لم أكن يوماً فتاة متهوّرة بل كنتُ عكس ذلك تماماً وكان الجميع يسخر من جدّيتي ويقولون لي "إبتهجي قليلاً فما زلتِ فتّية والحياة قصيرة!". لم يكن لي أصدقاء كثر في المدرسة لأنني كنتُ أستغل وقتي لأقرأ أو أساعد المعلّمة فإبتعد عنّي كلّ من يحب اللهو والبسط. وعندما دخلتُ الجامعة أخذتُ قراراً حاسماً وهو تغيير حياتي فكانت الوحدة قد بدأت تحبطني. فعمِلتُ جهدي لأتقرّب من باقي التلامذة وهنا إقترفتُ خطأً جسيماً: من بين جميع رفاقي إخترتُ الأكثر خطورة وهذا يعود بالتأكيد إلى عدم خبرتي بالناس وقلّة قدرتي على التمييز. فبدل أن أعاشر من هو مثلي ذهبتُ إلى أولئك الذين همّهم الوحيد هو الإستفزاز بأعمال ليست دائماً مقبولة.
وهكذا أصبحتُ بعد جهدٍ كبير فرداً من هذه المجموعة التي كانت تمارس نوعاً من إرهاباً نفسياً على الباقي ولها هالة مميّزة يحترمها الجميع. كنتُ فخورة بنفسي فلقد أثبتُّ للجميع أنّهُ يمكنني أن أستجذب الآخرين وأن يكون لديّ أصدقاء ومن الأفضل بينهم .
وبدأنا نخرج سويّاً إلى أماكن لم أتخيّل يوماً أنني سأراها وتعرّفتُ إلى أناس غريبي الأطوار لا نراهم إلاّ في الأفلام. وكانت غاده "رئيسة" المجموعة قد أخذتني تحت رعايتها وقررَّت أن تعلّمني كيف أكون جديرة بالإنتساب إليهم فكانت هناك شروط لدخول حلقتهم كاللباس مثلاً فإختياري يجب أن يكون عصرياً وأنيقاً لأحافظ على صورتي أمام باقي الكلّية وكانت هناك أيضاً طريقة المشي والتكلّم والنظر إلى الأخرين بإحتقار لأننا كناّ الأفضل. وظننتُ أن هذا كان كافياً لأثبت أنني أستحقّهم ولكن هذه لم تكن سوى البداية.
علِمتُ بعدها أنّ عليّ إحتساء الكحول عندما نخرج ليلاً لأنّه من المشين أن أشرب الصودا فقط كما إعتدتُ أن أفعل وبالرغم أنني كنتُ أعلم أنّ هذا ليس أمراً مستحسناً قبِلتُ معهم. وبما أنني لم أكن معتادة على الكحول كنتُ أتصّرف دون وعي خلال السهرات ولا أتذكرّ الكثير مما فعلته في الصباح التالي. ولقد لاحظت أميّ هذا التغيير الجذري بحياتي فحاولَت معرفة السبب.
قلتُ لها:
- أنا سعيدة يا أميّ .... هذا سبب تصرفي الذي تصفينه بالغريب .... فلديّ الآن أصدقاء وحياة مسليّة مليئة بالناس والنشاطات. أليس هذا ما كنتِ دائماً تريدينه لي؟
- أجل ولكن إحترسي يا حبيبتي.... ليس كل الناس جديرين أن يكونوا أصدقاء لكِ....
- أنا أعلم ما أفعله فلستُ فتاة صغيرة!
ويا ليتني سمعتُ منها ولكنني كنتُ في عمر يظنّ فيه المرء نفسه أذكى وأدرى من الآخرين. وتابعتُ مسيرتي مع "الشلّة" وبدأت الأمور تتصاعد لتبلغ حداً لم احسب حساب له. فبعد فترة جاءت إليّ غاده وقالت لي:
- لقد أحسنتِ التصّرف حتى الآن ولكن عليكِ إجتياز الإختبار الأخر... هذا إذا كنتِ تريدين حقاً أن تكوني واحدة منّا. أمّا إذا كنتِ تفضّلين البقاء مع هؤلاء الفاشلين والتافهين فيمكنكِ الإنسحاب الأن.
- لا! لا! أنا سعيدة معكم ولا أنوي ترككم والعودة إلى الحياة العاديّة. فمنذ ما بدأتُ أرافقكم أصبح لي شأناً أكبر بين باقي التلامذة الذين أصبحوا يخشونني ويحسبوا لي ألف حساب. قضيتُ حياتي منعزلة ولقد وجدتُ فيكم عائلة ثانية.
- حسناً! الليلة سأطلعكِ على كل التفاصيل ... أريد منكِ أن تعيديني بالسريّة المطلقة أو... تعلمين ما سيحصل لكِ..."
للحقيقة لم يعجبني كثيراً هذا التهديد ولكنني أنا أيضاً كنتُ أخشاها وفضّلتُ الإمتثال لتعليماتها.
وعندما جاء المساء إجتمعنا كالعادة في مقهى أصبح لنا مقرّاً آمناً وعندما إكتمل النصاب قامت الرئيسة وقالت:
- جميعكم تعلمون أنّ فرداً جديداً إنضمّ إلينا مؤخراً وعليه إثبات جدارته لنا. فسوف تفعل صديقتنا ما فعلتموه جميعاً لتثبيت الرابط الذي بيننا ولكي نضمن أنّ لا أحد سينقلب ضدّنا يوماً أو يشي بنا. سأطلب منها خلع ثيابها أمامنا لآخُذَ لها صوراً أخبّؤها معي كضمانة."
عند سماع هذا صرختُ عالياً:
- ماذا؟ أتعرّى وأقف أمامكم لتأخذي صوراً لي وأنا هكذا؟؟
- أجل فالجميع مرّ بهذه المرحلة.
- أنتم حقاً فقدتم عقلكم! ما هذه الإهانة! وكيف قبلتم أن تكونوا رهن إرادة شخص وأن تكونوا تحت رحمته هكذا؟ ناهيكم عن العار وقلّة الأخلاق بهذا الموضوع. أنا أرفض فعل هذا!
- إذاً أنتِ مطرودة!
- ولستُ نادمة على ترككم!"
وخرجتُ بسرعة من هذا المكان الخطر وقلبي يدقّ بسرعة. كيف وصلتُ إلى هذا الحد من الرضوخ؟ لحسن حظيّ أنّه بقيَت لي القدرة على التفكير والتحليل لرفض المضي بمشروعهم. لا شيء يستاهل أن أضحّي بسمعتي وإستقلاليّتي! ولا أريد معاشرة هكذا أناس يقضون وقتهم باللهو والتجارب المشبوهة وهدفهم الوحيد هو اللحاق بالملّذات.
ثم ذهبتُ إلى أميّ أطلب منها تغيير جامعتي وأخبرتها عن السبب. هنأتني على وعيي وإدراكي وأخبرتني كم كانت قلقة عليّ ولكنّها كانت تؤمن بحسن تربيتها لي. وإنتقلتُ إلى كليّة أخرى وتابعتُ تعليمي وسط أجواء سليمة حتى أصبحتُ محاميّة ناجحة. أمّا غاده فعلِمتُ لاحقاً أنّها تابعَت مسيرتها المشؤومة وغرِقَت بعالم بالمخدّرات وتمّ سجنها بتهمة التعاطي والإتجار. وعندما أفكّرُ أنّ هذا كاد أن يكون مصيري أنا أيضاً يقشعرّ بدني فثمّة شعرة رفيعة بين النجاح والفشل وبين الخير والشرّ وكل ما يستلزم الأمر هو القدرة على أخذ القرار الصحيح.
حاورتها بولا جهشان