لا للزواج!

اذا كنتُ قد أخذتُ القرار بالبقاء عازبًا وتمسَّكتُ به حتّى اليوم، فذلك بعد أن مرَرتُ بتجارب كثيرة أكّدَت لي أنّ الزواج ليس لي. لستُ أقولُ إنّ الزواج مشروع فاشِل، لكن قلائل هم الذين، في مجتمعنا الشرقيّ، يفهمون أنّ لي الحقّ بأخذ هذا القرار مِن دون أن أشكو مِن عاهة ما أو حالة صحّيّة. فالحقيقة أنّني إنسان ناجِح للغاية وأتمتّع بوسامة واضحة وصحّة مُمتازة. قد يقول البعض إنّ مُشكلتي هي حتمًا نفسيّة، لذا سأثبتُ لكم أنّني صحيح أيضًا نفسيًّا! قَبل أن أبدأ قصّتي، إعلموا أنّني اليوم في الستيّن مِن عمري وأنّ مهنتي هي الطبّ، وأنّني مِن عائلة معروفة ولدَيها أملاك في أنحاء كثيرة مِن البلاد.

أنا مُتأكّد مِن أنّ القارئ يسأل نفسه الآن مئة سؤال بشأني قائلاً: "ما بال ذلك الرجُل، فلدَيه كلّ شيء ليجِد شريكة حياة ويبني عائلة جميلة". أليس كذلك؟ دعوني أروي لكم تفاصيل حياتي العاطفيّة وستفهمون أكثر أسباب قراري:

قُبَيل تخرّجي مِن كلّيّة الطبّ، وقعتُ في غرام زميلة لي وبدأنا نرسمُ مُستقبلنا سويًّا. كنتُ سعيدًا إذ أنّ حياتي كانت تجري كما أرَدتُها منذ صغري، فاختياري لمهنة الطبيب جاءَ نتيجة رغبتي بإراحة الناس مِن آلامهم، بعد أن شاهدتُ جدّتي الحبيبة تُعاني لفترة طويلة مِن مرَض خبيث.

إلا أنّ خطيبتي وجدَت حبيبًا آخَر، شاب غير نافِع وبالكاد يُجيدُ القراءة والكتابة، لكنّه كان على ما يبدو يتمتّع بجاذبيّة المُغامِر. تحطّمَ فؤادي لكنّني لَم أغرَق في الحزن، بل زادَ إصراري على الوصول إلى هدَفي، الأمر الذي ساعدَني على نسيان خذلاني. تمرّنتُ في مشفىً معروف ثمّ فتحتُ عيادة لي في المؤسّسة نفسها، وبدأتُ أُداوي المرضى بتفانٍ واضح، الأمر الذي جلَبَ لي لقَب "الطبيب ذو القلب الكبير"، ومحبّة كلّ مَن عمِلَ معي.

في الفترة نفسها، تقرّبَت منّي إحدى المُمرّضات، وأعترِفُ أنّ جمالها جذبَني وكذلك حبّها لِمهنتها. تعرّفتُ إلى أهلها، أناس طيّبون استقبَلوني بمحبّة واضحة واعتبروني بمثابة ابن لهم. تمَّت الخطوبة، وكالمرّة السابقة، بدأتُ أعِدُّ المشاريع مع خطيبتي وأتصوّر حياتي معها وأولادنا المُستقبليّين. لكن قَبل موعد عقد القران بأيّام معدودة، علِمتُ مِن فاعِل خير مجهول أنّ التي كنتُ سأتزوّجها إبنة رجُل نصّاب يدّعي الأخلاق العالية. قلتُ لنفسي إنّ لا دخل لحبيبتي بأبيها، فلَم تُظهِر لي أبدًا عن قلّة أخلاق أو ميول قد تكون ورثَتها مِن والدها، إلا أنّها قالَت لي حين واجهتُها بالذي عرفتُه، لأنّني كنتُ أجِدُ صعوبة بإبقاء صلة قويّة برجُل ذي سمعة سيّئة:

 

ـ تُريدُني أن أقطَع صلَتي بأبي حين نتزوّج؟!؟

 

ـ إنّ سمعته سيّئة للغاية وأنا طبيب معروف.

 

ـ إنّه أبي! إضافة إلى ذلك، ما تُسمّيه نصبًا هو مُجرّد ذكاء.

 

ـ ذكاء؟ هو أخَذَ مال الناس بحجّة إعطائهم فوائد عالية ولَم يُعطِهم فوائد ولا حتى رأس مالهم! أين الذكاء في ذلك؟

 

ـ هو لَم يجبِر أحدًا على دخول هذه اللعبة، فما دخله إن هم أغبياء؟ فالكلّ يعلَم أنّ مسألة الفوائد هي عمليّة نصب.

 

ـ يعني ذلك أنّكِ موافقة على ما فعلَه أبوكِ؟

 

ـ أجل! ويا لَيتُه يُعيد الكرّة لنستفيد أكثر مِن سذاجة الناس!

 

وبالطبع فسختُ علاقتي بتلك الصبيّة الماكِرة، فما تُمثِّله وأبوها لا يتوافَق أبدًا مع مبادئي وأخلاقي. لَم أزعَل على الاطلاق بل شكرتُ ربّي أنّه أرسلَ لي فاعل الخَير ذاك قَبل أن أتزوّج وتصبح لي عائلة.

لَم أيأس في ما يخصّ حياتي العاطفيّة، فتلك المُمّرضة لَم تؤثِّر على عزيمتي، لِذا لَم أرفض دعوة أصدقاء لي ليُعرّفوني على صبيّة أكّدوا لي أنّها مُناسِبة لتكون زوجتي. وثِقتُ بهم لأنّهم يعرفوني جيّدًا ويعرفون ما حصَلَ معي سابقًا.

كانت أميرة جميلة ومُهذّبة وابنة أناس حقًّا مُحترمين. فهذه المرّة تكبّدتُ عناء السؤال عنها وعن ذويها لتفادي ارتكاب الخطأ نفسه. خرَجنا سويًّا بضع مرّات وأمضَينا أوقاتًا بالفعل جميلة. كنتُ أحبّ عَينَيها الواسعَتين وشعرها الطويل الأملَس وابتسامتها الصريحة والطيّبة. عرَضتُ عليها رسميًّا الزواج وهي أخذَتني إلى والدَيها لنتبادَل المحابِس. نِلتُ بركة العائلة وبدأتُ وأميرة بالتخطيط للفرَح القادِم.

وبعد أقلّ مِن شهر على الخطوبة، ماتَت أميرة دهسًا على الطريق. بكيتُها كثيرًا بعد أن أدركتُ أنّها كانت التي أبحثُ عنها. غرقتُ بالكآبة ولَم أعُد أحبّ شيئًا أم أحدًا بل اكتفَيتُ بمُزاولة مهنتي ومُداواة المرضى، فلا دخَل لهم بالذي يحصل في حياتي الخاصّة. إعتَذَرَ منّي أصدقائي لأنّهم عرّفوني على أميرة وبسببهم أحببتُها ورسمتُ المشاريع معها ومِن ثمّ فقدتُها للأبَد. أنا أيضًا لمتُهم لفترة، فلماذا لَم يتركوني وشأني آنذاك؟!؟ لكن سرعان ما عدتُ واستوعَبتُ أنّ لا أحَد له دخل في مشيئة الله. مشيئة الله... هل هو يُفهمُني أنّ عليّ أن أبقى عازبًا؟ لا، لا، إنّها صدَف وحسب!

وبعد حوالي الخمس سنوات على موت أميرة، بدأتُ أُفكِّر بالارتباط، فالوحدة صعبة خاصّة لمَن يُعاشِر باستمرار المرَض والوجَع. كنتُ جاهزًا لفتح قلبي لامرأة تُحبُّني حقًّا وتُريدُ سعادتي.

وفي تلك المرّة، إختَرتُ شريكة حياتي مِن بين مرضايَ. بالطبع كنتُ أعرفُ العديد مِن الصبايا والنساء مِن حيث عمَلي، لكنّني لَم أُفكِّر يومًا أنّهنّ إناث بل فقط أشخاص يُعانون مِن داء ما. وكانت إحداهنّ قد لفتَت انتباهي مِن حيث لطافتها وتواضعها وذكائها، ربّما لأنّها كانت أرملة وتعلّمَت الكثير عن الحياة بعد موت زوجها والعَيش لوحدها مِن دون مُعيل، أو مَن يقولُ لها ما عليها فعله ومتى. هي كانت تُعاني مِن عوارض بسيطة في الإمعاء، لكنّها كانت تأتي إليّ بصورة دوريّة لفحص شامِل. وهكذا بدأتُ أتقرّب منها بعد أن فعلتُ جهدي لتعود لرؤيتي أكثر مِن الأوّل بِحجَج عديدة. بعد فترة هي فهِمَت أنّني مُهتمّ بها على صعيد شخصيّ وتجاوبَت معي.

ماذا أقولُ عن جهان؟ كلّ خير للحقيقة، لأنّها بالفعل كانت مُميّزة بكلّ شيء. معها شعرتُ بسعادة تامّة وأمَل لا حدود له. هل يُعقَل أن أكون قد وجدتُ أخيرًا شريكة حياتي التي أبحثُ عنها منذ سنوات؟ والجواب كان نعم. لكن في تلك المرّة أخذتُ وقتي معها ولَم أُباشِر بالكلام والتفكير والتخطيط للزواج، فكان عليّ التأكّد مئة بالمئة لأنّني كنتُ أعلَم أنّ بعد جهان لن أبحَث مُجدّدًا. كانت تلك المرأة آخِر مُحاولة.

أعطَتني حبيبتي كلّ حبّها ولَم تبخل عليّ بشيء. وعلى مرّ الأيّام والأسابيع والأشهر، حدَثَ أمرٌ غريب: لَم أعُد مُهتمًّا كثيرًا بمهنتي بل أذهبُ للعيادة لرؤية بعض المرضى، وأركضُ إلى جهان كي أشبَعَ مِن حبّها قدر المُستطاع. إضافة إلى ذلك، صِرتُ أُقفِلُ هاتفي بعد الدوام، راجيًا ألا يكون أحد بحاجة إليّ ليلاً. على كلّ الأحوال، كان هناك أطبّاء كثيرون غيري، فليذهبوا إليهم إن احتاجوهم! ألا يحقُّ لي أن أكون سعيدًا عاطفيًّا ولو مرّة في حياتي؟ فالطب أخَذَ منّي كلّ أيّامي وسنيني وبفضلي شفى عدَد لا يحصى مِن الناس. أليس هناك مِن فترة مُحدّدة أستطيع فيها التوقّف عن مُتابعة وشفاء مَن هم في خطَر أو في ألَم ما؟

وفي هذه النفسيّة تابعتُ قصّة حبّي مع جهان، وتصوّرتُ نفسي معها عجوزَين مُتحابَّين بعد سنوات طويلة، وكانت تلك الصورة تحملُني على الابتسامة... لكنّني لَم أشِخ معها.

تسألون حتمًا أنفسكم لماذا وبأيّة طريقة انتهَت علاقتي بجهان. فهي لَم تمُت فجأة مثل أميرة، ولَم تكن امرأة سيّئة مثل ابنة النصّاب ولَم تخُنّي مثل زميلتي في الجامعة. فما الذي فعلَته لي جهان؟!؟ الجواب هو: لا شيء... لأنّني تركتُها بنفسي بالرغم مِن أنّها لَم تفعَل لي شيئًا على الاطلاق. هل فقدتُ عقلي؟!؟

ما حصَلَ هو أنّ في إحدى الليالي حاوَلَ مريض الاتّصال بي، لكن كما قلتُ سابقًا كنتُ أقفِلُ هاتفي. المسكين كان يشكو مِن أوجاع حادّة في صدره ومعدته، وأرادَ معرفة ما عليه فعله كونه رجُلاً يعيشُ لوحده. عندها إتّصَلَ على هاتف البيت، فكنتُ في السابق أُعطي رقمي لبعض المرضى. لسوء حظّه كنتُ خارج المنزل برفقة جهان. المسكين ماتَ مِن أزمة قلبيّة ووجدوه باردًا في الصباح. ولقد علِمتُ أنّه اتصَلَ بي حين استيقَظتُ مِن النوم في اليوم التالي وأدَرتُ هاتفي، فتبيّنَ لي أنّه خابرَني مرّات لا تُحصى، وبانَ رقمه أيضًا على هاتف البيت مرّات عديدة. لِذا إتّصلتُ به فأجابَت الجارة التي وجدَته ميّتًا بعد أن دقَّت عليه لإعطائه غرَضًا أوصاها عليه.

في اللحظة نفسها فهمتُ ما عليّ فعله. فقد ماتَ إنسان بسببي... لو أجَبتُ على اتصاله لنصحتُه بالذهاب إلى المشفى في الحال، أو بعثتُ له سيّارة إسعاف أو رحتُ شخصيًّا لاصطحابه إلى قسم الطوارئ، كما حصَلَ أن فعلتُ مع مريض آخَر. لكنّني كنتُ مُنشغلاً بنفسي وعَيش حبّي. ماتَ رجُل بسببي... كيف أعيشُ بفرَح بعد ذلك؟ كيف أنظرُ في عَينَي حبيبتي بعد ذلك؟ كيف أسمّي نفسي طبيبًا بعد ذلك؟

ترَكتُ جهان لأنّ حياتي مُلك مرضايَ وليست مُلكي، وقد اقتنعتُ بذلك أخيرًا. وما ثمَن حياة واحدة مُقابل المئات؟ تضحية بسيطة مُقارنةً بالنتائج. تركتُ حبيبتي والحبّ والرومانسيّة، لأنّ الرسالة كانت واضحة وضوح الشمس: مُهمّتي كانت العَيش مِن أجل غيري وليس مِن أجلي، وقد اقتنعتُ بذلك.

بكَت جهان كثيرًا إلا أنّها فهمِتَ سبب ما فعلتُه، وهي الأخرى شعرَت بالذنب حيال مريضي الذي ماتَ. ودّعنا بعضنا، وبعد أشهر قليلة هي سافرَت إلى أختها في الخارج ولَم أسمَع أيّ شيء عنها حتّى اليوم.

مضى على افتراقي عن جهان أكثر مِن عشرين سنة ولا أزالُ أتذكّرُها بحزن عميق، لكن سرعان ما أمسَح دمعتي حين أفكِّر كَم مِن الناس ساعدتُ وكمّيّة الآلام التي قضَيتُ عليها. أظنّ أن قدَري هو مُساعدة الناس، وأحمدُ ربّي أنّني سمِعتُ نداءه وفهمتُ الرسالة باكرًا. فلِكّل منّا مُهمّة في هذه الدنيا، البعض في إراحة أوجاع الآخرين مثلي، والبعض الآخَر في إنشاء عائلة وأولاد صالحين ومُحبّين، وهناك مَن يُساعِد أخاه الانسان بطرق مُختلفة، ربّما بتصليح سيّارته أو بناء شقّته أو أستاذ بِتلقين المعرفة...

لستُ آسِفًا على خياري بل أنا مُقتنِع به تمامًا، فمهنتي تجلبُ لي السعادة بالفعل بعد أن أزَحتُ رغبة الارتباط عنّي. وفي كلّ يوم يمرّ، أواجهُ تحدّيات جديدة ومُثيرة مع أناس مُميّزين أحبُّهم جميعًا على اختلافهم. فلقد فهِمتُ أخيرًا أنّ الحبّ هو الحياة، ليس فقط حبّ رجُل لامرأة أو العكس، فالحبّ له وجوه مختلفة ويُعطينا الفرَح بالقَدر نفسه، صدّقوني.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button