عندما علمتُ بأنّ إبنتي الصغيرة دينا مصابة بِداء السكرّي، شعرتُ أنّ سكّيناً دخلَ قلبي. فلَم أستوعب أنّ فتاة لم تبلغ الثامنة مِن عمرها ستواجه مشاكل صحيّة مدى حياتها بينما كنتُ أنا بصحّة جيّدة لا أشكو مِن أي خطب. وعندما عُدنا أنا وزوجي معها مِن عند الطبيب وعدتُها أنّ كل شيء سيجري كما يجب وأنّ المسألة تتطلّب بعض التأقلم وليس أكثر.
ولكن الواقع كان مختلفاً فكانت حالتها تستوجب حِقَن الأنسولين ومراقبة طعامها وكل ما يمكنه أن يؤثّر على نسبة السكرّ في دمها. ونظّمتُ لها برنامجاً يوميّ كامل وغيّرتُ عاداتنا في البيت مِن أجل دينا وأعلمتُ القيّمين عليها في المدرسة بأنّ إبنتي لديها حالة حسّاسة جدّاً. فعلتُ كل ما كان آنذاك إمكاني فعله مِن أجل وحيدتي وظننتُ أنّ ذلك كافٍ. ولكنّ حياتي وحياتنا كلنّا كانت ستنقلب رأساً على عقب بعد أقل مِن سنة.
حدَثَت الفاجعة بينما كنتُ أحضر صفّ في التمريض إلتحقتُ به بعد دوام عملي لكي أتعلمّ كيف أهتمّ بِدنيا وأؤمِّن لها الرعاية اللازمة وألقّنها تباعاً كل ما كنتُ سأتعلّمه. وكان فريد زوجي هو الذي يعطيها الحقنة أثناء غيابي بعدما أرَيته كيف يفعل. ولأنّه بدا مهموماً لهكذا مسؤوليّة، قلتُ له أنّ كل ما عليه هو ملء نصف الحقنة وألاّ يخاف لأنّ إبنتنا كانت شجاعة.
وفي تلك الليلة الرهيبة عدتُ ووجدتُ إبنتي نائمة فقبلّتُها على جبينها ودخلتُ السرير لكي أرتاح مِن النمَط المرهق الذي فرضتُه على نفسي. ونمتُ نوماً عميقاً وإستفقتُ في الصباح نشيطة ومستعدّة لمواجهة يوماً حافلاً بالتعب. وعندما قصدتُ غرفة دينا لأوقظها، وجدتُها شاحبة لا تتحرّك ولم تتجاوب معي عندما كلّمتُها ولا عندما بدأتُ أصفعها بنعومة على وجنتَيها. عندها علمتُ أنّ شيئاً خطيراً قد حصل وبدأتُ بالصراخ.
ركضَ فريد إلى الغرفة فنظَرتُ إليه بغضب وسألتُه:"ما الذي فعلتَه؟" ولكنّه لم يستطع إيجاد تفسير لِما يجري وأسرعنا بأخذها إلى أقرب مستشفى حيث أخبرونا أنّها واقعة في ثبات عميق وأنّهم سيجرون لها الفحوصات اللازمة. وبالطبع أطلعتُهم على مرضها وجلسنا نترقّب أيّ خبر قد يورَد عنها. وبينما كنّا ننتظر خارجاً سألتُ زوجي إن كان قد أعطاها الحقنة أم نسيَ ذلك فأجابَني أنّه فَعَل. ثم سكت مطوّلاً وأضافَ:
ـ أظنّ أنّني أخطأتُ بالمعايير...
ـ كيف؟ لقد قلتُ لك أن تملأ الحقنة حتى نصفها... لا أكثر ولا أقل!
ـ أجل... نصف الحقنة... ولكن...
ـ ما الأمر؟ تكلّم!
ـ عندما كنتُ أحضرّ الحقنة سقطَت أرضاً فتلوّثَت... ولم أجد أخرى... فتّشتُ في كل مكان إلى حين وجدتُ واحدة... أكبر حجماً...ولم أكن متأكدّاً إن كان عليّ ملؤها أيضاً حتى النصف أم لا لِذا حافظتُ على المعيار نفسه...
ـ ماذا؟ أيّها الغبّي! أعطيتَها ضعف المعيار؟!؟ منذ البدء وأنا أهتمّ بمرض دينا لوحدي ولم أطلب منك شيئاً يوماً سوى أعطائها تلك الحقنة عندما أكون غائبة! ألا أستطيع الإتكال عليكَ بشيء؟؟؟
ـ لو لم تذهبي إلى ذلك الصف لما حصل هذا!
ـ لا!ّ بل لو كان لديكَ الإدراك اللازم لما حصل هذا!
وأسرعتُ بإخبار الطبيب أنّ إبنتي تلقَّت جرعة زائدة مِن الأنسولين لكي يعلم كيف يعالجها. ولكنّه نظَر إليّ بِحزن قائلاً:
ـ المشكلة ليست فقط بالجرعة الزائدة بل بأنّها بقيَت دون مساعدة وقتاً طويلاً...
ـ ظنّنا أنّها نائمة... كيف لنا أن نعلم... ما العمل الآن؟
ـ علينا الإنتظار...
ولكنّ دينا توفَّت بعد يوم واحد بعدما توقّف قلبها الصغير عن الخفقان. وعندما أخبروني بما حصل سقطتُ أرضاً وأخذوني للمعاينة وهدّأوني وأعطوني حبوباً. ولكن كل ذلك لم يخفّف مِن مصيبتي. وعندما جاءَ فريد ليواسيني دفشتُه عنّي بقوّة وطلبتُ منه الإبتعاد قائلة:
ـ لا أريد أن أراك! لقد قتلتَ إبنتي!
ـ هي أيضاً إبنتي...
ـ ولم تستطع أن تحافظ عليها... ماذا سأفعل مِن دونها الآن؟ كيف سأعيش؟ أريد أن أموت! أريد أن أموت!
وإنهارَت أعصابي وتمنيّتُ فعلاً أن ألحق بِصغيرتي فلم يعد يربطني شيء بالحياة خاصة بعدما كرهتُ زوجي إلى أبعد حدّ. وحاوطَني الأهل والأصدقاء خلال وبعد مراسيم الدفن حيث أُغميَ عليّ أيضاً. وعشتُ فترة طويلة على المهدّءات أقضي أيّامي أبكي وأمامي فكرة واحدة وهي إنهاء حياتي. وأخذتُ إجازة مِن عملي ولم أعد أذهب إلى صفوف التمريض ولِما أفعل؟
وأثناء مكوثي في المنزل جاءَت مديرة مدرسة التمريض لِزيارتي والإطمئنان عليّ. وحين قلتُ لها أنّ حياتي لم تعد لها أيّ معنى هزَّت برأسها وقالت:
ـ أفهم حزنكِ... لديّ أولاد ولا أستطيع تخيّل ما قد أشعره إن فقدتُ إحداهم... وجَعَكِ كبير فليس هناك مِن مصيبة أكبر مِن هذه... خاصة بالنسبة للأم...
ـ أجل... أمّا بالنسبة لِفريد فالأمر يختلف.
ـ لا... جرحه كبير وذنبه أكبر ولكنّ الرجال لا يعبّرون عن ألمهم مثلنا... أشارطكِ أنّه يتعذّب أكثر منكِ فهو الذي ولو خطأً قام بقتل إبنته الوحيدة... عليكِ مساندته.
ـ أريد أن أموت!
ـ لا... الموت ليس الحلّ... بل عليكِ أن تعيشي.
ـ ولِما ولِمَن أعيش؟
ـ عيشي مِن أجل كل الأهل الذين يواجهون مشكلة السكرّي... عيشي مِن أجل كل الأولاد الذي يعانون مِن ذلك المرض... عيشي مِن أجل زوجكِ الذي يحتاج إليكِ... عيشي مِن أجل دنيا التي لا تريد ولا تقبل أن تراكِ هكذا...
ـ ماذا تقصدين؟
ـ عودي إلى المدرسة وتعرّفي أكثر على سبل الوقاية والعلاج مِن السكّري وكوني سفيرة عند الذين يعانون مثلما عانَيتِ أنتِ... عيشي لكي يعيش آخرون... إجعلي مِن موت إبنتكِ نضالاً للحياة.
و بلحظة واحدة غيّر حديث تلك المرأة مجرى حياتي، فكانت على حقّ بكل الذي قالَته. لو متُّ كما كنتُ أنوي لَذهَبَت حياتي سدىً بينما بقائي حيّة كان سينفع الكثيرين. وعدتُ إلى المدرسة ونلتُ شهادتي وقرّرتُ أن أكتب كتاباً عن إبنتي يتضمّن كل الإرشادات اللاّزمة للأهل وأخرى للأولاد نفسهم. وبعدما نُشِرَ الكتاب ونالَ تغطية إعلاميّة واسعة قمتُ بتأسيس جمعيّة تساعد الناس على صعيد يوميّ بفضل متطوّعين مِن مرضى السكرّي الذين ساعدوني بالإجابة على الإتصالات وإعطاء محاضرات في المدارس. وشعرتُ أنّ دينا لا تزال حيّة مِن خلال تلك الجمعيّة وأنّ موتها لم يكن بلا معنى وعادَت إليّ معنويّاتي لأنّني إكتشفتُ أن لديّ قضيّة أعيش مِن أجلها. وسامحتُ فريد الذي إنهارَ كليّاً بعد وفاة إبنتنا وتعلّمتُ كيف أحبّه مِن جديد. ولكنّني لم أقبل أن أنجب مجدّداً أوّلاً لأنّني لم أكن أريد بديلاً لِدينا وثانياً خوفاً مِن أن يولد الطفل مع هذا المرض الصعب.
جرحي لم يلتئم وأستطيع حتى اليوم سماع صوتها في أرجاء المنزل وأعلم أنّ يوم سيأتي وأراها مجدّداً وأنّها ستقول لي:"كم أنا فخورة بكِ يا ماما."
حاورتها بولا جهشان