهم تقاليد جميلة إشتهروا بها... على كل حال لا تنسي ما قلته لكِ: إحذري منها.
وبعد حديثي هذا مع والدي، قررتُ ألّا أخبره شيء، لأنّ عناده لم يكن منطقيّاً ولم أعد أتحمّل تنبيهاته التي لا أساس لها. ولكنّني كنتُ سأدرك بعد فترة أنّه كان عليّ الوثوق بإحساس مَن هو أكبر وأفهم منّي. ففي ذات يوم وبينما كنتُ أتحضّر للذهاب إلى إحتفال مع أهلي، أخذتُ أفتّش عن قلادة أحبّها كثيراً لأضعها حول عنقي فلم أجدها. سألتُ الجميع عنها ولكن لم يرها أحد وإنتابني حزن كبير، لأنّها كانت هديّة من جدّتي التي تركَتها لي قبل أن تموت. وتذكّرتُ أنّني أخذتُها معي إلى إسبانيا لكي أشعر بالحنان المنبثق منها عندما كنتُ بحاجة إلى أن أنسى ما فعله بي مازن.
إتّصلتُ بناهدة لأسألها إن كانت تتذكّر إن رأتها حول عنقي آنذاك، فأجابَت أنّها لا تعرف عمّا أتكلّم وأنّها لم تراني يوماً فيها. وحين سمعتُها تقول هذا، بدأ قلبي يخفق بسرعة، لأنّها أبدَت إعجابها بالقلادة أثناء تواجدنا في الرحلة ورويتُ لها قصّتها. ولكنّني قلتُ لنفسي أنّها ربّما نسيت َالأمر بكل بساطة وذهبتُ إلى الإحتفال وإستمتعتُ كثيراً. ولكنّ شيئ بداخلي بقيَ متيقّظاً وبدأتُ أنتبه أنّني فقدتُ إلى جانب القلادة أشياء أخرى، بدأً بمبلغ صغير من المال كنتُ قد وضعتُه يوماً في حقيبة يدي وحين فتّشتُ عنه ولم أره خلتُ أنّه وقع منّي كما يحصل أحياناً. وكان هناك أحمر شفاه لم أعثر عليه وربطة شعر جميلة. عندها قررتُ أن أراقب صديقتي عن كثب دون أن تشعر بذلك، خوفاً من أن أكون مخطئة وأن أفقد صداقتها إلى الأبد. وخفتُ أن أكون أيضاً قد تأثّرتُ بموقف أبي تجاهها وأن أكون أشكّ بها من دون سبب. ولكن شاء القدر أن أعلم بالحقيقة قبل أن أخسر الكثير. ففي ذات يوم، أردتُ الذهاب إلى السوق وطلبتُ من ناهدة أن ترافقني ولكنّها رفضَت بسبب إرتباطات مهمّة، فذهبتُ لوحدي. وبعد أن إشتريتُ حاجاتي، قصدتُ مطعماً لآكل فيه ورأيتُها جالسة على إحدى الطاولات مع حبيبي السابق مازن. في البدء لم أصدّق عينيّ وعندما تأكّدتُ أنّها هي ذهبتُ إليها وقلتُ لها:
- ناهدة! أنتِ جالسة مع مازن! هو الذي كنتُ أحبّه!
- أجل... أعرف ذلك.
نظرَ إليّ بتعجّب، لأنّه لم يكن يعلم أنّ ناهدة صديقتي، أمّا هي فإكتفَت بالتحديق إليّ بتحدّ. عندها رأيتُ قلادتي في عنقها ولاحظتُ أنّها تضع أحمر الشفاه خاصتي. فصرختُ بها:
- هذه الأشياء لي! أخذتيها مّني وتريدين أخذ مازن أيضاً؟
- لم آخذه منكِ، فهو لم يكن يريدكِ وإلّا لما ترككِ... يريدني أنا... أليس كذلك حبيبي؟
لم يجب على سؤالها خوفاً منّي. ثمّ تابعَت الخائنة:
- لديكِ كل شيء، أمّا أنا فلا... ما العيب في أن تشاركينني البعض منه؟ ألسنا صديقات؟
- كم أنتِ ماكرة! أفهم الآن لماذا لا يحبّكِ أحد... حتى أهلكِ لا يريدونكِ!
- أنا التي لا تريدهم! أناس أغبياء... حاولتُ إقناعهم بأنّ هناك وسائل عديدة للحصول على مبتغاهم ولكنّهم رفضوا أن يخرجوا من حالتهم تحت ذريعة الأخلاق والقيَم! وما نفع هذه المبادئ إن كان المال والجاه غير موجودان؟ وأنتِ مثلهم... أظنّ أنّني لا أريد ان اكون صديقتكِ بعد الآن.
- أنا لا أريدكِ أيضاً... ولكن هناك شيئاً عليّ فعله قبل أن أذهب إلى غير رجعة.
ومددتُ يدي ونزعتُ القلادة من عنقها بقوّة وصرختُ لها:
- هذه هديّة من إنسانة شريفة إلى أخرى ولا يحقّ لكِ أن تدنّسيها!
وعدتُ إلى البيت باكية ألتجئ إلى أبي الذي حضنَني ونشّفَ دموعي. وبعد أن إعتذرتُ منه لأنّني لم أسمع منه، قال لي:
- هذا درس من دروس الحياة يا حبيبتي... لا تخافي ستلتقين بأناس طيّبين مثلكِ... إصبري فقط.
حاورتها بولا جهشان